المقاطعة x التطبیع : أین فلسطین؟! (3/4)

نیفین کنعان
وکالة القدس للانباء (قدسنا) ـ أنّ تفکّر بمحاربة التّطبیع أمرٌ یأخذک للتفکیر فی أدوات التّطبیع وأشکالها، ویجعلک تسعى لإیجاد أدوات مماثلة لمجابهتها. واجهت أحزاب المقاومة اللّبنانیة التّطبیع بأدوات الحرب الخشنة، أیّ بالسّلاح. الیوم، تغیّر شکل هذه الحرب، وتغیّرت أدواتها فباتت أکثر نعومة وإیلاما فی آن. إذاً، باتت هذه الأحزاب محکومة بتطویر أدوات مقاومتها أو الانکفاء.
ولأن الانکفاء یعنی حکما الانتحار والانهزام، طوّرت أحزاب المقاومة "منظوماتها الدّفاعیة" فی مختلف المیادین (العسکریة، النفسیة، الثقافیة، الفکریة، إلخ...) لمواجهة السّرطان الصّهیونی. "حرکة أمل" و"حزب الله" یمثّلان شریحة من أبناء هذه المقاومة، فکیف یصفان تجربتهما؟ المقاطعة فی میزان القانون اللّبنانی لدى وصولک إلى مکتب رئیس کتلة الوفاء للمقاومة النائب محمّد رعد لن تنتظر طویلا. فالرجل بالرّغم من انشغالاته "الخانقة" (بحرفیة الکلمة)، سیستقبلک "على الموعد" بکل ترحاب ومحبّة. وعند سؤالک عن معضلة إقرار قانون واضح ضدّ المقاطعة سیجیبک الرجل بهدوئه المعهود، وبکل ثقة أنّ "تطبیق المقاطعة یتجاوز القوانین المعمول بها".
فالمقاطعة "تتّصل بثقافة المجتمع"، وللأسف "مناخ المجتمع والنّظام العربیین متأثّر بریاح المصالحة". لذا من الضّروری "إشاعة ثقافة المقاومة ومناخ الممانعة والقطیعة". یشدّد النائب رعد على أنّه "لا تسامح فی التّطبیع"، فـ"کلّ من یتسامح مع هذا العدوّ إنّما یستخفّ بقضایا الأمّة وأمنها". وحزب الله "یلاحق کلّ مظاهر التّطبیع، ویدعم الأبحاث والدّراسات حول مخاطره". أمّا "اقتراح مسوّدات لتعدیل بعض القوانین اللبنانیة کقانون التّطبیع فیحتاج إلى موافقة مختلف الکتل النّیابیة".
لدى سماعک هذه الکلمات ستدرک مدى اختلاف البرلمان والشّعب اللبنانیین على تحدید العدوّ. فالکلّ یعرف أن طرح هذا المشروع لن یلاقی صدى لدى ورثة الفکر الانهزامی واتفاق 17 أیّار. عضو المکتب السّیاسی لحرکة أمل حسن قبلان، یلاقی النّائب رعد عند منتصف الطریق. إذ یؤکّد على "ضرورة تطبیق کلّ القوانین التی أقرّتها الجامعة العربیة ولجانها"، وعلى "ضرورة تدعیم هذه القوانین على المستویین الوطنی والعربی". ثقافة المقاطعة فی أدبیات حزب الله وحرکة أمل یؤکّد النائب محمد رعد أنّ التّطبیع هو شکل من أشکال الاعتراف بوجود وشرعیّة الکیان الغاصب. واعتراف لبنان أساسیّ بالنّسبة لهذا الکیان "لأنّه معبر لمختلف الثّقافات والسّیاسات".
