أی دور «خارجی» فی الثورات والانتفاضات الشعبیة العربیة؟
داود تلحمی
بات الآن واضحاً أن الثورات والإنتفاضات الشعبیة التی شهدها عدد من البلدان العربیة منذ أواخر العام 2010، وأدت، خلال أقل من شهرین، إلى الإطاحة بحاکمَی نظامین أمسکا بزمام السلطة فی بلدیهما بین عقدین وثلاثة عقود، شکّلت تطوراً نوعیاً واستثنائیاً فی أوضاع المنطقة العربیة، وربما على نطاق أوسع.
وکما یحدث مع العدید من الأحداث الإستثنائیة غیر المتوقعة، تنتشر فی منطقتنا، کما فی مناطق أخرى فی حالات شبیهة، فرضیات بوجود أیادٍ خفیة وراء هذه الأحداث. وغالباً ما تتجه أصابع الإتهام نحو الولایات المتحدة، وأحیاناً حتى نحو إسرائیل، أو نحو هذه القوة الأوروبیة أو الإقلیمیة أو تلک.
وقبل زهاء ستة عقود أو أکثر من الزمن، کان أصبع الإتهام الأول فی أی حدث أو تطور کبیر أو مأساوی فی مشرقنا العربی یتجه فوراً نحو بریطانیا، الدولة التی کانت عظمى قبل الحرب العالمیة الثانیة، وکانت تبسط نفوذها وشبکة سیطرتها على معظم بلدان المنطقة، من مصر الى فلسطین والأردن والعراق وبلدان الخلیج الفارسی ، وحتى إیران، والى حد ما ترکیا "لنستذکر حلف بغداد الشهیر فی الخمسینیات الماضیة". هذا، بالإضافة الى سیطرة هذه القوة العظمى السابقة، آنذاک، على مناطق واسعة أخرى فی العالم، یبرز بینها ذلک البلد- القارة، الهند، الذی کانت تعتبره "درة التاج البریطانی". وهو البلد الذی من أجل ضمان طرق المواصلات إلیه، من بین أسباب أخرى، سیطرت بریطانیا على مصر، وعلى ممر قناة السویس الهام آنذاک، فی أواخر القرن التاسع عشر، قبل أن یصبح نفط إیران، ثم العراق والخلیج، سبباً إضافیاً آخر لتعزیز هذا الوجود البریطانی فی مجمل المشرق العربی. دون أن نغفل أهمیة المشروع الإستیطانی الصهیونی فی فلسطین فی إطار هذه الإستراتیجیة البریطانیة للهیمنة آنذاک.
ومعروف أن فلسطین وقعت تحت السیطرة البریطانیة فی أواخر العام 1917 أثناء الحرب العالمیة الأولى، تقریباً فی نفس الفترة التی کان فیها وزیر الخارجیة البریطانی آنذاک، آرثر بلفور، قد أصدر، باسم حکومته، وعده الشهیر بتسهیل إقامة "الوطن القومی" الیهودی فی فلسطین. کما سیطرت بریطانیا فی تلک الحقبة على العراق، الواعد آنذاک باحتمالات توفر الثروة النفطیة، بحکم قربه من مناطق إیران الشرقیة، المنتجة للنفط منذ وقت أبکر. کما سیطرت على مناطق أخرى فی المشرق العربی بالتنسیق والتقاسم مع فرنسا، عملاً باتفاقیة سایکس- بیکو السریة الشهیرة المعقودة بین البلدین الإستعماریین أثناء تلک الحرب.
تونس... تطورات سریعة
لکن، وفق کل المعلومات والمصادر المتوفرة ومسارات الأحداث على الأرض، جاء اندلاع وتطور ثورة تونس، التی افتتحت سلسلة الثورات والإنتفاضات فی منطقتنا منذ أواخر العام الماضی 2010، کمفاجأة کاملة للعالم کله، بما فی ذلک للقوتین الخارجیتین الرئیسیتین المؤثرتین بشکل خاص فی هذا البلد، فرنسا والولایات المتحدة، وکذلک حتى للشعب التونسی وللمشارکین فی الثورة أنفسهم، على الأقل فی الأیام الأولى للثورة.
فلا أحد توقع فی تونس نفسها، قبل أو بعد إضرام المواطن محمد البوعزیزی النار بنفسه، أن تذهب الأمور الى حد تحوّل الحراک اللاحق الى ثورة شعبیة عارمة، والى الإطاحة، یوم 14/ 1/ 2011، أی خلال أقل من شهر على تضحیة البوعزیزی بنفسه، بنظام بولیسی استبدادی کان یمسک بالوضع التونسی بید من حدید منذ وصول رئیسه زین العابدین بن علی الى السلطة فی العام 1987، وحتى قبل ذلک عندما تم تعیینه وزیراً للداخلیة ثم رئیساً للحکومة "وزیراً أول، وفق التعبیر المستخدم فی البلد" فی أواخر عهد الرئیس التونسی الأول، الحبیب بورقیبة.
فالثورة الشعبیة فی تونس تطورت بشکل متدرج، والى حد کبیر تلقائی، أی بدون وجود قیادة موحدة موجِّهة لها من قبل طرف أو مجموعة مؤتلفة من الأطراف داخل تونس نفسها، واتسعت وکبُرت بشکل متسارع ککرة الثلج الى أن أصبحت انتفاضة شعبیة هائلة لم یعد بإمکان النظام وأجهزته الأمنیة وضع حدٍ لها بالقمع وسفک الدماء.
ویصعب، فی هذا الصدد، نسیان حدیث وزیرة الخارجیة الفرنسیة آنذاک، میشیل آلیو- ماری، أمام البرلمان الفرنسی "الجمعیة الوطنیة"، یوم 11/ 1/ 2011، أی قبل ثلاثة أیام من رحیل بن علی عن تونس، عن إمکانیة تسویة الوضع المضطرب فی تونس من خلال "حسن التدبیر، المعترف به فی العالم کله، لقوانا الأمنیة"، حسب تعبیر الوزیرة الفرنسیة.
