ثورة 25 ینایر بین فتنتین.. طائفیة مذهبیة واخرى امریکیة!!

محمد عبد الحکم دیاب

عندما وصفنا ثورة 25 ینایر منذ إنطلاقتها الأولى بأنها فتح جدید فی عالم الثورات؛ ذلک لأنها کانت عابرة للأیدیولوجیات ومتجاوزة للأحزاب وفوق الخلافات الدینیة، ثم وجدناها بعد ذلک متجاوزة للأجیال.. حیث شارک فیها المواطنون من مختلف الأجیال والأعمار.. کان الهدف من هذا التوصیف هو عدم النظر إلیها بمنظور تقلیدی اعتدناه ونحن نرصد ونتابع التحولات والثورات، وتنبیه قواها إلى حاجتها إلى الابتکار والاجتهاد لاستنباط مضامین وآلیات ونظم مناسبة لها کحالة لم تمر بها الثورات من قبل.

واعتقد أن أحد أهم معضلات الثورة المصریة وأزمتها هو ضغط هذا الفهم، حتى أن هناک من تصورها ثورة بلا صاحب، من هنا عجزت السلطات عن سبر أغوارها، وبدت مهمتها نقل السلطة والحکم إلى نفس القوى التی التفت وعبر عنها الحکم السابق، ونقل السلطة أو ترمیمها واستنساخها غیر إسقاط الحکم واستبداله بنظام جدید. ونرید أن نذکر أن إسقاط النظام کان وما زال مطلب الثورة، لا ینفع فیه نقل السلطة من الید الیمنى إلى الیسرى، ولا یفیده الحفاظ على جسد مهترئ قام بنیانه على الاستبداد والفساد والتبعیة والإفقار، ولولا الیقظة وحالة الفوران والزخم الواسع لتمکن حسنی مبارک من العودة إلى الحکم مجددا بشحمه ولحمه، أو بصورة محسنة وهی المحاولات الجاریة الآن.

سیاق فرید وشاذ على الثورات؛ ساعد على استمراره نشاط محموم تمارسه قوى وعناصر عدة؛ یتقدمهم اللیبرالیون الجدد، ممن احتلوا مساحة واسعة من المشهد السیاسی الحالی، وراهنوا على القوى الخارجیة، وتأکد ذلک من وثیقة الأحکام الأساسیة المقترحة فی الدستور القادم؛ الموضوعة من جانبهم. ودلت التسمیة التی أطلقوها على الوثیقة ما تتضمن من نزوع انعزالی استشراقی لا علاقة له بالوطن أو الثورة، واختاروا لها تسمیة لیست مثل تسمیات بقیة خلق الله من الوطنیین والثوریین؛ لقد قالوا عنها 'بردیة'؛ انتسابا إلى نبات البردی القدیم، وکانت أوراقه تستخدم فی الکتابة قبل ظهور صناعة الورق. ووقعت هذه 'البردیة' من 27 منظمة مدنیة وحقوقیة وطائفیة تنضح استشراقا وانعزالیة وعنصریة. ومعنى مصر بنص 'البردیة' اللیبرالیة الاستشراقیة الانعزالیة أنها 'أمة متعددة الأدیان والمذاهب والطوائف والأعراق والثقافات'. وفجأة وجدنا مصر الوطن الموحد الواحد من آلاف فسیفساء تفتقد الثقافة والهویة والشخصیة الجامعة. ونسوا أن مصر اخترعت الوحدة الجغرافیة والسیاسیة منذ الملک مینا (نارمر) حوالی عام 3200 ق م.

وهذه الفسیفساء المفترضة التی نصت علیها 'بردیتهم' یتم التعامل معها وکأنها حقیقة واقعة قامت على أشلاء ثقافة الاندماج والانصهار والتوحید، التی صاغت حالة وطنیة فریدة متمیزة وجامعة. وأرید لهذه الثقافة أن تهتز وتتلاشى بدءا بـ'الفتح الصهیونی' لمصر بتوقیع اتفاقیة کامب دیفید 1979، وهذا 'الفتح الأسود' منح هؤلاء الانعزالیین والمستشرقین إمکانیة السیطرة على مفاصل الحکم وأجهزة الإعلام والصحافة، وعلى کل ما له علاقة بغسیل المخ وتشویه الرأی العام؛ وصور لهم شیطانهم أن مصر أصبحت أمصارا، والوطن صار أوطانا، والبلد أضحت بلدانا، والشعب إنتهى شعوبا، والشخصیة توزعت شخصیات، والهویة تفتتت هویات، ومن یطلع على أدبیات ومفردات هذه المخلوقات اللیبرالیة الجدیدة یجد أنها منقولة ومترجمة مباشرة من أصولها الاستعماریة الصهیونیة؛ الساعیة لتقسیم الموحد وتفکیک المرکب فی المنطقة العربیة وما حولها.