ویضیف "المجتمعات العربیة کانت بغالبیّتها تروّج لثقافة الاستسلام للعصر الاسرائیلی السّیاسی"، وقد سجّلت "خروقات کبیرة على المستویات الاجتماعیة، الثّقافیة، الفنیّة، والاقتصادیّة". یتوسّع النائب رعد فی شرحه، فیقول "ما زلنا منذ تاریخ إسقاط 17 أیّار نحاول أنّ نطوی صفحة الخرق السّیاسی التّطبیعی". ثمّ یذکّر بالخروقات الأمنیّة التّطبیعیّة فی الثمانینیات. حینها، کانت مخابرات الجیش اللّبنانی تنسّق مع جهاز الاستخبارات الأمیرکیّة CIA للقیام بعملیّات فی لبنان. ویشدّد رعد على أنّ "حزب الله داعم أساسی للجهود الوطنیة فی مواجهة هذه الخروقات، ولا سیّما الهیئة الوطنیّة لمقاومة التّطبیع". وحول فهم حرکة أمل لمنطق المقاطعة، یؤکّد عضو المکتب السّیاسی للحرکة حسن قبلان أنّ "المقاطعة هی فکرة مرکزیة فی ثقافتنا تهدف للحفاظ على الحاجز النّفسی فی الصّراع ضدّ العدوّ الاسرائیلی".
بعدها، یستحضر موقف الإمام المغیّب السّید موسى الصّدر بعد زیارة الرئیس المصری أنور السّادات للقدس المحتلّة (1977). إذ اعتبر سماحته أنّ "النتائج الأولى لهذه الزّیارة هی انهیار الحاجز النّفسی وعودة التّضامن العربی إلى نقطة الصفر". ویؤکّد قبلان بحزم واضح أنّ "التعویل هو على هذا الحاجز النّفسی فإسرائیل لیست شیئا عادیا ومقبولا فی المنطقة". ویعتبر أن انطلاقة حرکة أمل فی مقاطعة الکیان الصّهیونی کانت عام 1976 عبر منع صهینة الشریط الحدودی. إذ تم حینها إنشاء "الجدار الطیّب" لاختراق النّسیج الاجتماعی الجنوبی من خلال المساعدات الطّبیة والانسانیّة. بعدها، یسکت قبلان هنیهة، ویردف قائلا "ما أشبه الیوم بالأمس!، الجیش السوری الحر یستفید الآن من الجدار الطّیب على تخوم الجولان المحتلّ، کما استفاد جنود میلیشیا جیش لبنان الجنوبی سابقا".
ثمّ یستشهد بکلمات الامام الصّدر المعبّرة: "إن کلّ قطرة من أدویة إسرائیل هی سمّ زعاف یسمّم أجسامنا وأجسام أولادنا، وإن کلّ من یذهب إلى مستوصفاتها إنّما یذهب إلى وکر الأفاعی والحیّات". المقاطعة الإعلامیة یؤکّد النّائب محمد رعد أنّه ضدّ ذهاب المراسلین إلى تل أبیب بحجّة البحث عن الحقیقة. ویضیف "السّیاسة الاعلامیّة للحزب تقوم على کشف کلّ الحقائق التّی یحظّر العدو الاسرائیلی إظهارها عبر التّعتیم والتّجهیل الاعلامی". ما هی سیاسة المقاطعة الاعلامیة للحزب؟ سؤال ستخجل من طرحه على ممثل لحزب عرف بإتقانه لأدوات الحرب النفسیة "فی بیانات المقاومة وبلاغاتها". ومع ذلک، یؤکّد النّائب رعد أنّ الخطاب السّیاسی والاعلامی للحزب واضح فی هذا المجال. فوسائل إعلام الحزب (قناة المنار، إذاعة النور، موقع العهد الاخباری، وسواها من المواقع الالکترونیة) تدقق فی کلّ مفرداتها الاعلامیة کی لا تنزلق إلى التّطبیع بأشکاله المباشرة وغیر المباشرة. "یکفی أنّنا انتزعنا من إعلامهم صدقیتنا وصدقیّة قائدنا" یصرّح رعد ببسمة الواثق.
کذلک، یرفض عضو المکتب السّیاسی لحرکة أمل حسن قبلان "مدّ الید للعدوّ الصّهیونی تحت أیّ عنوان"، وبخاصّة "العناوین الفنّیة والسّیاحیة والثّقافیّة". ویرى أنّ "منطق المقاطعة یتهاوى فی وسائل الاعلام العربیة تحدیدا الجزیرة والعربیة، وأمثالهما عبر استخدام مصطلح "دولة إسرائیل" بدل "کیان العدوّ". إذا یحیلک الرّجل إلى ضرورة مراجعة الخطاب الاعلامی برمّته. فهذا الخطاب سقط فی فخّ المقاطعة والفتنة بدءا من معرکة المصطلحات وصولا إلى حرب الأفکار. "کحرکة أمل نرى أنّ هذا الصراع ما زال مستمرا وبالتّالی کل مستلزماته ما زالت ضروریّة فی العسکر والاقتصاد والاجتماع والتّعلیم" یؤکّد قبلان. ویشدّد على "العدائیة للکیان الصّهیونی أکثر من أیّ وقت مضى فی ظلّ الانفجار المذهبی الطائفی فی المنطقة". أمّا وسائل إعلام الحرکة (تلفزیون NBN، إذاعة الرسالة، جریدة العواصف) فتتبنّى خطابا مقاطعا لا لبس فیه.
ویضیف قبلان أنّ "الموقف السّیاسی الحرکی الفکری لکلّ الکوادر ولرئیس الحرکة الأستاذ نبیه برّی" فهو کذلک خطاب مقاطع وواضح. ویرى قبلان أنّ هذا الخطاب یسهم فی تصلیب الموقف الشّعبی، ویستمدّ شرعیّته من خیار القاعدة الشّعبیة للحرکة فی الوقت نفسه. "سمفونیة ضرب السّیاحة" یشدّد النائب محمد رعد على ضرورة "تحدید الهویة الوطنیة التّی نرید أنّ نحملها"، مؤکّدا أن الحزب یرید "وطنا سیّدا حرّا ولیس محفظة نحملها فی حلّنا وترحالنا". أمّا تضرّر السّیاحة فـ "لن یکون أشدّ من الضّرر المتأتی عن فتح البلاد أمام مختلف الخروقات الاسرائیلیة"، وفی المقابل ستکون نتیجته عکسیّة، أیّ أنّه سیؤدّی إلى تدهور القطاع السّیاحی. یعتبر رعد أنّ "السّیاحة ذوق وعلم وإبداع"، و"لدینا فی ثقافتنا الوطنیة ما یسمح بتعزیز السّیاحة على طریقتنا".
ویرفض رعد السّیاحة القائمة على نکران ثقافة الأمة وتراثها وتاریخها بهدف "التّماهی مع ثقافة الغرب القائمة على نزعة عنصریّة إلغائیة کعنصریّة الصّهاینة". عضو المکتب السّیاسی لحرکة أمل حسن قبلان، لیس أکثر مرونة، فهو یخاطب المتذرّعین بضرب المواسم السّیاحیّة بأنّه "فات عن بالهم أنّ مرابع السّیاحة فی المنطقة برمّتها من المغرب حتّى ترکیا، وما بینهما تشهد انهیارات فی هذا القطاع". جاء کلام قبلان مبطّنا، فهو من جهة یغمز من قناة الأمن المفقود فی المنطقة تحت تأثیر الأزمة السّوریة والحراک العربی، ومن جهة أخرى، یحیلنا إلى موجات التّسطیح والتّجهیل التّی تجتاح المنطقة باسم الثّقافة والسّیاحة.
بعدها یستطرد قبلان، فیقول "إذا کان الغرب یجرّم قانونیا کلّ ما له علاقة بالنّازیّة، أدبا، وفنّا، وثقافة، لا بل حتى موقفا تحت عنوان العداء للسّامیّة، وتحت ضغط فوبیا الهولوکوست، فالأجدر بنا تحت عنوان قانا (المجزرة) وأخواتها أنّ نبنی سدودا أعلى من السّد العالی فی وجه هذا العدوّ". بعد سنوات طویلة من الاحتلال، یبدو أن العدید من ریاح التّطبیع باتت مؤثّرة غیر أنها لم تتحوّل یوما لتصبح "تغییریّة". قد یربح التّطبیع جولة، لکن معرکة الوعی محسومة النتائج سلفا لمصلحة المقاطعة. هذه المعرکة هی جزء من حرب الوجود، والتّاریخ، والتّراث، والعقل فی مقابل العدم، والجهل، والتّجهیل، والتّغریب.