السیادة المفقودة
عبد الحلیم قندیل
کان اللقاء مغلقا فی مکتب مسؤول أمنی مصری کبیر، وکان التقریر المعروض على مکتبه واردا من جبهة حرب حقیقیة شرق سیناء، أطلعنی المسؤول الأمنی على فحوى التقریر، بدت القصة مذهلة، فهی تتحدث عن تکرار تسلل شخص أمریکی بجنسیة إسرائیلیة یسبح بحرا من إیلات عبر خلیج العقبة إلى شواطئ جنوب سیناء، ولأربع مرات توالت، ودون أن تکون لدیه أوراق ثبوتیة من أی نوع، وبدون أی إذن للدخول، ولا تملک السلطات المصریة فرصة إتخاذ أی إجراء ضده، بدت الحالة المحددة عنوانا على حالات لاتعد ولا تحصى، حالات من الاختراق السهل المجانی للحدود، والأغرب من القصة کان فی تفسیرها، فالتقریر یعزو السبب إلى أوامر سیادیة توقف مراقبة المصریین للحدود کل لیلة، ومن ساعة غروب الشمس إلى ساعة الشروق، ویستطرد التقریر مبینا سبب عدم المراقبة اللیلیة، وهو التزامات فرضت على مصر بمقتضى ما یسمى معاهدة السلام المصریة الإسرائیلیة، التقریر العجیب أصاب المسؤول الأمنی الکبیر بالدهشة، فهو حدیث العهد بشغل وظیفته القیادیة، وقد استفز التقریر حواسه الأمنیة ومشاعره الوطنیة التلقائیة، ووضع تأشیرة حازمة على التقریر کنت شاهدا علیها، وأمر بتعیین حراسة دائمة على الحدود نهارا ولیلا، وحتى لو کان ذلک مخالفا لنصوص وملاحق معاهدة السلام. بدت الخطوة جریئة من مسؤول بارز فی الحکومة المصریة بعد الثورة، فهی تغلق ثغرة بدت کدلیل مضاف على خیانة مبارک لأبسط أبجدیات الأمن المصری، وترکه لحدود مصر مفتوحة أمام أی اختراق إسرائیلی، وبدون أدنى رقابة مصریة، وهو ما یتضمن ـ بالبداهة ـ إذن عبور لأی إسرائیلیین، أو أی أسلحة، أو أی مخدرات، وبتسهیلات تجاوز نص الوثائق المنشورة من معاهدة السلام إیاها، وتومئ إلى التزامات شفهیة إضافیة من قبل الرئیس المخلوع، تفسر ـ مع غیرها ـ سر حرارة المحبة لمبارک من قبل المسؤولین الإسرائیلیین، والذین ظهروا فی حالة الحزن الکظیم مع بدء محاکمة مبارک، وکرروا وصفهم للمخلوع بأنه الصدیق العظیم، و’أعظم کنز إستراتیجی’ على حد التعبیر المشهور للجنرال بنیامین بن ألیعازر، أو ‘أهم رجل فی حیاة إسرائیل بعد المؤسس بن جوریون’ على حد وصف شیمون بیریز رئیس إسرائیل الحالی .
والواقعة، ورد فعل المسؤول الأمنی علیها، تشیرـ فوق تأکید خیانات مبارک ـ إلى روح جدیدة فی الإدارة المصریة تجاه إسرائیل، فقد جاءت الفکرة بعد السکرة، وبدأت عملیة واسعة لإعادة فتح ملف الالتزامات الأمنیة المهینة فی سیناء، وکلها مصممة لخدمة هدف واحد، وهو صیانة أمن إسرائیل، وتفریغ سیناء من السلاح والأمن المصری، فقد جرى ـ بحسب ملاحق المعاهدة ـ تقسیم سیناء إلى ثلاث مناطق، أولها المنطقة (أ) شرق قناة السویس، وعمقها أقل من 60 کیلومترا، وتقع کلها غرب خط المضایق الاستراتیجی، وهذه هی المنطقة الوحیدة فی سیناء المسموح فیها بوجود قوات للجیش المصری، وفی صورة فرقة مشاة میکانیکیة واحدة، وبتسلیح محدد جدا، أی أن الخط الأمامی لوجود الجیش المصری محدود بمنطقة غرب سیناء، وعلى مسافة حوالی 150 کیلو مترا من خط الحدود المصریة مع فلسطین المحتلة، وفی هذا الخلاء الاستراتیجی الواسع، والذی تصل مساحته إلى ما یقارب أربعة أضعاف مساحة فلسطین المحتلة کلها، فی هذا الخلاء لایسمح بوجود للجیش المصری، فوق أن سیناء کلها ـ بحسب المعاهدة المشؤومة ـ خالیة من أی مطارات أو موانئ عسکریة مصریة، وغیر مسموح فیها بحرکة للطائرات المقاتلة المصریة، وعلى الأرض جرى تحدید المنطقة ( ب ) فی قلب سیناء، وبعرض 109 کلیومترات، ولا یسمح فیها بوجود لغیر کتائب من حرس الحدود المصری، إجمالی عددها 4000 فرد لاغیر، وتبلغ المأساة ذروتها فی شرق سیناء، حیث المنطقة (ج)، وإلى عمق 33 کیلو مترا من خط الحدود، ولا یسمح فیها بوجود للقوات المسلحة المصریة، بل یسمح فقط بوجود لقوات الشرطة، وفی معادلة شلل تام، لم یجر علیها أی تغییر سوى فی أواخر عام 2005، حین جرى الاتفاق المصری ـ الإسرائیلی على إضافة 750 جندیا مصریا من حرس الحدود، وبغرض محدد هو مراقبة الحدود المصریة مع غزة، ومحاربة ما أسمى وقتها بتهریب السلاح عبر الحدود، أو من خلال الأنفاق، وفی الوقت الذی تغیب فیه القوات المسلحة المصریة، فقد تقرر الوجود الأجنبی العسکری طبقا لملاحق المعاهدة المشؤومة، وفی صورة قوات متعددة الجنسیات، غالبها أمریکی وبقیادة أمریکیة، فی معسکر ‘الجورة’ شرق سیناء، وعلى جزیرة تیران فی خلیج العقبة، وبهدف مراقبة التزام مصر بالترتیبات الأمنیة المهینة فی سیناء، وتلتزم مصر ـ على سبیل النکایة ـ بتسدید نصف النفقات السنویة للقوات الأجنبیة، ویجری اقتطاع المبلغ من حساب المعونة الأمریکیة المقررة لمصر.
وربما لایوجد داع لتفسیر إضافی، فالترتیبات تشرح نفسها بنفسها، ومغزاها الکلی واضح، وهو نزع سیادة السلاح المصری على جبهة سیناء، ثم نزع سیادة القرار فی القاهرة بترتیبات وشروط المعونة الأمریکیة الضامنة، أی أن مصر کلها وضعت فی القید، وتحولت إلى مستعمرة سیاسیة أمریکیة بالتحکم فی قرارات القاهرة، ثم إلى بلد موضوع قصدا تحت تهدید حد السلاح الإسرائیلی عند الحدود، وسیناء عاریة مفتوحة أمامه لأی غزو محتمل، وفی غضون ساعات، وهی المصیبة التی شغلت تفکیر قادة القوات المسلحة المصریة، وأعدوا لها خططا إستثنائیة، لا یسمح المجال ـ بالطبع ـ بأی إشارة إلیها، فالمصیبة سیاسیة، والعبء الإضافی موضوع على عاتق القادة العسکریین، والذین آلت إلیهم أقدار السیاسة بعد خلع مبارک.
الوضع المأساوی استراتیجیا فی سیناء، جعل أمر مصر کلها فی مهب ریح، وإن کانت الثقة تامة فی کفاءة قواتنا المسلحة، وفی خططها الاحتیاطیة البدیلة ساعة تفاقم الخطر الإسرائیلی، غیر أن المخاطر الأخرى بدت ساریة، وتراکمت عبر الثلاثین سنة الفائتة، فقد انتهى تفریغ سیناء من السلاح إلى خطر وجودی آخر، وبدت الإدارة المصریة فی سیناء على حال الشلل المقیم، وبدا تحکم القاهرة فی حده الأدنى، اللهم إلا من حملات أمنیة عابرة زادت الأوضاع سوءا، وغذت عند قبائل سیناء نفورا مضافا من قوات الأمن، والتی لا تتفهم حساسیة الترکیب القبلی فی سیناء، ولا تقدر دور الأعراف والتقالید المستقرة، وتصطنع أعوانا من أبناء القبائل خارج التکوین العرفی، وهو ما أثر بالسلب على کفاءة وکفایة النظم العرفیة ذاتها، والتی تتفهمها قوات الجیش المغیبة قسرا بأثر من أحکام المعاهدة المشؤومة، والمحصلة مزدوجة، فقد تردت سیطرة الإدارة المرکزیة فی القاهرة، وتراجع دور النظام القبلی العرفی التقلیدی، مقابل تفشی سیطرة جماعات سلفیة مریبة، کادت تنفصل بشرق سیناء عن أحوال المجموع المصری، وهو ما یفسر بعض دواعی حملة أمنیة مصریة غیر مسبوقة فی حجمها، تنفذ الآن خطة شبه عسکریة حملت اسم الخطة ‘نسر’، وتهدف لاستعادة بعض سیادة القاهرة المفقودة فی سیناء.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS