البعد القومی الذی تجاهله أوباما!!
د. فوزی الأسمر
استمعت إلى الخطب التی ألقاها الرئیس الأمریکی، باراک أوباما، وکذلک التی ألقاها بنیامین نتنیاهو خلال زیارته للعاصمة الأمریکیة بهدف إلقاء خطاب أمام مؤتمر "إیباک" "اللوبی الإسرائیلی فی العاصمة الأمریکیة" وأمام الکونغرس الأمریکی.
هذه الخطب التی مثلت خطبا انتخابیة، أکثر منها خطبا عملیة، حیث کان نتنیاهو یخطب وکأنه یخاطب الناخب فی إسرائیل، وأوباما یخاطب الناخب الأمریکی، ومتوجها للمتبرعین والإعلامیین من الیهود الأمریکیین.
ویمکن تقسیم هذه الخطب إلى قسمین رئیسیین: الأول، وهو فی رأیی مهم جدا، یتلخص فی الرؤیة الأمریکیة المستقبلیة لمنطقة الشرق الأوسط والتی تمثلت فی خطاب أوباما الأول. والقسم الثانی یشکل تسابقا بین أوباما ونتنیاهو على فرض الشروط على الفلسطینیین لحل قضیتهم دون حتى العودة إلیهم واتخاذ آرائهم.
ففی خطابه الأول حاول أوباما وضع صیغة جدیدة تتماشى، فی اعتقاده، مع الأحداث الجاریة فی منطقة الشرق الأوسط، معتبرا أن الوضع الإقتصادی هو السبب الرئیسی، وربما الوحید، فی تحرک الشعوب العربیة، وأنه فی حالة حل هذه المشکلة أو على الأقل المساعدة على حلها عن طریق إدخال إستثمارات جدیدة ومساعدات مالیه، فإنه سیکون فی الإمکان السیطرة على "الربیع العربی"، وخلق دیمقراطیات فی الدول العربیة تتماشى وأهواء أمریکا والغرب. وقد أعطى تفاصیل محددة، ورسم الخطوات التی یجب أن تتخذها أمریکا والدول الأوروبیة والمؤسسات النقدیة العالمیة لتحقیق هذا الهدف، وطبعا دون العودة إلى أصحاب الشأن. ویمکن تفسیر ذلک على أنها خطوات إستعماریة جدیدة هدفها إستمرار سیطرة مناطق النفوذ.
صحیح أن الأوضاع الإقتصادیة لعبت دورا رئیسیا فی تطویر الثورات العربیة ولکنها لم تکن هی الوحیدة فی مجالها . فالذی أسقطه ،أو تعمد أوباما إسقاطه من خطابه، هو رؤیة العامل الآخر الذی لا یقل أهمیة عن الوضع الإقتصادی، وهو البعد القومی، الذی یتضمن الحریة والإستقلال والتخلص من التبعیة ومناطق النفوذ. فی حین لم یتغافل أوباما عن هذا البُعد عندما تحدث عن إسرائیل والمشاکل التی قد تواجهها.
والحقیقة أن الغرب، وفی مقدمته الولایات المتحدة، أذل الشعوب العربیة بدعمه للدکتاتوریات الحاکمة التی مصت دم شعوبها، وأرغمت قادتهم على السیر فی السبل التی تخدم مصالح الغرب وبالتالی إسرائیل، وتتناقض مع مصالح شعوبها. وعمل الغرب جاهدا على تفتیت الدولة القومیة وشجع قیام الدولة التآلفیة والطائفیة.
فصحیح، على سبیل المثال، أن الوضع الإقتصادی فی مصر کان سیئا لیس بسبب أن مصر فقیرة، ولکن بسبب الشریحة الفاسدة التی کان یترأسها النظام المصری، والتی کانت تسیطر على مقدرات البلاد الإقتصادیة. ولکی تحافظ هذه الشریحة على مصالحها کان علیها أن تضع وصمة عار على الجبین القومی للشعب المصری. فقد کان الإنسان المصری یشعر بالإحتقار وهو یشاهد قادته یقومون بخدمة الغرب والصهیونیة وإسرائیل، ممثلة ببیع الغاز الرخیص لها ودعم الحصار على قطاع غزة عن طریق إقفال المعابر، ومنع وصول الإمدادات الإنسانیة إلیه، والقیام ببناء جدار فولاذی عازل على الحدود مع فلسطین، والتعاون فی تحطیم دولة عربیة قومیة کاملة وهو العراق. وغیر ذلک من المواقف.
ولم تنفرد مصر لوحدها فی مثل هذه المواقف، بل ساعد موقفها المتخاذل بعض الدول العربیة الأخرى على القیام بأعمال تطبیع مع إسرائیل من بینها مثلا فتح مکاتب "مصالح إسرائیلیة" فی بعض الدول الخلیجیة، والشمال إفریقیة. وفتح بعضها الأبواب على مصراعیها أمام زیارات قام بها مسؤولون إسرائیلیون وتجولوا فی شوارعها وأسواقها، قبل أن یحصل الفلسطینیون على حقوقهم ودولتهم، مما زاد من غطرسة إسرائیل وتطرفها وعبثها بحقوق الإنسان الفلسطینی.
هذه التحرکات أذلت الإنسان العربی الذی شاهدها وهو یعلم أن أمریکا هی التی تدعم وتبارک حکامه. ثم شاهد هذا الإنسان کیف قامت دول التحالف وبدعم عربی بتدمیر دولة العراق العریقة، غیر مکتفیة بإسقاط نظام صدام حسین، مما جعل الکثیر من العراقیین یتحسرون على أیام نظام صدام. ودفع العراق، ولا زال، ثمنا باهظا لما سمی بتطبیق الدیمقراطیة فیه.
ومن رحم کل ما أسلفنا ولد "الربیع العربی". ووجدت أمریکا نفسها فی مأزق. من ناحیة لا تستطیع أن تتنازل عن إستراتیجیتها فی منطقة مثل الشرق الأوسط، ولکنها فی نفس الوقت بدأت ریاح الغضب العربی تعصف بأصدقائها فی المنطقة. وأصطدم ذلک بالشعارات البراقة التی ترفعها الولایات المتحدة کقائدة من أجل "تطبیق الحریات والدیمقراطیة" فی العالم.
وهنا تجیء فحوى خطاب أوباما الأول، والذی قال فیه وبصورة مباشر أنه یرید أن یطبق الإستراتیجیة الأمریکیة بشکل مختلف یتماشى مع التطورات الجاریة فی الشرق الأوسط عن طریق البُعد الإقتصادی فقط متمشیا مع المثل الشعبی القائل "إطعم الفم تخجل العین".
فقد حاول أوباما فی خطابه الأول بناء مصداقیة أمریکا التی انهارت فی المنطقة لیس فقط بسبب السیاسات التی تبنتها الإدارة الأمریکیة السابقة، بل أیضا بسبب سقوط القناع وخطوات التراجع التی أظهرها الرئیس أوباما فی أعقاب خطابه فی جامعة القاهرة وتبنیه لمطالب إسرائیل.
وهنا یأتی القسم الثانی. فقد أعلن أوباما أنه سیعمل على منع الفلسطینیین من تقدیم مشروع الإعتراف بدولتهم فی حدود 1967، لأن ذلک "سیعطل مسیرة السلام"، والکل یتساءل، بما فیهم بعض المحللین السیاسیین الإسرائیلیین: هل توجد حقیقة مسیرة سلام؟ الفلسطینیون یعتبرون هذا إعلان حرب على مطالب شرعیة تدعمها قرارات الأمم المتحدة.
ومن ثم یوافق أوباما أن إسرائیل لا تستیطیع أن تتفاوض مع حکومة فلسطینیة تضم "حماس" رغم أن هذه الحرکة هی جزء من المجتمع الفلسطینی وانتخبت بشکل دیمقراطی. لماذا لأن "حماس" لا ترید الإعتراف بإسرائیل. والسؤال: هل اعترفت إسرائیل رسمیا بوجود شعب فلسطینی أو بأی حق من حقوقه؟ ولماذا لا یطالب أوباما أن تخرج حکومة إسرائیل أحزابا عنصریة وفاشیة على غرار حزب "یسرائیل بتینو" الذی یتزعمه العنصری أفیغدور لیبرمان من الإئتلاف الحکومی؟
وبأی حق یطالب أوباما أنه فی حالة الوصول إلى إتفاق بین الفلسطینیین والإسرائیلیین معناه إنهاء القضیة الفلسطینیة کلها وهو یعلم أن إقامة الدولة الفلسطینیة هی خطوة فی إتجاه حل القضیة الفلسطینیة؟
إن الأراضی التی احتلت فی حرب 1967 هی أراض محتلة، ولیست أراض متنازع علیها کما ترى إسرائیل. وهناک مرجعیة شرعیة لهذا وهی قرارات الأمم المتحدة بما فی ذلک قرارات صدرت عن مجلس الأمن الدولی.
ویقول أوباما أن حدود 67 هی نقطة البدایة فیرد علیه نتنیاهو وفی الکونغرس الأمریکی أن حدود 67 لا یمکن الدفاع عنها، وأن الحل یبدأ عندما یعترف الفلسطینیون بیهودیة دولة إسرائیل.
هذا کلام ینقضه حتى بعض الخبراء العسکریین الإسرائیلیین حیث قال العمید المتقاعد دوف تامری والذی یعمل الیوم رئیسا لدراسات المجتمع والأمن فی کلیة "بیت برل" فی مقال له بصحیفة "هآرتس" "24/5/2011": "لقد حان الوقت لفحص السبب فی مقولة: لا یمکن الدفاع عن إسرائیل فی حدود 1967. ویتبین لنا بأن هدف هذه المقولة هو التستر على التطلعات للسیطرة على مزید من الأراضی "الفلسطینیة" وتبررها".
والواقع أن إسرائیل إستطاعت أن تدافع عن نفسها قبل سیطرتها على الأراضی المحتلة فی عام 1967 وفی حرب 1973. وهذا ما یقصده العمید تامری.
الربیع العربی أعاد القضیة الفلسطینیة إلى محورها العربی، والرئیس أوباما یفهم ذلک جیدا قالها بصراحة أن عزلة إسرائیل فی العالم لن تنتهی بدون حل القضیة الفلسطینیة. ونتنیاهو یفهم ذلک جیدا ولهذا طلب فی خطابه بالکونغرس الأمریکی أن یساعدوه فی منع اتخاذ قرار فی الأمم المتحدة بإنشاء دولة فلسطین. لماذا کل هذا التخوف من إعتراف الأمم المتحدة بقیام الدولة الفلسطینیة؟
خطاب نتنیاهو فی الکونغرس الأمریکی "24/5/2011" هو بمثابة رفض لفکرة السلام، والإعلان عن استمرار الحرب، بل ورفع مستواها، وهذا لا ینحصر على الفلسطینیین وحدهم بل له أبعاد عربیة وستکون له نتائج عالمیة.
فعلى الرغم من الإستقبال الحافل الذی واجهه خطاب نتنیاهو فی الکونغرس إلا أن هناک شبه إجماع لیس عربیا وعالمیا فقط بل إسرائیلیا أیضا أن خطابه لم یحمل أی جدید وفیه خداع وإبهام وأن نتنیاهو بخطابه هذا قررالتوجه للعنف. بل ذهب بعض المحللین إلى إتهام أعضاء الکونغرس الأمریکی بأنهم لم یفهموا ما یرمی إلیه نتنیاهو.
وهاکم بعض عناوین الصحف والمقالات الإسرائیلیة التی ظهرت فی غداة الخطاب أی یوم 25/5/2011: إفتتاحیة "هآرتس" فرصة ضائعة. مقال شاؤول موباز فی "یدعوت أحرونوت": کلام ساحر بدون قیادة ناجحة. عنوان صحیفة "هآرتس" الرئیسی: خطاب نتنیاهو کان مبهما. إستطلاع صحیفة "معاریف" بعد الخطاب: 57 بالمائة من الإسرائیلیین لقد کان على نتنیاهو أن یقول نعم للحل الذی طرحه أوباما. مقال جدعون لیفی "هآرتس": خطاب کذب ونفاق. مقال عکیفا إلدار فی "هآرتس": خطاب لا علاقة له بالواقع. مقال آری شفیط "هآرتس": لقد خسر "نتنیاهو" فرصة عمره. مقال ألوف بن "هآرتس" خطاب نتنیاهو کان للمقتنعین. هذه بعض العناوین التی ظهرت فی الصحف العبریة، ونأمل أن یطلع علیها أعضاء الکونغرس الأمریکی.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS