أمریکا والقضیة الفلسطینیة ، هل هناک تحول استراتیجی فی الموقف الأمریکی؟
الدکتور محمد عبد العزیز ربیع
یشکل خطاب أوباما الذی اقترح فیه عودة الفلسطینیین والإسرائیلیین إلى التفاوض خطوة کبیرة إلى الخلف بالنسبة للموقف الأمریکی من القضیة الفلسطینیة، وذلک بالرغم من مطالبة الطرفین باعتبار خطوط 1967 أساسا لترسیم الحدود بین الدولة الفلسطینیة المقترحة وإسرائیل. إذ بدلا من تقدیم أفکار جدیدة تساعد على إحیاء عملیة التفاوض، قام أوباما بالتغاضی عن ذکر قضایا النزاع الأخرى التی لا یمکن احلال سلام دون حلها. وحیث أن أوباما یعلم تماما أن تلک القضایا هی جزء لا یتجزأ من الصراع العربی الصهیونی، فإن إهمالها یشیر إلى تغیر استراتیجی فی الموقف الأمریکی، أو ربما یؤکد موقفا أمریکیا ثابتا کنا نجهله.
نعم.. لقد طالب أوباما الطرفین بالتفاوض، لکنه وضع ما یکفی من العراقیل لفشل عملیة التفاوض قبل أن تبدأ، بل قام بالفعل بجعل احتمالات العودة للتفاوض شبه مستحیلة. ولقد جاءت العراقیل التی وضعها أوباما لأول مرة لتعکس مدى التحول فی الموقف الأمریکی من القضیة الفلسطینیة، ویمکن تحدید تلک العراقیل فی النقاط التالیة:
1. مطالبة الفلسطینیین بالاعتراف بإسرائیل کدولة یهودیة.
2. مطالبة السلطة الوطنیة الفلسطینیة بالرجوع عن الاتفاق مع حماس.
3. القول بأن إمریکا لن تسمح بتوجیه النقد لإسرائیل فی المحافل الدولیة.
إن مطالبة الفلسطینیین بالاعتراف بإسرائیل کدولة یهودیة تعنی مطالبتهم بالتنازل عن حق العودة، کما تعنی أیضا قبول أمریکا بعملیات التطهیر العرقی التی قامت بها إسرائیل منذ عام 1948 ضد الشعب الفلسطینی. وما دام هناک اعتراف أمریکی بأن إسرائیل دولة یهودیة، فإن اعترافا فلسطینیا إضافیا یعطی إسرائیل ما تحتاجه من أعذار لاستکمال عملیة التطهیر العرقی ضد الفلسطینیین وطرد عرب الداخل من بیوتهم ومدنهم وقراهم فی حیفا ویافا والرملة والناصرة والقدس وعکا وغیرها من مدن وقرى محتلة منذ عام 1948 وتهجیرهم من وطنهم. وما دامت حدود الدولة الفلسطینیة المقترحة سیتم تعدیلها لتمکین إسرائیل من ضم معظم المستعمرات الیهودیة فی الضفة الغربیة، فإن عملیات التطهیر العرقی سوف تطال العدید من القرى الفلسطینیة فی الضفة بموافقة أمریکیة. وحیث أنه لیس من الممکن لأی طرف فلسطینی أن یقبل بمثل هذه الشروط والنتائج المترتبة علیها، فإن اقتراح أوباما بالعودة لعملیة التفاوض لیس اقتراحا جدیا، بل حیلة للخروج من مأزق سیاسی داخلی، ومحاولة للتحایل على السعودیة وخداع العرب.
أما مطالبة السلطة الوطنیة بالرجوع عن الاتفاق الذی تم التوصل إلیه مع حماس، وذلک باعتبار حماس "منظمة إرهابیة"، فیعنی ببساطة أن أمریکا لا ترید أولا أن ترى الشعب الفلسطینی موحدا، ولا ترید ثانیا التوصل لاتفاق سلمی من الممکن أن یحظى بموافقة غالبیة الشعب الفلسطینی فی الضفة والقطاع. إن کافة الاطراف المعنیة تعلم تماما أن تسویة سیاسیة لا تحظى بقبول أغلبیة الشعب الفلسطینی وقواه السیاسیة لن یُکتب لها النجاح ولن تُطبق على الأرض. لذلک تبدو محاولة عزل حماس هی فی حد ذاتها محاولة لإفشال عملیة التفاوض فی حالة العودة إلیها. ومما یؤکد هذه النوایا أن أمریکا سارعت بالضغط على فرنسا لسحب مبادرتها الرامیة لجمع الفلسطینیین والإسرائیلیین بعد أن قبلها الرئیس عباس وقبل أن یرفضها نتنیاهو.
المطلوب أمریکیا إذن لیس بدء جولة مفاوضات جدیدة، بل إفشال أیة مبادرة تبدو جادة وتحمیل الفلسطینیین والعرب مسئولیة الفشل.
