کشف المستور
أحمد یوسف أحمد
ظل المستضعفون فی الأرض ومنهم العرب- على الأقل فی صراعهم مع إسرائیل- ینظرون إلى الأمم المتحدة باعتبارها- وهى المنظمة العالمیة المناط بها حفظ السلم والأمن الدولیین- منظمة ضعیفة مهیضة الجناح، إذ إنها فی جمیع الاختبارات التی تعرضت لها فی هذا الصدد لم یکن بمقدورها اتخاذ موقف مع "الحق"، ناهیک عن وضعه موضع التنفیذ، اللهم إلا إذا کان "القوى" یؤید هذا الموقف ویستفید منه، وحتى فی الحالات القلیلة، التی تجاسرت فیها وسمحت لها الظروف بأن تتخذ خطوات "هینة" لمواجهة خروقات فاضحة للعدالة، کما فی جریمة مخیم جنین "2002"، التی صدر فیها عن مجلس الأمن قرار بتشکیل لجنة لتقصی الحقائق أو فی مذبحة قانا "1996"، التی صدر بمناسبتها عن الأمم المتحدة تقریر یفضح السلوک الإسرائیلی فإن هذه الخطوات لم تجد طریقها إلى حیز التنفیذ بسبب الصلف الإسرائیلی والدعم الأمریکی له أو ارتدت إلى نحور من وافق على إعلانها على هذا النحو کما فی حرمان دکتور بطرس غالی من مدة ثانیة کأمین عام للأمم المتحدة بسبب ممانعته للضغوط الأمریکیة فی اتجاه عدم إعلان تقریر قانا، مع أنه کان یتمتع بتأیید باقی أعضاء مجلس الأمن کافة وعددهم أربع عشرة دولة.
یشیر ما سبق إلى عامل بالغ الأهمیة فی تفسیر عجز الأمم المتحدة عن القیام بدورها کما ینبغی، وهو النفوذ الأمریکی فی المنظمة الدولیة الذی یصل إلى حد التحکم، کما هو الحال فی مجلس الأمن الذی تتمتع فیه خمس دول دائمة العضویة منها الولایات المتحدة بحق الاعتراض القادر على منع صدور أی قرار عن المجلس مهما کان.
فی مرحلة سابقة فی ظل النظام العالمی ثنائی القطبیة کان الصراع الأمریکی- السوفییتی وتمتع طرفیه بحق الاعتراض سببا فی شلل مجلس الأمن وعجزه عن اتخاذ ما یتعین علیه اتخاذه من قرارات، وعندما تفکک الاتحاد السوفییتی وتبنت وریثته الأساسیة روسیا سیاسة تابعة للسیاسة الأمریکیة انطلق مجلس الأمن فی العمل وإصدار القرارات، ولکن وفقا للمصالح الأمریکیة قبل کل شیء، وهکذا قُدر للأمم المتحدة عامة ومجلس الأمن خاصة أن تبعد عن العدالة فی الحالتین: بالشلل فی حالة التوازن الأمریکی- السوفییتی، والتحیز فی حالة الانفراد الأمریکی بالدور القیادی فی النظام العالمی.
***
لکن ما حدث منذ أیام جدید وخطیر بکل معنى الکلمة، وهو صدور- أو بالأحرى تسریب مضمون- تقریر الأمم المتحدة عن حادث الهجوم الإسرائیلی على السفینة الترکیة مرمرة، الذی أدى إلى مقتل تسعة أتراک. وأول ملاحظة على ما سُرب من هذا التقریر المشین أنه تجاهل تماما أن الاعتداء الإسرائیلی على السفینة الترکیة قد تم فی المیاه الدولیة، وهو ما یعنی أن إسرائیل أصبح لها مسوغ لممارسة أعمال البلطجة البحریة دون رادع قانونی.
وأما الملاحظة الثانیة فهی أخطر، لأن التقریر اعتبر الحصار على غزة "قانونیا" من منظور القانون الدولی بالنظر إلى أن "أمن إسرائیل یواجه تهدیدا حقیقیا من جانب المجموعات المقاتلة فی غزة".
وهکذا اعتبر التقریر أن الحصار قد فُرض لمواجهة تهدید أمنى بهدف منع إدخال الأسلحة إلى غزة عبر البحر، متجاهلا بذلک أن غزة تعتبر من الناحیة القانونیة حتى الآن أرضا فلسطینیة واقعة تحت الاحتلال الإسرائیلی، وبالتالی فإن الحصار مبنى أصلا على باطل، کما أن التقریر تجاهل کذلک أنه کان بمقدور الأسطول الإسرائیلی أن یقوم بتفتیش سفینة أسطول الحریة بدلا من مهاجمتها للتأکد من أنها تحمل مساعدات إنسانیة ولیست عسکریة لأهل غزة، خاصة بالنظر إلى أن جمیع المنظمات المعنیة فی الساحة الدولیة وعلى رأسها الأمم المتحدة نفسها قد اعتبرت الحصار عملا غیر إنسانی على أقل تقدیر. ولعل هذا هو بالتحدید ما دفع الناطق باسم الأمین العام للأمم المتحدة إلى التصریح بأن موقف الأخیر "واضح فی دعوته إلى رفع الحصار عن غزة"، فکیف یصدر عن الأمم المتحدة تقریر یناقض مواقف محددة منسوبة لأجهزتها العاملة وکبار المسئولین فیها؟ وکان الأمر الوحید الذی تفضل به التقریر علینا هو أن "قرار إسرائیل بالسیطرة على السفن بمثل هذه القوة بعیدا عن منطقة الحصار ومن دون تحذیر مسبق مباشرة قبل الإنزال کان مفرطا ومبالغا فیه".
ولم ینس التقریر مع ذلک کی یخفف من هذا الموقف الضعیف أصلا أن یجد مبررا غیر مباشر للسلوک الإسرائیلی بنصه على أن أسطول الحریة "تصرف بطریقة متهورة عندما حاول کسر الحصار البحری المفروض على قطاع غزة"، کما أن التقریر اعتبر أن إبداء "الأسف"، ودفع التعویضات یکفیان لتبرئة ساحة إسرائیل من هذا السلوک الهمجی.
***
یعنی ما سبق أن الأمم المتحدة بهذا التقریر قد انتقلت من مرحلة تعجز فیها عن اتخاذ مواقف قانونیة سلیمة، ناهیک عن تجسیدها فی الواقع، إلى مرحلة تتناقض فیها مواقفها أصلا مع صحیح القانون واعتبارات العدالة.
إزاء تقریر کهذا صبرت ترکیا طویلا على صدوره عله یرد إلیها ولو بعض حقها کان طبیعیا أن یکون هناک رد فعل ترکی قوى تمثل کما هو معروف أولا فی خفض التمثیل الدبلوماسی مع إسرائیل إلى مستوى سکرتیر ثان، وهو ما یعنی من الناحیة العملیة طرد السفیر الإسرائیلی من أنقرة ومعه کل الدبلوماسیین الإسرائیلیین، الذین تزید درجتهم على سکرتیر ثانٍ، وکذلک خفض مستوى البعثة الدبلوماسیة الترکیة فی تل أبیب بالکیفیة نفسها، ثم تمثل رد الفعل الترکی ثانیا فی تعلیق الاتفاقات العسکریة الثنائیة مع إسرائیل، والتی تشیر التقاریر إلى أنها الرابح الأول منها مادیا واستراتیجیا، وذلک بالإضافة إلى تدابیر لم یحددها وزیر الخارجیة الترکی بشأن حریة الملاحة فی المیاه الترکیة فی البحر المتوسط، فی إشارة إلى احتمال عرقلة مرور السفن الإسرائیلیة، وأخیرا ولیس آخرا ملاحقة إسرائیل قضائیا بشأن قانونیة الحصار على قطاع غزة، وذلک عن طریق طلب الرأی الاستشاری لمحکمة العدل الدولیة فی هذا الصدد.
***
لا شک أن لهذه التطورات دلالات وتداعیات بالغة الأهمیة. وأول هذه الدلالات أن الأمم المتحدة بتقریر کهذا سوف تتحول من قوة معنویة لحفظ الأمن والسلم الدولیین إلى مصدر عدم استقرار کون الانتهاک الفاضح للعدالة فی التقریر سوف یفضى إلى إجراءات مضادة کما فعلت ترکیا، وهکذا یضاف انتهاک مبادئ القانون الدولی إلى التحیز السیاسی، الذی ألفناه طویلا فی مواقف الأمم المتحدة وبالذات مجلس الأمن تجاه قضیة الصراع العربی- الإسرائیلی.
من ناحیة ثانیة فإن مؤشرات نهایة هذا الکیان العنصری البغیض تتزاید یوما بعد یوم، فإسرائیل تتحدى الجمیع بفضل الدعم الأمریکی، وهى تخسر حتى الدول العربیة، التی تقیم علاقة سلام تعاقدی معها، وعلى رأسها مصر، والتی لم یعد الرأی العام فیها مستعدا لقبول المزید من الغطرسة الإسرائیلیة، کتلک التی أفضت إلى استشهاد خمسة من رجال الأمن المصریین مؤخرا على الحدود مع إسرائیل.
وإذا کانت السیاسة المصریة غیر قادرة حتى الآن على الخروج من إسار القوالب السابقة فإن الاستمرار المأمول للزخم الثوری من شأنه أن یحدث تغییرات إیجابیة فی هذه السیاسة ولو على مدى أطول، بحیث تصبح مصر وترکیا فی خندق واحد فی مواجهة الغطرسة الإسرائیلیة، وسوف یکون هذا، إن تم، تحولا استراتیجیا هائلا فی الشرق الأوسط.
ن/25