وغالبیة هؤلاء الکاسحة؛ إن لم یکن کلهم یتهافتون على التمویل الأجنبی بروافده الأوروبیة والأمریکیة والصهیونیة. ولم تتوان جهات التمویل عن الإعلان عما تضخه فی قنوات الجماعات الحقوقیة والسیاسیة المصریة، وقد صرفت الإدارة الأمریکیة مبالغ طائلة فی فترة ما بعد 25 ینایر وحتى الآن، ومنها ما هو معلن وسبق نشره على هذه الصفحة من أسبوعین، وهو 40 ملیون دولار أمریکی، غیر اعتمادات أخرى مقررة؛ أسالت لعاب 600 شخص وجهة تقدموا للسفارة الأمریکیة بطلبات للحصول على نصیب من هذه الأموال الحرام. وهذه جزرة تعطى للمنظمات اللیبرالیة الجدیدة، حتى صارت ردیفا للضغوط الخارجیة الساعیة لإجهاض الثورة وحرفها عن مسارها السلیم. وإذا کان هذا حدث بفعل التمویل المعلن والمعروف، وهو لا یتعدى فی تقدیری واحد فی المئة مما هو غیر معروف تم ضخه خلال الشهور الستة الأخیرة. وبجانب التمویل الغربی الصهیونی هناک تمویل من نوع آخر. وهو التمویل العربی الطائفی والمذهبی؛ الذی التقت مصلحته مع التمویل الغربی، وینتهزون فرصة ضعف المناعة السیاسیة التی تعانی منها مصر فی تعطیل ووقف المد الثوری الضروری لمعالجة مشاکل الحاضر وصناعة المستقبل.

واعتقد أن الرجوع لمنابع الخطاب اللیبرالی الجدید ییسر علینا الفهم، ویزید من مستوى الاستیعاب. وعبرت عنه صحیفة هارتس الصهیونیة فی 25 آذار/مارس الماضی. من خلال تقریر لها عن الدول العربیة الجدیدة التی ستظهر فی المستقبل، وقالت أن الغرب مثل الدولة الصهیونیة یعمل على شرق أوسط منقسم ومتنازع ومتصارع فی جبهات عدة ضد القومیة العربیة والوحدة الإسلامیة، وعلیه یمکن التقدیر بأن القوى العظمى لن تحاول إحباط عملیة الانشقاق لدول المنطقة بل ستساهم فیها، وسوف یکون للدولة الصهیونیة دور مزدوج فی العملیة؛ فهی ضالعة مباشرة فی النزاع وفی إقامة فلسطین المستقلة(!!) وتصمیم حدودها، وستؤثر بقدر کبیر من تفتیت الدول المجاورة، وعلى رأسها الأردن وسوریة والسعودیة. ویرى التقریر أنها سیاسة صهیونیة صحیحة تستغل الفرص التی ینطوی علیها ظهور دول جدیدة وتعرف کیف تستغلها؛ بشکل یمکنها من توجه المسیرة المحتمة نحو زیادة قوة الدولة الصهیونیة وتوسیع نفوذها فی المنطقة، ولن تکون مصر بمنأى عن هذا التفتیت. ودلیلنا هو ما یتم من ترسیخ البنیة الثقافیة والأیدیولوجیة الخادمة للتفتیت والتقسیم والتشظی وجاء 'بردیة' اللیبرالیین الجدد معبرة عن ذلک بشکل واضح. ووفقا للتقدیر الصهیونی أن السنوات القلیلة القادمة ستشهد ظهور أعلام جدیدة على خریطة المنطقة؛ بدأت بجنوب السودان، وسیلیها کردستان فور انسحاب القوات الأمریکیة من العراق، فضلا عما یعد لفلسطین. أما لیبیا فیجری الفصل بین شرقها وغربها واستغلال تحول الثورة إلى حرب أهلیة، وبدلا من أن یحمی الجیش المنشق على حکم معمر طرابلس الثورة ویحافظ على سلمیتها، کما حدث فی مصر وتونس قام بتسلیحها وفتح أمامها باب العنف والحرب، وهذا أعطى المبرر للتدخل الأجنبی بغطاء رسمی عربی وفره عمرو موسى قبل أن رحیله من جامعة الدول العربیة. یلی ذلک فصل الصحراء عن المغرب، وعودة الیمن إلى یمنین وفصل جنوبه عن شماله، وتفکیک إمارات الخلیج، وشق مملکة شبه الجزیرة العربیة (السعودیة) بإقامة دولة للأماکن المقدسة فی الحجاز وأخرى للنفط فی الشرق، وتفتیت سوریة إلى دویلات مذهبیة وطائفیة؛ سنیة وعلویة ودرزیة، وتعمل القوى الغربیة والصهیونیة على هو ترسیخ مبدأ الإنشقاقات کأساس لحق تقریر المصیر فی البلاد المستهدفة بالتقسیم، وتتطلع الدولة الصهیونیة إلى أن یؤدی ذلک إلى إقامة علاقات جدیدة مع دول المنطقة الجدیدة، والسیاسة الخارجیة للدولة الصهیونیة کطبیعتها تؤجج الصراعات بین جیرانها العرب والمسلمین، وتفضل التعامل مع المکونات الانعزالیة والطائفیة والمذهبیة، وکلما تکاثرت هذه الکیانات الهزیلة کلما تمکنت الدولة الصهیونیة من تسییر شئون المنطقة والسیطرة علیها.. لکن هل هذا ممکن فی ظروف الفوران الثوری العارم؟ أشک فی ذلک کثیرا!

یختزل الطائفیون والمذهبیون الوطن فی طائفة لها السیادة على باقی المواطنین، ویختصرون الدین فی مذهب یجعلون له الغلبة على المذاهب الأخرى، ویحولون أئمتهم وسادتهم لملوک طوائف وأمراء مذاهب. وهنا تلتقی مصلحة التمویل الغربی الصهیونی مع التمویل السعودی الخلیجی من أجل تطبیق الخریطة الجدیدة للمنطقة، ویعملون مجتمعین على تحطیم البنیة الثقافیة والاجتماعیة والاقتصادیة للمجتمع، ونجحوا بذلک فی تولید الثورة المضادة من رحم الثورة الولیدة بسرعة غیر مسبوقة. ویرفع هؤلاء أولئک عقیرتهم باتهام شرفاء الوطن ورموز القوى الفاعلة فی الثورة بالحصول على أموال خارجیة، مع أن من یتلقون تمویلا خارجیا معروفون؛ إن لم یکن عن طریق ما ینشر فی وسائل الإعلام والصحافة الغربیة عنهم بالأسماء والأوصاف، فعن طریق الخطاب الذی یتبنونه ویعملون على بثه فی أوساط الرأی العام، وهو ما عنیناه بالخطاب الاستشراقی الانعزالی أو بالآخر الطائفی والمذهبی، أو ذلک الخطاب الثالث المتکفل بشن حرب نفسیة تعید الإحباط والیأس على أمل عودة مصر إلى ما قبل 25 ینایر الماضی.

وتلک القوى تمارس نشاطها وفی حسبانها استمرار تدنی الوعی وعدم تطوره وارتفاعه لدى المواطنین، وهو شئ غیر دقیق، بعد أن حقنت الثورة المواطنین بجرعة مکثفة للغایة من الوعی والمعرفة والمتابعة؛ فی فترة الأیام الثمانیة عشر المجیدة التی صنعت الثورة؛ أی فی الفترة ما بین 25 کانون الثانی/ینایر و11 شباط/فبرایر الماضی، وهی جرعة کانت کافیة لتغییر اهتمامات المواطن؛ نقلته من السلبیة إلى الإیجابیة، وارتقت بسلوکه ووعیه وزادت من قدرته على التضحیة ورغبته فی المشارکة. لذا وجدناه دوما ملبیا لنداء الثورة.. ساعیا إلى الخروج من أجلها.. عاملا على حمایتها، وما زال یدفع من ماله ووقته وحیاته لتستمر شعلتها متقدة ومنیرة.

ویعلم حجم القوى المتربصة بها وإمکانیاتها، ولا یرهبه ذلک، ویتمسک بشعاراتها فی الحریة والکرامة والعدل الاجتماعی، ویعلم أن ذلک یتحقق بتأکید المساواة وترسیخ معنى المواطنة وتطبیق الدیمقراطة وبث الثقافة الجامعة، وکل هذا یوحد ولا یفرق ویقوی ولا یضعف، ویزید من التماسک الوطنی ولا یقلله، ویحمی الوطن ولا یهدده لذا فعلى شباب الثورة وقواها فی هذه المرحلة المفصلیة الإعلان عن مصادر التمویل وأوجه الصرف وتفاصیله بوضوح ونزاهة، ومن یفعل غیر ذلک یضع نفسه دوائر الشک والارتیاب.

ن/25