آن أوان استحضار الروح المبدعة لانتفاضة الأقصى

نصر شمالی

قطفت فلسطین أولى الثمرات الطیبة التی أنتجتها هذه الانتفاضات الثوریة الشعبیة العربیة، والتی نجحت حتى الآن فی تونس ومصر، فبمنتهى السرعة والبساطة والیسر تحقّقت المصالحة الفلسطینیة وفتح معبر رفح، وهو ما بدا تحقیقه شبه مستحیل فی ظلّ العهد المصری البائد.

وکانت الانتفاضات العربیة عموماً قد استلهمت فی أدائها روح الانتفاضات الفلسطینیة، وبخاصة انتفاضة الأقصى "أیلول/ سبتمبر 2000" واستمدّت الثقة من وقائع المقاومة المسلّحة فی کلّ من العراق ولبنان وفلسطین، وبذلک تأخذ الدورة الطبیعیة، التکاملیة، مجراها الطبیعی فی الحیاة العربیة العامة بعد أن تتخلّص من السلطات الحاکمة الفاسدة التی تعطّلها.

ومن باب التذکیر بما لا یحتاج إلى تذکیر نقول إنّ المشروع الاستیطانی الصهیونی لم ینهض ضدّ الفلسطینیین حصراً وتحدیداً، فهو اصطدم بهم أولاً، وواصل محاولات تدمیرهم واستئصالهم، فی طریقه لإخضاع واستعباد العرب والمسلمین عموماً. وإذا کان أصحاب المشروع الإنکلیز، فی لندن وواشنطن، قد حرصوا على إظهار الصراع فلسطینیاً/ یهودیاً فذلک لأسباب تکتیکیة، عملیة میدانیة، لا تخفى على عاقل.

وبالرغم من ذلک برزت العقبة الفلسطینیة، لوحدها وفی حدّ ذاتها، عقبة صلبة کأداء یستحیل التغلّب علیها، وهی واجهت شبه منفردة وشبه عزلاء المشروع الاستعماری الصهیونی الذی یستهدف الأمة کلّها.

عشیة انتفاضة الأقصى الخالدة الذکر، قبل حوالی عشر سنوات، وفی ظلّ النظام الرسمی العربی الفاسد الضاغط على الشعب الفلسطینی ومقاومته، کانت القیادة الفلسطینیة منهمکة فی محاولة وضع قرارات هیئة الأمم "القرار 242 وتفرعاته" على طریق التنفیذ، ولیس موضع التنفیذ! غیر أنّ الأمریکیین والإسرائیلیین المخادعین کانت لهم حساباتهم وترتیباتهم الأخرى المناقضة لإعلاناتهم، فکانت حادثة اقتحام المرتزق شارون للحرم القدسی، وکانت الانتـــفاضة الشعبیة الفلسطینیة، حیث أبسط الناس لم تخدعهم الألاعیب، وأدرکوا أنّ الحادثة الشارونیة تعنی الإصرار على تقویض الأقصى، وعلى ابتلاع الضفة الغربیة بصفتها ما یسمّونه "یهودا والسامرة".

لقد هبّ الشعب الفلسطینی فی انتفاضة الأقصى کرجل واحد. وهو کان یعتقد أنّه سوف یلقى التأیید التام والدعم بلا حدود من الأنظمة العربیة، بخاصة بعد أن تسلّم شارون مقالید إدارة الحرب. غیر أنّ المواجهة أبرزت عدداً من المفاجآت، منها إحجام النظام الرسمی العربی عن نجدة الفلسطینیین، بل تحوّله إلى جدار سمیک عازل یحاصرهم ویحول دون تواصلهم وتفاعلهم مع أشقائهم فی الأقطار الأخرى، ویتعاون مع الدوائر الدولیة المعادیة من أجل إخماد انتفاضتهم.

فی المقابل، فوجئ الأمریکیون والإسرائیلیون بصمود الشعب الفلسطینی واستبساله، وتدافعه للاستشهاد أطفالاً ونساءً ورجالاً، فزجّوا فی المیدان بمعظم ثقلهم العسکری، وانطلقوا فی عملیات التدمیر والقتل على أوسع نطاق. وبینما الحال کذلک فی فلسطین المحتلة کانت إدارة جورج بوش تواجه مفاجأة المقاومة العراقیة التی قلبت حساباتها رأساً على عقب، ووضعت مشاریعها الإستراتیجیة الإقلیمیة والدولیة فی مهبّ الریح، الأمر الذی دفعها إلى الاتجاه نحو تحقیق تهدئة، أو هدنة، على الجبهة الفلسطینیة کی تتفرّغ تماماً للشأن العراقی، وکی تسهّل على الحکّام العرب مساعدتها فی الشأن العراقی. غیر أنّ التمهید لتحقیق تلک التهدئة، أو الهدنة، اقتضى اغتیال عدد من القادة الفلسطینیین، من أبرزهم الشهیدان یاسر عرفات والشیخ أحمد یاسین!

لقد زار وفد من مجلس الشیوخ الأمریکی فلسطین المحتلة حینئذ، فی معرض العمل على تهدئة الجبهة الفلسطینیة، وقالوا للإسرائیلیین صراحة أنّه لا بدّ من تحقیق بعض "الإنجازات السلمیة" من أجل "تحسین وضع الولایات المتحدة فی العراق"! وأیضاً من أجل نیل الدعم الشعبی الأمریکی للعملیات الحربیة فی العراق! وردّ شارون أنّه مع نجاح الأمریکیین فی العراق، وأنّه مستعدّ لتقدیم 'بعض التنازلات'!

على مدى حوالی أربع سنوات ألحق الأمریکیون والإسرائیلیون أضراراً وإصابات فادحة بالشعب الفلسطینی الثائر، لکنّ إنجازاتهم العسکریة تحولت إلى ما هو أسوأ من الخسائر حین عجزوا عن إرغام الفلسطینیین على الرضوخ سیاسیاً، وقد راحوا یعزّون أنفسهم بأنّ المقاومة الفلسطینیة مهما تصاعدت لن تخرج عن نطاق السیطرة، ولن تشکّل أبداً خطراً جدّیاً..الخ! لقد کانوا یعوّلون على خدمات النظام الرسمی العربی، وعلى تحالف الخیانة والانتهازیة والجهل، وعلى نجاحهم فی العراق ومن ثمّ نجاحهم الإجمالی إقلیمیاً ودولیاً.

لعلّ من المفید هنا، وروح انتفاضة الأقصى تحوّم الیوم فی أجواء فلسطین، أن نعرض بالأرقام بعضاً من النتائج الحربیة لتلک الانتفاضة على الجبهتین الفلسطینیة والإسرائیلیة، وهی أرقام تشیر إلى تعادل نسبی فی الخسائر، الأمر الذی أذهل الأمریکیین والإسرائیلیین:

حتى شهر آب/ أغسطس 2004، بلغ عدد الشهداء الفلسطینیین 3474، منهم 780 طفلاً و239 امرأة، بینما قتل من الإسرائیلیین 1001، أی أنّ النسبة 3 إلى 1. وبلغ عدد الجرحى الفلسطینیین 55138، أمّا الجرحى الإسرائیلیون فقد بلغ عددهم 11356. وبلغ عدد الأسرى الفلسطینیین 8000، بینما بلغ عدد الإسرائیلیین الفارین من الخدمة العسکریة 10000، إضافة إلى تراجع هجرة المرتزقة إلى فلسطین من 60 ألفاً عام 2000 إلى 9 آلاف عام 2004. وقد دمّر الصهاینة تماماً 6757 منزلاً فلسطینیاً، وصدّعوا 65 ألفاً، وأغلقوا 12 جامعة ومؤسسة تعلیمیة علیا، وعطّلوا الدراسة فی 125 مدرسة، وقصفوا 216 مؤسسة تربویة، وحوّلوا 43 مدرسة إلى ثکنات عسکریة، وجرّفوا 68011 دونماً من الأراضی الزراعیة، واقتلعوا 1134471 شجرة، ودمّروا 288 بئراً و1153 خزّان میاه، أمّا عن الإسرائیلیین فقد خسروا فی مواجهة الانتفاضة 8 فی المائة من الناتج 'القومی'، أی ما یعادل ثمانیة ملیارات ونصف الملیار دولار، وأغلقت أبوابها 36 ألف مصلحة تجاریة، وتراجع معدّل الاستثمارات الأجنبیة بنسبة 70 فی المائة، وانخفضت قیمة العملة بنسبة 25 فی المائة، وبلغت نسبة البطالة 288 ألفاً... الخ!

إنّه تناسب نسبی فی الخسائر مدهش حقاً، على الرغم من استحالة المقارنة بین الطرفین فی ما یتعلّق بالقوة المادیة/ العسکریة والسیاسیة/ الرسمیة، وعلى الرغم من محاصرة الشعب الفلسطینی، وعزله والانفراد به، وصعوبة تعویضه خسائره من ضروریات الحیاة ، بینما الإسرائیلیون یغرفون من محیطات تعویضاً عن خسائرهم، فکیف لا نتفاءل بانتفاضة فلسطینیة قادمة لن تکون محاصرة ومعزولة عن انتفاضة الأمة بمجملها؟.

ن/25