والوزیرة لم تکن تفعل أکثر من التأکید على سیاسة حکومتها على الأرض، حیث کان قد تم إرسال "أربع شحنات من أدوات حفظ الأمن "الملابس الخاصة بقوى الأمن، وتجهیزات الحمایة لها، والقنابل المسیلة للدموع" الى تونس، بموافقة من الحکومة الفرنسیة، فی کانون الأول/ دیسمبر 2010 وکانون الثانی/ ینایر 2011"، وفق المصادر الإعلامیة الفرنسیة ""لوموند دیبلوماتیک"، عدد آذار/ مارس 2011".
وأشار المصدر ذاته الى أن هذه المساعدات الأمنیة تدخل فی إطار سیاسة فرنسیة قدیمة للتعاون البولیسی مع العدید من دول العالم. حیث تشکل صادرات فرنسا فی هذا المجال، أی أدوات ضبط الأمن الداخلی، مصدراً مهما من العائدات بالنسبة للصناعات المرتبطة بوزارة الداخلیة الفرنسیة.
ولو نجح نظام بن علی فی قمع الثورة الشعبیة بفضل المساعدة الفرنسیة الموعودة، لکانت آلیو- ماری بقیت فی موقعها. وعندما فشل القمع، خلافاً لکل التوقعات فی ذلک الحین، ورحل بن علی ونظامه، کان على آلیو- ماری أن تدفع ثمن کلامها، وأن تترک موقعها فی الحکومة.
وقد أقرّ وزیر الخارجیة الفرنسی الجدید الذی حلّ محلها، ألان جوبِّیه، بخطأ التقدیر هذا، وقام بما یشبه النقد الذاتی فی کلمة ألقاها فی ندوة عقدها "معهد العالم العربی" فی باریس تناولت "الربیع العربی"، حیث قال فی کلمة له فی ختام الندوة یوم 16/ 4/ 2011:"لا بد من الإقرار، بالتأکید، أنه، بالنسبة لنا جمیعاً، کان هذا الربیع "العربی" مفاجأة. فقد اعتقدنا، لفترة طویلة، ان هذه الأنظمة السلطویة کانت القلاع الوحیدة ضد التطرف فی العالم العربی. خلال فترة طویلة، رفعنا حجة التهدید الإسلاموی لتبریر شیء من التساهل مع هذه الحکومات التی کانت تدوس الحریات وتکبح تطور بلدانها".
إذن، کان انفجار الثورة الشعبیة التونسیة وتصاعدها السریع حتى رحیل رأس النظام أمراً مفاجئاً وغیر متوقع فی البدایة وحتى ما قبل الفصل الأخیر، سواء بالنسبة للمعارضین والمنتفضین التوانسة فی البلد نفسه، على الأقل فی الأیام الأولى من الإنتفاض الشعبی، أو بالنسبة للقوى الخارجیة التی لها تأثیر ودور فی البلد وعلاقات قدیمة معه، وخاصة فرنسا، الدولة المستعمِرة السابقة.
والأمر نفسه ینطبق على الولایات المتحدة، الدولة الکبرى التی تزاید نفوذها فی عموم المنطقة العربیة خلال العقود الأخیرة، وفی تونس بشکل ملحوظ بعد وصول زین العابدین بن علی الى رأس هرم السلطة فی العام 1987.
فکما فوجئت فرنسا بالثورة الشعبیة فی تونس، کذلک فوجئت إدارة وأجهزة الولایات المتحدة، البلد الأبعد من فرنسا جغرافیاً عن تونس، ولکن ذی العلاقات القویة مع نظام بن علی، کما ذکرنا. وهذه العلاقة الخاصة والإستثنائیة بین نظام بن علی والولایات المتحدة أکدها علناً، وبکثیر من الوضوح، سفیر سابق لفرنسا فی تونس، کان یشغل هذا الموقع إبان انقلاب بن علی عام 1987 وإزاحته الرئیس الأسبق الحبیب بورقیبة بحجة اعتلال صحته وتقدم سنّه. وهذا السفیر هو إریک رولو، الذی عمل لفترة طویلة فی مجال الصحافة والکتابة، خاصة عن قضایا المنطقة العربیة والصراع العربی- الإسرائیلی، قبل أن یعیّنه الرئیس الفرنسی الأسبق فرانسوا میتیران، فی أواسط الثمانینیات الماضیة، سفیراً فی تونس، ثم، بعد بضع سنوات، فی ترکیا. فقد کتب رولو مقالة شدیدة الوضوح تشیر الى هذه العلاقة الوثیقة بین الأمریکیین وأجهزتهم وزین العابدین بن علی، نشرتها شهریة "لوموند دیبلوماتیک" الشهیرة على الصفحة الأولى من عدد شهر شباط/ فبرایر 2011 تحت عنوان "ذکریات دبلوماسی".
وبالرغم من هذا النفوذ والحضور الأمریکی فی البلد، فقد کان الموقف الأمریکی، فی الأیام الأولى للثورة التونسیة، مرتبکاً ومتردداً وغیر واضح، لا بل متخوفاً من التغییر، الى أن أصبح جلیاً أن الحرکة الشعبیة فی تونس لم تعد قابلة للإیقاف، فتحوّل موقف الإدارة الأمریکیة باتجاه دعوة زین العابدین بن علی، فی الأیام الأخیرة من حکمه، الى الرحیل، تفادیاً لتفاقم الأمور.
ویشار فی صدد الوضع التونسی، الى أن کتاباً کان قد صدر فی فرنسا فی الشهر العاشر من العام 2009 تحت عنوان "عاهلة قرطاج"، من تألیف الکاتبین الفرنسیین کاترین غراسییه ونیکولا بو. وحمل الکتاب على غلافه صورة لیلى طرابلسی، زوجة بن علی، وتناول دورها فی السیطرة على مفاصل الحکم والنفوذ فی تونس، ومساعدتها لأفراد عائلتها وأقربائها ومعاونیها لوضع الید على مرافق الإقتصاد والأعمال ومصادر الثروة فی البلد. وکان هذا الکتاب، بالطبع، ممنوعاً من دخول تونس. لکن التونسیین المقیمین خارج تونس، وهم کثر، اطلعوا علیه. أما المواطنون داخل تونس، فکانت هناک وسائل أخرى لإیصال الکتاب، أو فحواه، لهم.
وبالرغم من أن قضایا الفساد المشار إلیها فی الکتاب کانت معروفة إلى حد ما داخل البلد، فقد زادت المعلومات الموثقة فی الکتاب من مفاقمة النظرة السلبیة لدى القطاعات المثقفة والشابة فی البلد تجاه النظام والعائلة الحاکمة، خاصة مع تدهور الأوضاع المعیشیة لقطاعات متزایدة من السکان، والشبان منهم بشکل خاص، فی السنوات الأخیرة، سنوات الأزمة الإقتصادیة العالمیة، وانعکاساتها السلبیة على مختلف بلدان العالم.
وقد أجرت إحدى الفضائیات العربیة، بعد رحیل الرئیس المخلوع من تونس بأیام قلیلة، مقابلة مع کاترین غراسییه، إحدى مؤلفی الکتاب، وسألتها، فی سیاق المقابلة، إذا ما کانت تتوقع عند تألیف الکتاب أن تصل الأمور فی تونس سریعاً إلى هذه النتیجة، فأجابت بدون تردد: لا، إطلاقاً.
وهذه الصورة السلبیة حول فساد العائلة الحاکمة فی تونس أکدتها، بعد صدور الکتاب، تلک الرسائل الدبلوماسیة الأمریکیة السریة التی نشرها موقع "ویکیلیکس" على شبکة الإنترنت ووزعها مؤسسه الأسترالی جولیان أسانج، وبُدئ بنشرها علناً فی أواخر العام 2010. ومن الممکن القول انه کان لتسریبات "ویکیلیکس" دور ما فی تسوید صورة النظام فی تونس، وبالتالی هی ساعدت فی التحریض على الإنتفاض علیه، وهو ما ینطبق أیضاً على ما جرى لاحقاً فی مصر وبلدان عربیة أخرى تناولتها الرسائل الدبلوماسیة الأمریکیة السریة المسرّبة. ولکن من المؤکد انه إذا ما کان لهذه التسریبات أی دور فی دفع الأمور نحو الإنفجار، فهو، بالتأکید، دور ثانوی وغیر رئیسی.
وهناک، طبعاً، تساؤلات فی منطقتنا وفی مناطق عدیدة أخرى من العالم شملتها تسریبات "ویکیلیکس": هل کانت هذه التسریبات مؤامرة مقصودة من جهة معینة، من الأمریکیین أنفسهم مثلاً، لتحقیق أغراض معینة؟
لیس هناک ما یدفع باتجاه التسلیم بصحة هذه النظریة التآمریة، حتى إشعار آخر. حیث إن هذه التسریبات تسببت بالکثیر من الإحراجات للإدارة الأمریکیة، ولیس فی منطقتنا فقط، وإنما فی أنحاء العالم، بما فی ذلک مع زعماء بلدان حلیفة، مثل ألمانیا. حیث تناولت إحدى الرسائل الدبلوماسیة الأمریکیة السریة من برلین، على سبیل المثال لا الحصر، المستشارة أنغیلا میرکِل بأوصاف غیر إیجابیة، وکذلک الأمر بالنسبة لرسائل دبلوماسیة صدرت من السفارة الأمریکیة فی باریس وتناولت الرئیس الفرنسی نیکولا سارکوزی بتوصیفات لیست إیجابیة کذلک. وکلا الزعیمین الأوروبیین من الحلفاء المقربین جداً للإدارتین الأمریکیتین، السابقة کما الحالیة.
ولنتذکر أن تسریبات أخرى من "ویکیلیکس" نفسها سبقت تسریبات مراسلات وزارة الخارجیة الأمریکیة وممثلیاتها فی أنحاء العالم. وهذه التسریبات السابقة تناولت التفاصیل المتعلقة بحربی أمریکا فی العراق وأفغانستان. وکانت مصدر إزعاج أکبر للمسؤولین الأمریکیین لعلاقتها بحربین ما زالت تفاعلاتهما وأحداثهما متواصلة، مما یؤثر بالتالی على مجمل السیاسات والسلوکیات الأمریکیة المیدانیة فی البلدین وفی عموم المنطقة العربیة - الإسلامیة، کما وداخل الولایات المتحدة وبلدان حلف شمال الأطلسی الأخرى المشارکة فی الحربین.
انفجار الوضع الشعبی فی مصر
ورغم السابقة التونسیة، کان زخم الحراک الشعبی فی مصر مفاجأة لواشنطن؛ ونظریاً، کان من المفترض أن یتم التعاطی بطریقة مختلفة مع انفجار الوضع الشعبی فی مصر، بعد بدء التحرکات الشعبیة الواسعة یوم 25/ 1/ 2011، الیوم الخاص بالشرطة فی مصر. وذلک بعد أن بات واضحاً لکل متابع أن مناخ الثورة التونسیة قد أثّر بقوة، من خلال وسائل الإعلام المرئیة ووسائل الإتصال العصریة، على مناطق وبلدان عربیة أخرى، بدءًا بمصر، البلد العربی الأکبر، وحیث معدل دخل الفرد من الناتج الداخلی الإجمالی أدنى منه بکثیر من معدل دخل الفرد فی تونس، وحیث الوضع المعیشی لغالبیة المواطنین أسوأ والفساد أکثر وضوحاً.