حین طالب أوباما، أستاذ القانون سابقا، بالاعتراف بإسرائیل دولة یهودیة، کان أوباما یخالف روح الدستور الأمریکی الذی یفصل الدولة عن الدین فصلا تاما. إن کل دولة تقوم على دین هی دولة عنصریة، تقول لمواطنیها من أتباع الدیانات الأخرى بأن الدولة لیست لهم، وأن الوطن لیس وطنهم، وأنهم لیسوا شرکاء، مما یفتح المجال أمامها لمعاملتهم کأجانب یقیمون مؤقتا فی أراضیها أو عبید لیس لهم حقوق سیاسیة أو إنسانیة. من ناحیة أخرى، حین قال أوباما إن أمریکا لن تسمح بتوجیه النقد لإسرائیل فی المحافل الدولیة جاءت أقواله مخالفة للعملیة الدیمقراطیة التی تقوم أصلا على النقد والحوار. وحین حذر أوباما الفلسطینیین من الذهاب إلى الأمم المتحدة مطالبین المجتمع الدولی بالاعتراف بهم، کان أوباما یناقض فکرة حق تقریر المصیر بالنسبة للشعوب کما تنص علیه مبادئ الأمم المتحدة.
سمعت زبغنیو برجنسکی مستشار الأمن القومی للرئیس کارتر یجیب عن سؤال حول الوضع فی کوریا قائلا "إن الوضع الحالی هو الأفضل بالنسبة لنا لأنه یخدم المصالح الأمریکیة". وهذا یعنی بوضوح بالغ أن أمریکا لا ترید حلا للمشکلة الکوریة، بل ترى مصلحتها فی بقاء الوضع المتوتر الراهن على حاله. قبل بضعة أشهر، سألت مسئولا صینیا کبیرا أثناء الحوار الفکری العربی الصینی الذی دار فی بکین عن سبب عدم قیام الصین بمساعدة کوریا الشمالیة کی تنمو وتتخلص من المجاعات والفقر، لکن المسئول لم یجبنی على سؤالی، وکأنه یقول صامتا ما قاله برجنسکی بصوت مسموع. من ناحیة ثانیة، تحتفظ أمریکا الیوم بعلاقات وطیدة مع الهند، وتتمتع بسطوة فی باکستان تسمح لها باستباحة أرض وسماء وبحار وحیاة سکان باکستان. وهذا یعنی أن أمریکا تملک ما یکفی من النفوذ للتأثیر فی مواقف الهند وباکستان لحل مشکلة کشمیر. لکن أمریکا، وعلى الرغم من إدراکها الکامل أن مشلکة کشمیر هی أهم مصادر التطرف والارهاب فی باکستان والهند، لم تحاول أن تستخدم ما لدیها من نفوذ لحل تلک المشکلة. تقودنی هذه الحقائق إلى استخلاص نتیجة واحدة تشیر إلى أن القوى الکبرى عامة وأمریکا خاصة، ترید الحفاظ على نقاط التوتر فی العالم کأوراق تفاوضیة وأدوات لإدارة الصراع مع الغیر، غیر معنیة بمصالح الشعوب الفقیرة والضعیفة، وأن الموقف الأمریکی من القضیة الفلسطینیة ربما یدخل ضمن هذا الاطار.
مما لا شک فیه أن أمریکا تعرف کل الحقائق عن المشکلة الفلسطینیة وجرائم إسرائیل وعملیات التطهیر العرقی منذ قیام ذلک الکیان العنصری فی عام 1948. کما وأن أمریکا کانت، وحتى بدایة الثمانینات، هی صاحبة القرار فیما یتعلق بالشرق الأوسط، وکانت إسرائیل تابعة لها تبعیة شبه کاملة. لکن أمریکا لم تحاول الضغط على إسرائیل واجبارها على الانسحاب حتى حدود 1967، کما فعل أیزنهاور فی عام 1956. وبسبب ما تتمتع به الصهیونیة العالمیة من ذکاء ونفوذ وتنظیم وإدارة، قامت أولا باستعمار العقل الغربی عامة والأمریکی خاصة، والتسلل ثانیا لمراکز صنع القرار فی أمریکا الواحد تلو الآخر وشراء ضمائر معظم ساستها والهیمنة على الإعلام، وبالتالی قلب المعادلة السابقة وتحویل أمریکا إلى دولة تابعة لها.
إن سیاسة " فَرّقْ تَسُدْ" التی استخدمتها بریطانیا بکفاءة عالیة لإحکام سیطرتها على نصف العالم لمدة 150 سنة متتالیة تقریبا، طورتها أمریکا وإسرائیل إلى سیاسة " جَزَّءْ َتُسْد"، أی تجزئة کل قطر إلى دویلات ضعیفة وتابعة لا تستطیع العیش دون حمایة أجنبیة. ولما کان للحمایة ثمن، فإن کل الدول التابعة لأمریکا وإسرائیل أصبحت دولا مُستعبدة، قادتها موظفین لدى المؤسسة السیاسیة الاستعماریة، ومثقفی السلطة فیها عملاء لدى مخابرات الدولة الاستعماریة، وأرضها وسماؤها وحیاة سکانها مستباحة. إن ما یجری الیوم فی العراق وباکستان وأفغانستان والسودان والضفة الغربیة یکفی لإثبات هذه النظریة.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS