الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

تقریر بالمر.. أی فضیحة قانونیة تلک؟

عبد الحسین شعبان 

 

أخیرا، وبعد ترقّب وانتظار صدر تقریر "لجنة بالمر" الخاص بالتحقیق فی العدوان "الإسرائیلی" على أسطول الحریة وسفینة مرمرة الترکیة، التی کانت تحمل مساعدات إنسانیة إلى قطاع غزّة فی محاولة لکسر الحصار غیر الشرعی المفروض علیها منذ سنوات، والذی أسفر عن استشهاد تسعة مواطنین أتراک کانوا على متنها وجرح آخرین.

وقد بدأ عمل اللجنة فی العاشر من أغسطس/آب 2010، بعد أن کان الاعتداء قد وقع فی 31 مایو/أیار من العام ذاته، وتولى رئاستها رئیس وزراء نیوزیلاندا السابق جیفری بالمر، وأسند  منصب نائب رئیس اللجنة إلى الرئیس الکولومبی السابق ألفارو أوریبی. وقد صدر التقریر فی نهایة أغسطس/آب 2011، ونشرته کاملا صحیفة نیویورک تایمز الأمیرکیة فی الثانی من سبتمبر/أیلول 2011.

وخلاصة التقریر تتضمن استنتاجات غریبة، سواء لتبریر استمرار حصار غزة بإیجاد مسوّغ قانونی له، أو "شرعنة" الإجراء الإسرائیلی بقتل المتضامنین الأتراک ومهاجمة السفینة مرمرة، حیث جاء فیه أن "الحصار البحری جاء کإجراء أمنی مشروع بهدف منع دخول الأسلحة إلى غزّة بحرا، وأن تطبیقه یتماشى مع متطلبات القانون الدولی".

وعلى الرغم من الفترة الطویلة نسبیا التی استغرقها صدور التقریر (أکثر من عام) إلا أن اللجنة لم تکلف نفسها عناء اللقاء ببعض ضحایا الجریمة الإسرائیلیة من الناجین من المذبحة، بل اکتفت بمراجعة وثائق التحقیقات التی أجرتها الحکومتان الترکیة والإسرائیلیة، ولعل بعض المواقف المسبقة لأعضائها، لا سیما رئیسها، کان وراء التحقیق المسیّس للجنة والتقریر المنحاز الذی أصدرته على أساسها.

وقد تلقت "إسرائیل" هذا التقریر بارتیاح على الرغم من نقد مخفف ورد فی سیاقه ما یتضمن استخدامها للقوة المفرطة، فکیف لها ألا تغتبط وتشعر بالرضا، بل بالزهو حین یصدر تقریر دولی یبرر عملها اللاقانونی واللاشرعی. ولعلها تدرک أکثر من غیرها أن ما قامت به هو قرصنة فی وضح النهار فی المیاه الدولیة، وجریمة حسب القانون الدولی تستحق العقاب لمرتکبیها. وهکذا تتحول الجریمة إلى عمل "مشروع"، وحین یتم انتقاد "الجانی" فمن باب رفع العتب لأنه مارس عنفا أکثر من اللازم ضد المجنی علیه!

وقد تضمن التقریر -إضافة إلى استنتاجاته المنحازة إلى جانب "إسرائیل"- ثلاث مغالطات قانونیة صارخة، المغالطة الأولى هی اعتبار حصار غزة "شرعیا"، وتتفرع عنها مغالطة ثانیة تلک التی تقول إن هذا الحصار شرعی بسبب التهدیدات الأمنیة التی تتعرض لها إسرائیل، أما المغالطة الثالثة فتلک التی تقول إن "إسرائیل فی حالة دفاع عن النفس".

وبدلا من إدانة عدوان "إسرائیل" وتحمیل الحکومة "الإسرائیلیة" مسؤولیة ذلک، دعا التقریر کلا من ترکیا و"إسرائیل" إلى تجاوز الوضع القائم من أجل الاستقرار والسلام فی الشرق الأوسط، وهو الأمر الذی أیدته الولایات المتحدة، ولیس ذلک سوى تغطیة للجریمة ودعوة لنسیان الفاعلین والجناة لتلک المذبحة، التی لم تکن سوى استمرار لمذابح غزة وحصارها.

إن اعتبار حصار غزة شرعیا هو مخالفة صریحة للقانون الدولی العام والقانون الدولی الإنسانی والقانون الدولی لحقوق الإنسان، وطبقا لهذه القواعد الدولیة فإن غزة لا تزال أراضی محتلة، ویحقّ لسکانها حق الدفاع الشرعی عن النفس، ولعل هذا الحق لهم وحدهم ولیس لمحتلیهم، کما تعتبر المقاومة بکل أشکالها، السلمیة والمسلحة، حرکات تحریر وطنیة یمنحها القانون الدولی حق الدفاع الشرعی.

وکیف یمکن المواءمة بین "دفاع شرعی" وآخر، فإمّا أن تکون غزة فی حالة دفاع شرعی وأما "إسرائیل" هی التی فی حالة دفاع شرعی، لکن العالم کله بموجب قرارات ما یسمى "الشرعیة الدولیة"، ولا سیما القرار 242 لعام 1967، والقرار 338 لعام 1973، الصادران عن مجلس الأمن الدولی، طالبا بانسحاب "إسرائیل" من الأراضی العربیة المحتلة، فکیف تکون "دولة محتلة" وتدافع عن نفسها؟! لأن دفاعها سیکون عن احتلالها، وتلک فضیحة قانونیة دولیة أخرى لیس لها مثیل.

جدیر بالذکر أن حصار غزة لم یتقرر بموجب قرارات مجلس الأمن، أو ما یسمى بالمجتمع الدولی والشرعیة الدولیة، وحتى لو تقرر بموجب هذه الجهات وتعارض مع قواعد القانون الدولی والقانون الدولی الإنسانی والقانون الدولی لحقوق الإنسان، فإنه یعتبر غیر شرعی، فما بالک والحصار مقرر من جانب طرف معتدٍ ومحتل لوحده، ویحاول أن یضع نفسه فوق القانون، مستخدما قانون القوة، فلم یصدر أی قرار بحق غزّة کعقوبة من جانب الأمم المتحدة بموجب ما یسمى بالفصل السابع (المادة 39 إلى المادة 51 حسب میثاق الأمم المتحدة)، أی بتأکید حق مجلس الأمن فی اتخاذ عدد من التدابیر بهدف امتثال الدولة المعنیة لقواعد القانون الدولی، من بینها وقف العلاقات الاقتصادیة والمواصلات الحدیدیة والبحریة والجویة... إلخ، وهو ما اتخذ بحق العراق بعد غزوه للکویت العام 1990، وهو الحصار الذی استمر لغایة العام 2003، وجرى توظیفه سیاسیا بالضد من أسبابه المتعلقة بالغزو والانسحاب.

ویعتبر الحصار جریمة ضد الإنسانیة طبقا للمادة الثانیة والمادة 51 الخاصة بالدفاع عن النفس من میثاق الأمم المتحدة، وکذلک المادتین الخامسة والسابعة من النظام الأساسی للمحکمة الجنائیة الدولیة الموقع علیها فی روما فی یولیو/تموز 1998، والتی دخلت حیّز التنفیذ فی أبریل/نیسان 2002.

إن ما ینطبق على قطاع غزة هو ذاته ما ینطبق على فلسطین کلها، أی اتفاقیات جنیف لعام 1949، وبروتوکولی جنیف الملحقین لعام 1977 وقواعد القانون الدولی الإنسانی، لأنها لا تزال تحت الاحتلال، وطالما هی أراض محتلة فمن حقها الدفاع عن نفسها، فما بالک إذا کان المتضامنون معها سلمیون ومدنیون وجاؤوا امتثالا واستجابة لنداء الضمیر الإنسانی بتوفیر کمیة من الدواء والغذاء، فستکون جریمة المحتل أکبر لأن الفعل أکثر خطورة وجسامة!

ویقع على قوات الاحتلال أصلا مسؤولیة ضمان تدفق الإمدادات الغذائیة والدوائیة والطبیة والخدمیة للأراضی المحتلة، طبقا لاتفاقیة جنیف الرابعة لحمایة المدنیین. لکن "إسرائیل" منذ نحو أربعة أعوام تفرض حصارا اقتصادیا شاملا على قطاع غزة، فی البر والبحر والجو، ویشمل هذا الحصار الغذاء إلى قلم الرصاص، ناهیکم عن الماء والدواء والوقود والکهرباء ومواد البناء، ومنع مرور الأشخاص، وجمیع أنواع البضائع وغیرها.

إن حصار غزة هو جریمة إبادة جماعیة، وجریمة ضد الإنسانیة، مثلما هو جریمة حرب ینبغی إحالة مرتکبیها إلى القضاء، ولیس محاباتهم أو تبریر فعلتهم الإجرامیة وتغلیفها بنقد لا یرتقی حتى إلى اللوم لقتلهم مدنیین وأبریاء.

لعل ما أقدمت علیه ترکیا من خطوات سیاسیة ودبلوماسیة إنما ینسجم مع قواعد القانون الدولی، خصوصا طردها السفیر "الإسرائیلی" وتخفیض درجة التمثیل إلى سکرتیر ثان، وإلغاء الاتفاقیات الأمنیة بین البلدین، تلک التی أبرمت منذ العام 1960 وبالأخص اتفاقیة ترایندت، وإعلان عزمها اللجوء إلى المحکمة الجنائیة الدولیة لرفع دعوى ضد "إسرائیل" لارتکابها جریمة قرصنة دولیة، وهی فی الوقت نفسه جریمة حرب حسب قواعد القانون الدولی الإنسانی واتفاقیات جنیف.

ولا یمکن تصوّر لجنة دولیة هدفها إصدار تقریر حول عمل إجرامی أن تخرج بما خرجت به "لجنة بالمر"، وعلینا أن نتذکّر کیف أقامت "إسرائیل" الدنیا ولم تقعدها عندما صدر تقریر غولدستون، الذی اعتبر عدوانها ضد غزة وما ارتکبته ضد المدنیین بمثابة جرائم حرب أو ترتقی لذلک، وحاولت بشتى الطرق الضغط على غولدستون لتغییر تقریره، وإن حصل بعد حین، لکن الأمر لن یغیّر من رأی اللجنة بشیء أو ینتقص من تقریرها، الأمر الذی سعت لتدارکه عند اختیار لجنة بالمر التی تبنّت الوجهة "الإسرائیلیة" للأحداث، واقتفت أثر التفسیر "الإسرائیلی" لعملها الإرهابی، وذلک کی لا یحصل معها ما حصل فی لجنة غولدستون، التی لا تزال تشعر بالضیق والتبرم کلما جاء ذکرها.

أو کما حصل معها عند صدور قرار مؤتمر دیربن العام 2001 بإدانة الممارسات الإسرائیلیة الصهیونیة ودمغها بالعنصریة، والذی تم التراجع عنه فی دیربن الثانیة التی انعقدت فی جنیف، وکذلک ما حصل عند صدور القرار 3379 العام 1975 الذی ساوى الصهیونیة بالعنصریة، واعتبرها شکلا من أشکال العنصریة للتمییز العنصری، وهو انتصار کبیر للعرب ولقضیة التحرر وضد الصهیونیة العنصریة.

 لکن هذا الانتصار تبدد، ولا سیما بعد إصرار "إسرائیل" على إعدام هذا القرار، وحصل لها ما أرادت بمجرد اختلال میزان القوى على المستوى العربی والعالمی فی 16 دیسمبر/کانون الأول العام 1991.

وعلى الرغم من أن ترکیا هی أول بلد إسلامی اعترف بإسرائیل عام 1949 وأقام أوثق العلاقات معها، لا سیما فی سنوات الستینیات وما بعدها، وهی عضو فی حلف الناتو، وفیها قواعد عسکریة أمیرکیة، لکنّ تغییرا طرأ على الموقف الترکی منذ فوز حزب العدالة والتنمیة العام 2002، حیث بدأ باتخاذ مواقف متوازنة إلى حد ما ومعتدلة، لا سیما موقفه الإیجابی ضد العدوان "الإسرائیلی" على لبنان، وضد حرب "إسرائیل" وحصارها على غزة ، الأمر الذی یتطلب تعزیز هذا الموقف واستثماره سیاسیا تبعا للمصالح المشترکة، والمنافع المتبادلة ولتعزیز العلاقات بین الأمة الترکیة والأمة العربیة.

إن موقف ترکیا الأخیر من تقریر بالمر یعدّ خطوة مهمة لتدعیم الکفاح العربی، خصوصا بعد وصول اتفاقیات أوسلو إلى طریق مسدود، وسعی القیادة الفلسطینیة للحصول على اعتراف بدولة فلسطین من الأمم المتحدة، ولذلک ینبغی تعزیز هذه المواقف والتضامن معها، سواء على المستوى الرسمی أو على المستوى الشعبی، وأظن أن هذا الموقف ممکن فی ظل الربیع العربی وبعد الإطاحة بعدد من أنظمة الاستبداد، وتحرر العدید من الشعوب العربیة من الخوف المزمن والمعتّق وشحّ الحریات وسلب الکرامة التی عانت منها سنوات طویلة.

ن/25

 

           

  


| رمز الموضوع: 143359







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)