ولکن المفاجأة لم تکن فی بدء التظاهرات فی مصر. فمصر کانت تشهد حراکاً شعبیاً شبه متواصل منذ عدة أعوام، وخاصة منذ العام 2004، عندما تشکلت حکومة عملت على تعمیق تطبیقات "اللیبرالیة الجدیدة" فی البلد، وهی التطبیقات التی زادت فقراء البلد فقراً وهددت قطاعات متزایدة من الفئات المتوسطة بالوقوع فی مصاف الفقر، وعندما بدأت حرکات الإعتراض الواسعة على احتمالات "التوریث"، أی الإعداد لترشیح جمال مبارک لتولی الرئاسة بعد والده. ثم تلاحقت بعد ذلک جملة من التحرکات ذات الطابع السیاسی أو المطلبی والإعتراضی على تدهور الأوضاع المعیشیة لأعداد متزایدة من السکان.
بل جاءت المفاجأة بالزخم الذی اکتسبته هذه التظاهرات بسرعة هائلة نسبیاً، بحیث أدت الى إسقاط رأس النظام فی البلد فی مهلة أقل من المهلة التی احتاجتها الثورة التونسیة، بالرغم من الحجم الجغرافی الأکبر لمصر، وتعداد سکانها الذی یتجاوز السبعة أضعاف حجم سکان تونس.
وشملت المفاجأة حتى أولئک الشبان المبادرین للدعوة الى تحرک 25/ 1 أنفسهم، فی القاهرة ومدن مصر الأخرى، حیث لم یتوقعوا حجم المشارکة الواسع، وفق تصریحاتهم العلنیة اللاحقة، وحجم التصاعد المتزاید فی الأیام اللاحقة لهذه المشارکة الشعبیة، وخاصة منذ یوم 28/ 1، وکذلک الجاهزیة الشبابیة، والشعبیة عموماً، لتحمُّل کلفة مواجهة قوات الأمن و"البلطجیة" فی البلد، الى أن تمت الإطاحة برأس النظام یوم 11/ 2.
صحیفة "ذی إندیبندنت" البریطانیة کتبت مقالاً للمعلِّقة کاترینا ستیوارت فی عدد یوم 29/ 1/ 2011 تحت عنوان بلیغ: "قلة توقعت السرعة التی ازداد بها زخم الإحتجاجات". وکانت، بالطبع، تتحدث آنذاک عما یجری فی مصر، وعما جرى تحدیداً فی یوم 28/ 1.
وکان رئیس الوزراء البریطانی الأسبق والمبعوث الخاص للجنة الرباعیة الدولیة الى العملیة التفاوضیة الفلسطینیة- الإسرائیلیة، تونی بلیر، قد قال، فی حدیث أجرته شبکة "سی إن إن" التلفزیونیة الأمریکیة معه فی الیوم الأول من شهر شباط/ فبرایر الماضی، ونقلته صحیفة "ذی غاردیان" البریطانیة فی عدد یوم 2/ 2/ 2011، فی وصف الرئیس المصری حسنی مبارک بأنه "بالغ الشجاعة، وقوة خیر"، مشیداً، بشکل خاص، بدور مبارک فی مساعدته فی عملیة التفاوض الفلسطینیة- الإسرائیلیة "ومن الواضح الآن أین وصلت هذه العملیة!".
أما عضو مجلس الشیوخ الأمریکی والمرشح الرئاسی الجمهوری المنافس للرئیس أوباما فی انتخابات العام 2008، جون ماک کین، فقد اعتبر الثورات العربیة، فی مقابلة مع شبکة "فوکس نیوز" الأمریکیة، یوم 2/ 2/ 2011، "فیروساً" یهدد إسرائیل، قائلاً: "هذه الثورات تنتشر فی الشرق الأوسط مثل الفیروس... وهذه ربما أخطر مرحلة فی التاریخ، فی تاریخ انخراطنا کله فی الشرق الأوسط، على الأقل خلال الأزمنة الحدیثة... إسرائیل فی خطر أن تصبح محاطة بدول هی ضد مجرد وجود إسرائیل، دولٍ محکومة بمنظمات رادیکالیة"، حسب تعبیره.
وکان جون ماک کین قد التقى بالرئیس الأمریکی باراک أوباما، بدعوة من الأخیر، فی الیوم ذاته، للتشاور حول الموقف من مصر تحدیداً.
أما رئیس الأغلبیة الجمهوریة فی مجلس النواب الأمریکی جون بینَر، فقد قال بشأن الثورة فی مصر: "أعتقد أن ما جرى قد فاجأ الجمیع، ولذلک ستجری عملیة حقیقیة لإعادة تقییم ذلک". وأضاف: "أعتقد أننی فوجئت. أعتقد أن "البیت الأبیض" قد فوجئ... إنه وضع معقد جداً". وهذا الکلام لرئیس الأغلبیة نقله موقع صحیفة "واشنطن بوست" على شبکة الإنترنت بتاریخ 13/ 2/ 2011، أی بعد تنحی مبارک.
من جانبه، أقرّ جیمس کلابِر، مدیر المخابرات القومیة الأمریکیة والمسؤول الأول عن التنسیق بین کافة أجهزة الإستخبارات فی الولایات المتحدة، فی شهادة أمام مجلس النواب الأمریکی یوم 10/ 2/ 2011، بأنه کانت هناک مئات التقاریر خلال العام السابق حول التوترات وعدم الإستقرار فی بلدان شمال إفریقیا، ولکن "العوامل المفجّرة المحددة لا یمکن معرفتها وتوقعها دائماً". وأضاف انه "حتى بن علی عندما ذهب الى مکتبه فی ذلک الصباح لم یکن یعلم أنه سیکون على الطائرة لمغادرة تونس فی المساء". وأضاف أنه اتخذ قراراً، مع رئیس وکاله المخابرات المرکزیة لیون بانیتا "الذی أصبح فی ما بعد وزیراً للدفاع"، بتشکیل فریق من 35 عضواً لمتابعة أعمق للمشاعر الشعبیة وقوة المعارضة ودور شبکة الإنترنت فی هذه البلدان، على حد تعبیره، وفق ما نقله عنه موقع إحدى محطات التلفزیون الأمریکیة الرئیسیة على الشبکة تحت عنوان: "کلابِر عن مصر وتونس: نحن لسنا مستبصرین". وهو استخدم کلمة "کلیرفویانت"، بالإنکلیزیة، وهی بالأصل کلمة فرنسیة، وتعنی بتلک اللغة "بُعد النظر".
***
وفی کل الأحوال، وکما سبق وذکرنا، لا یمکن تفسیر الثورة التونسیة أو الثورة المصریة فقط من خلال التسریبات الإعلامیة حول الفساد الواسع القائم فی قمة هرم النظامین المنهارین. فهناک أسباب عدیدة أخرى وتراکمات طویلة فی البلدین، کانت مرئیة وواضحة جداً فی مصر، خاصة بعد بدء تطبیقات "اللیبرالیة الجدیدة" منذ مطلع التسعینیات الماضیة، ومن ثمّ تصاعد الحراک الشعبی الإحتجاجی، فی السنوات السبع الأخیرة خاصة، کما سبق وذکرنا.
وجاءت الأزمة الإقتصادیة العالمیة التی انفجرت علناً فی الولایات المتحدة فی الثلث الأخیر من العام 2008، بانعکاساتها شدیدة الوقع على غالبیة بلدان العالم، بما فی ذلک على تونس ومصر وبلدان عربیة وغیر عربیة أخرى، لتوصل هذه التراکمات الى مستوى "القشة" الشهیرة التی "قصمت ظهر البعیر".
الإدارة الأمریکیة تستدرک
بالطبع، وکما هی عادة إدارات الولایات المتحدة فی مناطق أخرى من العالم وفی مراحل مختلفة سابقة، فهی تتمسک بـ"حلفائها" فی "العالم الثالث" الى أن یصبح وضعهم الداخلی صعباً على المستوى الشعبی، الى حد لا یمکن تغطیته وتمریره أمام الرأی العام العالمی، وحتى أمام الرأی العام الأمریکی نفسه، فتضطر، فی ذلک الحال، وبالسیاسة البراغماتیة المعهودة لدیها، لیس فقط للتخلی عن هؤلاء "الحلفاء"، وإنما تذهب، حین یتلکأون، الى حد مطالبتهم علناً بمغادرة السلطة، والبحث عن ملجأ لهم، حتى فی الولایات المتحدة إذا لزم الأمر، إذا کانوا یرغبون بذلک ولا یضرّ ذلک بالمصالح الأمریکیة اللاحقة فی بلدانهم.
وهذا ما حدث فی الفیلیبین مع فردیناند مارکوس فی العام 1986، بعد 21 عاماً أمضاها فی سدة الرئاسة فی هذا البلد الآسیوی الکبیر نسبیاً "أکثر من 90 ملیون نسمة حالیاً"، حیث سمح له الرئیس الأمریکی آنذاک، رونالد ریغن، باللجوء الى جزر هاوای الأمریکیة.
وهذا ما حدث بعد ذلک فی العام 1998 فی إندونیسیا، البلد الأکبر حجماً والرابع فی العالم من حیث عدد السکان "حوالی 240 ملیون نسمة حالیاً"، مع الجنرال سوهارتو، بعد أن أمضى 31 عاماً فی الحکم، إثر انقلاب، فی أواسط الستینیات الماضیة، على مؤسس إندونیسیا الحدیثة ورئیسها الأول أحمد سوکارنو، دعمته وکالة المخابرات المرکزیة الأمریکیة، کما بات معروفاً ومعلناً، بهدف القضاء على نفوذ الشیوعیین فی إندونیسیا، حیث کانوا قوة رئیسیة ومؤثرة فی هذا البلد الکبیر سکانیاً، والمهم جغرافیاً لقربه من ساحة الحرب المشتعلة فی فییتنام. وقد ترافق هذا الإنقلاب، بالفعل، مع تصفیة جسدیة لمئات الآلاف من الشیوعیین أو "المتهمین" بالتعاطف معهم.
وکانت فییتنام تشهد، فی تلک الفترة تحدیداً، تصعیداً واسعاً لحرب عنیفة متزایدة الحدة فی جنوبه، المسیطَر علیه من قبل الأمریکیین و"حلفائهم" المحلیین، وضد شماله المستقل، وهی حرب خاضتها إدارة لیندون جونسون بثقل عسکری، تصاعد بشکل متسارع فی النصف الثانی من الستینیات، فی مناخ "الحرب الباردة" والصراع الغربی المحتدم فی ذلک الحین مع الإتحاد السوفییتی و"البلدان الشیوعیة" الأخرى، مثل الصین، التی کان الحزب الشیوعی فی إندونیسیا قریباً من نهج الحزب الشیوعی الحاکم فیها.
وکان ذلک قبل أن تحدث الإنعطافة الأمریکیة فی مطلع السبعینیات، ابان إدارة نیکسون- کیسنجر، بالإنفتاح على الصین الشعبیة، فی مناورة للإستفادة من الخلاف الصینی- السوفییتی الذی کان فی أوجه فی ذلک الحین. هذا، مع العلم بأن الزعیم المخلوع سوهارتو لم یغادر إندونیسیا بعد الإطاحة به، وبقی فیها حتى وفاته فی السنوات الأولى من القرن الجدید.
***
ولکن بعد ما جرى فی تونس، ومن ثم فی مصر، وحتى قبل انهیار النظامین السابقین فیهما، بدأت واشنطن وعواصم أوروبا الأخرى تدرک أن شیئاً کبیراً آخذٌ بالتفاعل فی عموم المنطقة العربیة، وأنه من غیر المستبعد أن تشهد دول المنطقة ظاهرة "الدومینو"، أی إنجراف بلدانها، الواحد تلو الآخر، فی عملیة تغییر شبیهة، متأثرة بالنموذجین التونسی والمصری.
وإذا کانت تونس بلداً صغیراً نسبیاً "حوالی 11 ملیون نسمة" محدود الموارد الطبیعیة، خاصة فی مجال مصادر الطاقة، ولا یحتل موقعاً مؤثراً جداً فی إطار استراتیجیة الولایات المتحدة فی عموم المنطقة، فالأمر یختلف کثیراً بالنسبة لمصر، البلد الکبیر "أکثر من 80 ملیون نسمة" والمرکزی والمؤثر على عموم المنطقة، والمرتبط باتفاقات ومعاهدات وصیغ من التعاون متعدد الأشکال مع الولایات المتحدة، ومع إسرائیل، خاصة بعد إتفاقیات کامب دیفید فی العام 1978 والمعاهدة المصریة- الإسرائیلیة فی آذار/ مارس من العام التالی. هذا، الى جانب کونه بلداً أقرب الى مرکزی الإهتمام الرئیسیین لواشنطن فی المنطقة، منابع النفط الخلیجیة وممراته، والدولة الإسرائیلیة.
فلم تکد الحرکة الشعبیة المصریة تستعرض قوتها فی ساحات القاهرة والمدن المصریة الأخرى، خاصة یومی 25/ 1 و28/ 1، حتى سارع أحد المقربین جداً من البیت الأبیض ومرکز القرار فی واشنطن، عضو مجلس الشیوخ ورئیس لجنة العلاقات الخارجیة فیه والمرشح السابق للرئاسة، جون کیری، الى نشر مقال فی عدد یوم 31/ 1/ 2011 من صحیفة "نیویورک تایمز" تحت عنوان لافتٍ للإنتباه: "لنتحالف مع مصر القادمة". وهی دعوة واضحة للتخلی عن رأس النظام المصری، وبدء فتح الخطوط مع الحرکة الواسعة المناهضة لحکمه فی مصر، أو مع الأطراف الأخرى فی النظام، وتلک ذات الحضور الشعبی فی مصر. فقد أنهى جون کیری مقالته بالکلمات التالیة: "لثلاثة عقود، اتبعت الولایات المتحدة سیاسة دعم لمبارک، والآن علینا أن ننظر لما بعد عهد مبارک ونبلور سیاسة مصریة جدیدة".
وهی دعوة لم تلبث أن تلتها دعوات على مستوى أعلى وبصیغ لا تقل وضوحاً، تطالب حتى بتنحی مبارک عن الحکم. ووصلت الدعوات الى مستوى الرئیس باراک أوباما نفسه، الذی بدأت إدارته بالإتصال مع الأطراف المختلفة فی الإدارة المصریة، لدفع الأمور باتجاه مخرجٍ لا یزید الأمور تعقیداً، ولا یدفع حرکة الشارع فی اتجاهات أکثر تجذراً.
وکانت أوراق "ویکیلیکس" قد نقلت تساؤلات دبلوماسیی الإدارة الأمریکیة فی القاهرة، قبل التطورات العاصفة الأخیرة فی مصر، حول احتمالات تطور الوضع فی البلد بعد وصول حسنی مبارک الى سن متقدم، حیث کانت إحدى رسائل سفیرة واشنطن فی القاهرة، مارغریت سکوبی، الموجهة الى وزارة الخارجیة الأمریکیة فی أیار/ مایو 2009، قد توقعت أن یبقى رئیساً مدى الحیاة. وکان ذلک قبل أقل من عامین على اضطراره للتنحی عن الحکم.
أما فی إسرائیل، الحلیف الرئیسی لواشنطن فی المنطقة، فبعد التطمینات الذاتیة الأولیة لبعض السیاسیین هناک، والمؤکِدة لسیطرة نظام مبارک على الوضع واستبعاد تکرار التجربة التونسیة فی مصر، بدأت تسریبات وإشارات واضحة تفید بحجم القلق الذی ینتاب الأوساط الإسرائیلیة النافذة من عواقب رحیل نظام مبارک وخروج المارد الشعبی المصری من قمقمه. فقد نقلت محطة "سی إن إن" الإخباریة الأمریکیة یوم 29/ 1/ 2011 عن الوزیر الإسرائیلی السابق بنیامین بن إلیعیزر، وهو من حزب العمل، ومن أصل عراقی، وکان على اتصال مستمر مع الرئیس المصری حسنی مبارک خلال فترة الإنتفاضة الشعبیة فی مصر، قوله للتلفزیون الإسرائیلی ان مبارک أکد له فی اتصال هاتفی أن القاهرة لیست "لا بیروت ولا تونس"، وأن "السلطات المصریة تعرف ما یجری وأنها جهّزت الجیش مسبقاً".
وفی حدیث لاحق یوم 3/ 2/ 2011 مع إذاعة الجیش الإسرائیلی، قال بن إلیعیزر عن مبارک: "انه وقف الى جانبنا طوال 30 عاماً، کان قائداً قویاً، وحافظ بکبریاء على التزامات السادات وواصل السیر على دربه". وأضاف: "هناک شیء واضح، وهو انه، من وجهة نظرنا، هذه خسارة هائلة". وکان بن إلیعیزر یعقّب على أحادیث مبارک الأولى عن إمکانیة مغادرته للسلطة فی وقت لاحق من عام 2011، حیث کان من المفترض أن تجری الإنتخابات الرئاسیة.
وبعد أن تنحى مبارک فعلاً، یوم 11/ 2/ 2011، خرج بعض المعلّقین الإسرائیلیین بکتابات وتصریحات کانت تدخل أیضاً فی مجال طمأنة الذات، لتؤکد على أن شبان وشابات میدان التحریر فی القاهرة ومیادین وشوارع المدن المصریة الأخرى رکّزوا على مطالب تتعلق بالوضع الداخلی المصری وبالحریة والدیمقراطیة، ولم یرفعوا شعارات مناهضة لإسرائیل والولایات المتحدة. وهی طمأنة ذاتیة لم تعمّر طویلاً، بعد أن بدأت تظاهرات التضامن مع الشعب الفلسطینی فی القاهرة ومدن مصریة أخرى ترفع أعلام فلسطین، وتطالب بإنهاء وجود السفارة الإسرائیلیة من القاهرة.
التعامل "الخارجی" اللاحق على الإطاحة بنظامی تونس ومصر
أما الدول الأوروبیة، التی تأخرت أیضاً فی اتخاذ مواقف حاسمة لصالح مطالب المنتفضین المصریین، ومعظمها کان له مصالح ویقیم علاقات قویة مع نظام مبارک، فقد وجدت فی بدء الحرکة الإنتفاضیة فی لیبیا، بعد أیام قلیلة من تنحی حسنی مبارک فی مصر، وفی ردة فعل العقید معمر القذافی العنیفة والدمویة على هذه الحرکة، فرصتها للتعویض عن تلکؤها فی استیعاب أبعاد ومآلات الإنتفاضات الشعبیة فی تونس ومصر.
خاصة وأن العقید القذافی، بالرغم من کونه قد قدّم تنازلات کبیرة للولایات المتحدة والدول الأوروبیة الغربیة بعد اجتیاح العراق فی الشهر الثالث من العام 2003، تحسباً من التعرض للمصیر ذاته فی مناخات إدارة جورج بوش الإبن و"محافظیه الجدد" الهجومیة فی المنطقة، یعدّ خصماً سهلاً بالنسبة لبلدان الغرب بسبب سیاساته السابقة فی المنطقة وخارجها، واتهامه فی الماضی بدعم المنظمات والعملیات "الإرهابیة"، بما فی ذلک فی أوروبا، ومواقفه المتقلبة باستمرار فی العدید من القضایا. ولم تکن مفاجأة کبیرة، بالتالی، أن یکون الرئیس الفرنسی نیکولا سارکوزی، المعروف بنزعته الیمینیة وقربه من مدرسة "المحافظین الجدد" الأمریکیین، أول رئیس غربی یستقبل وفداً من المعارضة الجدیدة للنظام اللیبی فی قصر الإیلیزیه، ویذهب الى حد المبادرة بالإعتراف الرسمی، یوم 10/ 3/ 2011، بالمجلس الوطنی الإنتقالی الذی شکّلته هذه المعارضة فی مدینة بنغازی. وهو اعتراف سبق کافة الدول الأخرى، حتى العربیة منها "کانت قطر أول دولة عربیة تعترف بالمجلس، وکان ذلک یوم 28/ 3".
فهکذا، فیما کانت الثورة الشعبیة التونسیة مفاجأة کاملة للعالم الخارجی، وکذلک النجاح السریع للثورة الشعبیة المصریة فی الإطاحة برأس النظام، أصبح واضحاً بعد ذلک للعالم کله أن هناک ریحاً واسعة تهب على المنطقة العربیة، ولیس فقط على تونس ومصر، وهی ظاهرة أطلقت علیها بعض وسائل الإعلام الغربیة وبعض المسؤولین هناک تعبیر "الربیع العربی"، کما أوردنا، بحیث بات متوقعاً أن تمتد لتشمل بلداناً عربیة أخرى. وهو سرعان ما حدث مع لیبیا منذ أواسط شباط/ فبرایر، کما رأینا، ثم مع الیمن والبحرین وسوریا، وکذلک، بأشکال ودرجات متفاوتة وسقف مطالب مختلف بعض الشیء من بلد لآخر، مع کل من عُمان والجزائر والمغرب والأردن، وحتى العراق.
وبدأت التشبیهات ترد فی تقاریر صحافیة أو کتابات لمؤرخین مع ما حدث فی أوروبا الشرقیة والإتحاد السوفییتی بین العامین 1989 و1991، وحتى مع الثورات القومیة التی شهدها عدد من بلدان أوروبا فی أواسط القرن التاسع عشر، وتحدیداً فی العام 1848. وذلک بعد أن کان أحد المؤرخین الفرنسیین قد شبّه الثورة الشعبیة التونسیة فی مراحلها الأولى، وقبل تفجر الثورات العربیة الأخرى، بالثورة الفرنسیة الکبرى التی انفجرت فی أواسط العام 1789، أی قبل تلک الثورات القومیة الأوروبیة بأکثر من نصف قرن.
وجاءت ردود الفعل على المستوى الشعبی فی أنحاء العالم مرحبّة ومتعاطفة على نطاق واسع، وأحیاناً الى حد الإنبهار بهذا النمط الجدید من التحرک الشعبی الجارف الذی قادته أفواج الشبان فی بدایاته، لیتحول بعد ذلک الى حراک شعبی واسع فی العدید من البلدان العربیة.
وهذا المناخ الشعبی العالمی دفع بعض الحکام الغربیین الى التعاطی الإیجابی اللاحق، فی الخطاب الرسمی على الأقل، مع هذه الثورات والإنتفاضات العربیة. وهو ما عکسه، مثلاً، خطاب الرئیس الأمریکی باراک أوباما الشهیر فی مقر وزارة الخارجیة الأمریکیة یوم 19/ 5 الماضی، حیث استعاد بعض الکلمات والشعارات المؤثرة بالنسبة للرأی العام الأمریکی، مثل الحریة والدیمقراطیة والکرامة. لکن کل هذه الصیغ الخطابیة والتصریحات الرسمیة فی العدید من الدول الغربیة، وغیر الغربیة، لم تستطع أن تخفی بعض إشارات القلق لدى الأوساط الحاکمة وأصحاب الشرکات والمصالح الکبرى العالمیة فی منطقتنا، خاصة وأن الثورات بدأت تقترب من مناطق حساسة بالنسبة لمصالح هذه الدول وللإقتصاد العالمی بشکل عام، وتحدیداً مناطق النفط والغاز الطبیعی فی الخلیج.
ومن منطلق مختلف تماماً، ذهب أحد الفلاسفة الفرنسیین الیساریین المشهورین عالمیاً، ألان بودیو، الى حد الحدیث عن الأهمیة التاریخیة بالنسبة للعالم لهذه "الریح الآتیة من الشرق"، فی مقالة له نشرت فی صحیفة "لوموند" الفرنسیة بتاریخ 18/ 2/ 2011، وحملت عنوان "تونس، مصر: عندما یقوم ریح من الشرق بکنس العنجهیة الغربیة".
من جانبه، عَنْوَن أستاذ السیاسة فی جامعة سیدنی بأسترالیا، جون کین، مقالة نشرها موقع أسترالی على شبکة الإنترنت فی 1/ 5/ 2011، بالکلمات التالیة: "العالم العربی: نموذج جدید لثورة حضاریة". وجاء فیه: "إذا أجرینا مقارنة، فإن التمردات الشعبیة فی العالم العربی قد أخذت روح عام 1989 للتمردات "المخملیة" غیر العنیفة فی وسط وشرق أوروبا الى مستوى أرقى". ویضیف: "إن الثورات العربیة أوجدت فراغاً إقلیمیاً فی النفوذ. وهی تشکل إنتکاسات کبیرة لإسرائیل، وللولایات المتحدة ولحلفائها"... "إن عدم نجاعة مفاوضات الإتحاد الاوروبی لوضع حد لسیاسة إسرائیل المتشددة فی وضع الید على الأرض بات واضحاً، کما هو الصمت المدوی لإسرائیل حول کیفیة تعاطیها مع هذه التطورات غیر الواضحة الجدیدة". وانتهى الى القول: "إن الصبر المفروض على الفلسطینیین لتحمل وضعهم البائس لا یمکن أن یستمر".
وهکذا، فإن مشاهد الجموع العربیة المتدفقة على الساحات، وخاصة على میدان التحریر الواسع فی القاهرة، فی مواجهة آلة قمع رهیبة استمر فعلها، فی الماضی، لعقود طویلة، ألهمت العدید من الشبان والقطاعات الشعبیة، لیس فقط فی المنطقة العربیة، وإنما فی بلدان ومناطق أخرى من العالم، من أذربیجان، الجمهوریة السوفییتیة السابقة الواقعة شمالی إیران، الى إسبانیا، البلد العضو فی الإتحاد الأوروبی، وحتى الى ولایة ویسکنسن الأمریکیة، ومؤخراً حتى، وإن بسقف مطلبی محدود دون أی بعد سیاسی، الى إسرائیل نفسها.
***
لکن، کما ذکرنا، تنبهت القوى الخارجیة النافذة لهذه العاصفة الکبرى التی هبّت على المنطقة العربیة. وهی سعت، بعد ذلک، من جهة، الى التأثیر على تطورات الوضع الناشئ عن الإطاحة بالنظامین الحاکمین سابقاً فی تونس ومصر، ومن جهة أخرى، الى استباق مثل هذه التطورات فی بلدان عربیة، أو غیر عربیة، أخرى، بحیث یتم التأثیر على الوضع فی کل حالة باتجاه لا یضرّ بمصالح الدول الخارجیة المعنیة، سواء عبر دعم قوى معینة فی الحرکات الإنتفاضیة والسعی لتنمیة دورها على حساب قوى وتیارات شعبیة أخرى أکثر جذریة، أو عبر دعم الأنظمة القائمة عبر إقناعها ودفعها لمحاولة امتصاص جزئی لغضب المنتفضین، وخاصة من خلال إجراء بعض التجمیل فی النظام السیاسی القائم وبعض التخفیف لتأزم الوضع المعیشی للسکان، وخاصة فی البلدان الحلیفة لتلک القوى الخارجیة، والغربیة منها بشکل محدد.
وقد تحدثنا عن التدخل العسکری والسیاسی الغربی فی لیبیا لإسناد الحرکة الإنتفاضیة هناک. ومن جهة أخرى، شهدت مملکة البحرین تدخلاً من دول خلیجیة أخرى بالإتجاه الآخر، أی باتجاه إخماد التحرک الشعبی. کما هناک محاولات تدخل أمریکی وسعودی فی الیمن لضمان عدم فلتان الوضع فی بلد فقیر جداً، لکنه متاخم لبلدان النفط الرئیسیة فی المنطقة ویقع فی منطقة استراتیجیة للممرات المائیة. وفی بلدان أخرى، مثل سوریا، اتجهت السلطات القائمة الى مواجهة عنیفة للحراک الشعبی. وهذه التطورات کلها حکمتها أوضاع وحسابات مختلفة عما کان الحال علیه فی ثورتی تونس ومصر. فمن جهة، تنبه الحکام العرب الآخرین الى "نقاط ضعف" نظامی تونس ومصر، ومن جهة أخرى، دخلت القوى الخارجیة على خط مباشر من الفعل والتأثیر، لم یکن متاحاً لها بنفس القدر فی التطورین الخاطفین فی تونس ومصر.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS