فزاعة «العثمانیین الجدد».. تکتیک إسرائیل لجذب البلقان
صالح النعامی
لقد بات فی حکم المؤکَّد أن إسرائیل باتت توظِّف فزاعة عودة "العثمانیین" الجدُد فی محاولاتها بناء تحالفات دولیَّة جدیدة تستعیض بها عن التحالف السابق مع ترکیا. إن هناک الکثیر من الأسباب التی تفسر التحول الهائل فی موقف الیونان من إسرائیل، لکن مما لا شک فیه أن أحد أهم هذه الأسباب هو تدهور العلاقات الترکیَّة بین إسرائیل وترکیا فی أعقاب أحداث أسطول الحریة الأول فی أواخر مایو من العام الماضی؛ فترکیا التی کانت من أوثق حلفاء إسرائیل کانت عدوًّا لدودًا للیونان، وهذا بالضبط ما دفع النخب الحاکمة فی کلٍّ من تل أبیب وأثینا لاستغلال هذه الأحداث لفتح صفحة جدیدة فی العلاقات بین الجانبین.
فقد کان الإسرائیلیون یبحثون عن بدائل تعوِّضهم ما خسروه جرَّاء تراجع التعاون العسکری الذی کان یربط أنقرة بتل أبیب، لا سیما التدریبات الجویة والتعاون الاستخباری، وعوائد صفقات بیع السلاح وغیرها، فی حین وجدت الیونان فی هذا التطور مناسبة لاستغلال العلاقات مع إسرائیل لمواجهة الأزمة الاقتصادیة التی کانت تعصف بالیونان، والتی تفاقمت حتى بلغت مستویات خطیرة جدًّا، وقد أدرکت إسرائیل حجم الطاقة الکامنة فی العلاقات مع أثینا وعوائدها الاستراتیجیَّة على الکیان الصهیونی، فأخذت تستغلُّ تراث العداء بین ترکیا والیونان عبر التشدید على أهمیَّة تطویر العلاقات بین الجانبین فی الوقوف أمام "الأطماع" الترکیَّة.
وتشهد الباحثة الإسرائیلیة أبیراما غولان بأن النخب الإسرائیلیَّة حرصت على لفت أنظار المسئولین الیونانیین مرارًا إلى ما جاء فی کتاب وزیر الخارجیَّة الترکیَّة أحمد داود أوغلو "العمق الاستراتیجی" باعتبار أنه دلیل على توجهات أردوغان لبعث الدولة العثمانیَّة فی نسختها الحدیثة وأدواتها الجدیدة، وأن کتاب "أوغلو" یمثل فی الواقع "دلیل العثمانیین الجدد" لاستعادة النفوذ القدیم.
ولا یتردَّد الإسرائیلیون فی استغلال الرواسب التاریخیَّة الناجمة عن وقوع الیونان وبقیة دول البلقان تحت الحکم العثمانی لمئات السنین، ویعترف السفیر الإسرائیلی فی بلغاریا نحجال جالنر بأن إسرائیل باتت ترکِّز على الإرث التاریخی والثقافی فی تحفیز دول البلقان بشکلٍ عام للتعاون مع الکیان الصهیونی، إلى جانب توظیف "الإسلاموفوبیا" فی أوروبا فی محاولة بناء علاقات على أسس جدیدة مع هذه الدول.
لذا لم یکن من المستهجن أن تکون الیونان تحدیدًا الدولة الأوروبیَّة التی تنقذ إسرائیل من التداعیات التی کانت ستترتب على إبحار "أسطول الحریة 2" صوب شواطئ مدینة غزة، وتحول دون تحقق سیناریو الرعب، الذی ظلَّت تخشاه تل أبیب، والمتمثل فی المواجهة الحتمیَّة بین الجیش الإسرائیلی والمشارکون فی الأسطول، وهو السیناریو الذی سعت حکومة نتنیاهو بکل قوة لتلافیه، مع العلم أن الیونان کانت حتى وقتٍ قریب أکثر الدول الأوروبیَّة تضامنًا مع القضایا العربیَّة، ومؤازرة للشعب الفلسطینی، وکان دعم النضال الفلسطینی ضد الاحتلال أحد محاور الإجماع بین الفرقاء السیاسیین فی الساحة الیونانیَّة.
لقد کان الحزب الاشتراکی الیونانی "الباسوک"، لا سیما تحت قیادة جورجیو بباندریو، جد رئیس الوزراء الحالی جورج بباندریو، وتحت قیادة والده أندریاس بباندریو، وقد تولّیا رئاسة الوزراء فی أثینا، أکثر الأحزاب الاشتراکیَّة تأییدًا للقضیَّة الفلسطینیَّة، وکان الرئیس الفلسطینی الراحل صدیقًا شخصیًّا لأندریاس ببناندریو، ونظرًا لهذا الموقف فقد کانت الیونان آخر الدول الأوروبیَّة تقدم على إقامة علاقات دبلوماسیَّة مع إسرائیل عام 1992، وحتى عندما تَمَّ تبادل السفراء بین الجانبین، فقد ظلَّت العلاقات بین الجانبین باردة.
توظیف الاقتصاد
لکن إسرائیل لا توظّف فقط فزاعة العثمانیین الجدد، بل باتت توظف بشکل مثابر الاعتبارات الاقتصادیَّة فی سعیها لمزید من الدول إلى جانبها، حتى عندما یتبین أن تل أبیب لن تدفع مقابل ترسیخ علاقاتها مع هذه الدول، فلقد أدرک رئیس الوزراء الیونانی بباندریو أن إنقاذ الیونان من الأزمة الاقتصادیة الخانقة التی تمر بها لا یتوقف فقط على المساعدات التی یقدمها الاتحاد الأوروبی، بل إن الأمر یتطلب فی الأساس تدفق الکثیر من الاستثمارات الأجنبیَّة لهذا البلد، وبالتالی فإن حکومته بذلت جهودًا کبیرة من أجل إقناع الشرکات العالمیَّة بالاستثمار فی الیونان.
وفی الوقت الذی کان بباندریو یسعى لإقناع المستثمرین الأجانب بالتوجه للاستثمار فی الیونان کانت القیادة الإسرائیلیَّة تخرج عن طورها فی البحث عن حلول لتفادی توجه "أسطول الحریة 2" لساحل غزة، حیث إن اضطرار إسرائیل للتدخل لمنع وصوله بالوسائل العسکریَّة کان یقترن بحدوث تدهور فی مکانة إسرائیل الدولیَّة المتهاویة أصلًا، وکان یؤذن بتدهور علاقات إسرائیل مع الدول التی کان رعایاها ضمن المتضامنین الأجانب الذین کان من المفترض أن یحملهم الأسطول.
ومن أجل توظیف الأزمة الاقتصادیَّة فی الیونان، فقد حرصت حکومة نتنیاهو على التشاور مع المنظمات الیهودیَّة الرئیسة فی الولایات المتحدة لاستغلال الأوضاع الطارئة فی الیونان لصالح تل أبیب، حیث تم الاتفاق بین دیوان نتنیاهو وقادة المنظمات الیهودیَّة الرئیسیَّة على أن یتوجه وفد یمثلهم لأثینا والالتقاء ببباندریو والتعهد له بأن تسعى هذه المنظمات لإقناع الشرکات الأمریکیَّة ورجال الأعمال الیهود بالاستثمار فی الیونان، مقابل أن تمنع الیونان سفن الأسطول من الإبحار من الموانئ الیونانیَّة، وهذا ما کان بالفعل، حیث إن الحکومة الیونانیَّة عزت قرارها بمنع سفن الأسطول من الإبحار بالقول بأن هذا القرار ینسجم مع متطلبات الأمن القومی الیونانی.
ومما لا شک فیه أن الموقف الأمریکی الرسمی وموقف أمین عام الأمم المتحدة الصارم ضد توجه "أسطول الحریة 2" کان له دور فی صدور القرار الیونانی، وإلى جانب ذلک فإن نتنیاهو أبلغ بباندریو بأن إسرائیل بإمکانها أن تساعد الیونان فی الخروج من أزمتها الاقتصادیَّة بالعمل على جعل مئات الآلاف من السیاح الإسرائیلیین یتجهون للیونان بدلًا من التوجه لترکیا، التی کانت البلد الذی یفضله السائح الإسرائیلی، وأبلغ نتنیاهو بباندریو بأن هناک 400 ألف إسرائیلی یبحثون عن مکان للاستجمام فیه، وعرض علیه تسویق رزم سیاحیَّة مشترکة لکلٍّ من تل أبیب وأثینا، ومن الأسباب التی تدفع الیونان لتطویر علاقاتها مع إسرائیل هو حاجتها لدعم واشنطن فی نزاعها مع ترکیا بشأن مستقبل قبرص، وافتراضها أن التعاون مع إسرائیل سیعزِّز فرص اصطفاف الإدارة الأمریکیَّة إلى جانب أثینا.
لغة المصالح
لا خلاف على أن حکومة نتنیاهو الحالیة هی الحکومة الأکثر یمینیَّة وتطرفًا فی تاریخ إسرائیل، وهی الحکومة التی لم تراعِ أبسط قواعد التعامل الدبلوماسی والسیاسی فی استخفافها بالجهود الدولیَّة الرامیة لکسر الجمود فی عملیة التسویة السیاسیَّة، عبر مواصلة الاستیطان والتهوید.
ومع کل ذلک فإننا نلاحظ أن هذا السلوک لا یؤثر على مواقف مجموعات من دول العالم، لأن هناک التقاءً فی المصالح بینها وبین إسرائیل، فلا أحد یتحدث عن تقریر "غولدستون" الذی اتهم إسرائیل بارتکاب جرائم حرب، ولم تأخذْ هذه الدول فی الاعتبار عشرات التقاریر الأممیَّة التی اتَّهمت إسرائیل بخرق حقوق الإنسان الفلسطینی بشکل منهجی.
یفهم العالم لغة المصالح فقط، وتتحرک الدول وفق إیقاع مصالحها القومیة، ودول البلقان طورت علاقاتها مع إسرائیل لیس فقط لأن هناک التقاء مصالح مع تل أبیب، بل لأنها تدرک أن هذا السلوک لن یؤدی لإغضاب الأنظمة العربیة الرسمیة؛ لو کان النظام الرسمی العربی ینطلق من المصالح لما تجرَّأ رئیس السلطة الفلسطینیة محمود عباس على استقبال الرئیس الیونانی فی رام الله دون أن یعبِّر له -على الأقل- عن احتجاج فلسطینی رسمی على قرار الیونان بمنع سفن "أسطول الحریة" من التوجه لغزة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS