qodsna.ir qodsna.ir

بعض المستور فی صفقة إطلاق الأسرى

فهمی هویدی 

 شغلنا العاطفی عن السیاسی فی متابعة أکبر صفقة فی تاریخ الصراع مع إسرائیل، تم خلالها الاتفاق على إطلاق سراح أکثر من ألف أسیر فلسطینی مقابل الجندی الإسرائیلی جلعاد شالیط. کانت النتیجة أننا حصلنا کثیرا من الانطباعات وقلیلا من التحلیلات والمعلومات التی وجدتها وفیرة فی الصحف الإسرائیلیة.

(1)

"هذا أصعب قرار اتخذته فی منصبی کرئیس للوزراء".. کان ذلک تعلیق بنیامین نتنیاهو على الصفقة أثناء اجتماع الحکومة الذی عقد لإقرارها واستمر خمس ساعات.. هکذا قالت صحیفة یدیعوت أحرنوت یوم ١٤ أکتوبر/تشرین الأول الجاری، وأشارت إلى أنه حین ذکر فی الاجتماع أن الدفعة الأولى من الأسرى ضمت 450 فلسطینیا أدینوا فی قتل 599 إسرائیلیا، علق على ذلک أحد الوزراء قائلا إن الرقم یبعث على القشعریرة، أما رئیس المخابرات یورام کوهین فقال إنها صفقة عسیرة الهضم للغایة، إلا أنها الأفضل الذی أمکن الحصول علیه. وکتب ناحوم برنیاع وشمعون شیفر فی ذات الصحیفة أن القرار کان صعبا والثمن باهظا.

صحیفة هآرتس نقلت یوم 12 من الشهر الجاری على لسان یورام کوهین قوله للصحفیین إن الصفقة لم تکن جیدة، فلم یکن أمامنا سبیل آخر لتحریر شالیط، حیث لا یوجد خیار عسکری یحقق ذلک الهدف.

ناحوم برنیاع عاد للکتابة فی الموضوع یوم 18/10 حیث قال: لقد خسرنا فی هذه المعرکة.. خسرنا لأننا لم نستطع أن نخلص شالیط بطرق أخرى.. خسرنا لأننا برهنا للفلسطینیین أنه یمکن بالقوة إحراز الکثیر جدا منا، لکنهم لا یحرزون شیئا بالتعاون معنا، وخسرنا لأننا اضطررنا إلى الاستسلام لإملاء یقترن بمخاطرة أمنیة باهظة.

 فی الیوم ذاته نشرت صحیفة هآرتس مقالة تحت عنوان "فشل الخیار العسکری أدى إلى صفقة شالیط". کتب المقالة عاموس هرئیل وإنشل بابر، وتحدثا فیها عن "إخفاق وقلق للأذرع الأمنیة، إذ تلقى الشاباک أکثر الضربات بعدما اعترف قادته بفشلهم فی العثور على المعلومات الاستخباریة ذات الصلة. لکن فحصا دقیقا لأحداث السنوات الخمس الأخیرة یدل على أن الجیش الإسرائیلی له نصیبه الجوهری فی الخلل الذی حدث".

فی 19/10 کتب أمیر أورن فی الصحیفة ذاتها أنه "فی المیزان التاریخی حققت حرکة المقاومة الإسلامیة انتصارا کبیرا، فقد أقدمت على خطوة وصمدت فیها وأخضعت إسرائیل، بما أثبت أن الصبر مجد، وأن الزمن العربی ینتصر على الزمن الغربی، وأنه فی ضوء طول النفس لا یوجد معنى للتفوق العسکری والتقنی. وإزاء ذلک، ثمة احتمال لأن تختفی إسرائیل ذاتها بعد مرور عقود من الزمن".

(2)

عدد غیر قلیل من المعلقین انتقدوا موافقة نتنیاهو على الصفقة، واستخدموا فی ذلک عباراته التی نشرها فی کتابه "مکان تحت الشمس"، وسجل فیه اعتراضه الشدید على صفقة تمت عام 1985 لإطلاق سراح ألف أسیر فلسطینی. وقال إنه کان سفیرا لدى الأمم المتحدة آنذاک، وحین علم بالأمر کتب رسالة احتجاج واعتراض إلى وزیره المباشر (إسحاق شامیر وزیر الخارجیة آنذاک)، وتساءل فی الکتاب الذی صدر عام 1995 بعد عشر سنوات من تلک الصفقة: کیف یمکن لإسرائیل أن تحث الولایات المتحدة والغرب على انتهاج سیاسة عدم الاستسلام للإرهاب، بینما هی نفسها تخضع لهذا الشکل المخجل جدا؟ وذکر أن إطلاق ألف "مخرب" سیؤدی إلى تصعید شدید للعنف، لأنهم سیستقبلون کأبطال یقتدی بهم الشباب الفلسطینی، مضیفا فی کتابه أن النتائج لم تتأخر فی الوصول لأن إطلاق أولئک "المخربین" أدى إلى توفیر مخزون من المحرضین والزعماء الذین أضرموا نار الانتفاضة "عام 1987".

بن کاسبیت کتب فی صحیفة "معاریف" قائلا إن کلام نتنیاهو الأخیر ینطبق على الوضع الراهن، لأن أولئک "المخربین" الذین تم إطلاقهم أخیرا خرجوا فی وقت یتزاید فیه الحدیث عن الانتفاضة الثالثة، ووصف یوم إتمام الصفقة بأنه یوم استسلام جثت فیه إسرائیل على رکبتیها أمام حماس (12/10).

کیف حدث الاختراق؟ یدیعوت أحرنوت روت القصة کالتالی فی عدد 14/10 بعد خمس سنوات من الجمود، بدت خلالها الفجوة بین الطرفین غیر قابلة للتجاوز أو الهلهلة. تلقى رجل الموساد البارز دیفد میدان رسالة من شخص مستقل -غیر إسرائیلی- مفادها أن حماس مستعدة للتفاهم مجددا حول شروط إطلاق سراح جلعاد شالیط. میدان سافر للقاء الشخص الذی بعث بالرسالة، ومنذ ذلک اللقاء لم یتوقف الحوار الیومی بینهما. استنفرت الأجهزة الأمنیة الإسرائیلیة لأجل إتمام العملیة، بعدما اطمأنت إلى أن قناة الحوار فتحت. استثمر میدان هذه القناة وطلب من رجل الاتصال أن یأتی من حماس بورقة مکتوبة تحدد فیها طلباتها. وبالفعل أعدت الوثیقة فی آخر یونیو/حزیران الماضی، وحین حدث ذلک وجدت إسرائیل أنها بحاجة إلى وسیط إقلیمی مهم یرعى العملیة، وقرروا أن المصریین یمکن أن یلعبوا دورهم فی هذا الصدد. وکانت هناک فکرة لإشراک الأتراک الذین عرضوا التوسط فی الموضوع رغم التوتر الحاصل بین البلدین، ولکن الإسرائیلیین فضلوا أن یکون الوسیط مصر.

فی نهایة یولیو/تموز الماضی دعت مصر الطرفین إلى اللقاء فی فندق معزول مطل على الأهرامات فی القاهرة. أقاموا فی غرف متجاورة، وکان رجال المخابرات المصریة ذوو الخبرة العریضة بالوضع العربی الإسرائیلی یتنقلون بین الطرفین. فی أول أکتوبر/تشرین الأول الجاری کان الاتفاق قد تم على التفاصیل، وبعدما أقره مجلس الوزراء یوم الثلاثاء ١١/١٠، اتصل نتنیاهو هاتفیا بالمشیر محمد حسین طنطاوی لکی یشکره على الجهد الذی بذله رجال المخابرات المصریة فی العملیة. بالمناسبة ذکرت صحیفة یدیعوت أحرنوت یوم 12/10 أن اعتذار إسرائیل لمصر عن قتل الجنود المصریین الستة على الحدود کان من قبیل التقدیر لدور القاهرة فی إنهاء الصفقة، علما بأنها رفضت الاعتذار لترکیا عن قتل تسعة من أبنائها کانوا على السفینة مرمرة.

(3)

مما نشرته الصحف الإسرائیلیة، تبیّن أن حماس طلبت فی أول توسط للألمان فی الموضوع إطلاق 10500 أسیر فلسطینی مقابل تسلیم جلعاد شالیط، وأن الإسرائیلیین قبلوا بالحدیث عن 450 فقط، وأن بین المفرج عنهم 279 فلسطینیا ظلت إسرائیل تصر على احتجازهم فی المفاوضات السابقة باعتبارهم من "الخطرین"، ومن هؤلاء 25 شخصا وصفتهم الصحف الإسرائیلیة بأنهم من "القتلة". ومما نشر أیضا أن رئیس الوزراء السابق إیهود أولمرت وافق فی إحدى جولات المفاوضات السابقة على إطلاق سراح 550 أسیرا من فتح ولیس من حماس، وأیده فی ذلک الرئیس السابق حسنی مبارک. والأول أراد أن یجامل الرئیس الفلسطینی محمود عباس، فی حین أراد الثانی ألا یحسب الإنجاز لحماس، وهی الفکرة التی نحاها نتنیاهو جانبا هذه المرة.

مما ذکرته صحیفة یدیعوت أحرنوت یوم 14/10 أن أجهزة الأمن الإسرائیلیة رفضت إطلاق سراح عدد من القیادات الفلسطینیة، لیس اعتراضا على أشخاصهم أو أفعالهم، ولکن "لأنهم اعتقدوا أنه لا یجوز أن یفرج عن هؤلاء الأشخاص الذین لا یزال مستقبلهم السیاسی أمامهم برعایة حماس"، بمعنى أن إسرائیل لا ترید أن یکون لحماس "دالة" أو فضل على هؤلاء الأشخاص الذین یفترض أن یکون لهم دور فی مستقبل الساحة الفلسطینیة. من هؤلاء أشخاص مثل عبد الله البرغوثی المحکوم علیه بـ67 مؤبدا، وإبراهیم حامد الذی أدین فی قتل 82 إسرائیلیا، ومروان البرغوثی من قادة فتح فی الضفة، وقائد الجبهة الشعبیة أحمد سعدات.

من المعلومات المثیرة للتساؤل والدهشة ما نشرته صحیفة یدیعوت أحرنوت یوم 16/10 فی مقالها الافتتاحی الذی کتبته سمدار بیری وذکرت فیه أن معارضی صفقة إطلاق الأسرى الفلسطینیین فی السابق لم یکونوا رئیس الشاباک والموساد ورئیس الحکومة (أولمرت فقط)، "ولکن الرئیس السابق حسنی مبارک ووزیر مخابراته عمر سلیمان بذلا جهدا غیر ضئیل للتثبیط والتأخیر، ولإقناع الإسرائیلیین بعدم دفع الثمن الذی کان آنذاک أقل کثیرا مما دفع هذه المرة"!

 ناحوم برنیاع ذکر فی مقاله الذی نشرته معاریف (14/10) أنه فی جولة سابقة للمفاوضات (عام 2009) طلب الإسرائیلیون إبعاد أکثر من مائة أسیر فلسطینی من العودة إلى الضفة، وقد أبدى اللواء عمر سلیمان عدم اقتناعه بذلک المطلب، وقال للإسرائیلیین: أنتم تسیطرون بالکامل على الضفة، وإذا تبین أن أی واحد من أولئک "الإرهابیین" قد عاد للعمل، فلن تکون لدیکم أی مشکلة فی القضاء علیه.

(4)

أحد الأسئلة التی یثیرها المشهد هو: لماذا أقدمت إسرائیل على هذه المغامرة الآن؟

لقد قیل إن نتنیاهو قبل بذلک لأنه یرید أن یتخفف من الضغوط الداخلیة التی یواجهها بسبب ثورة المطالب الاجتماعیة التی دفعت نحو نصف ملیون إسرائیلی إلى التظاهر ضده، إضافة إلى أن نحو 90% من الإسرائیلیین أصبحوا یتعاطفون مع قضیة جلعاد شالیط ویؤیدون إطلاق سراحه. وهذه خلفیة غیر مستبعدة، ولکن الصحف الإسرائیلیة تحدثت عن عنصر آخر یبدو أکثر أهمیة. فقد نشرت صحیفة یدیعوت یوم 12/10 مقالا کتبه إلیکس فیشمان بعنوان "کل شیء من أجل إیران" تدور فکرته الأساسیة حول أن نتنیاهو بإغلاقه ملف شالیط وإطلاق ذلک العدد الکبیر من الأسرى الفلسطینیین، "أراد أن ینظف المائدة" لکی یشرع فی التنسیق لمهمة جدیدة تتعلق بمواجهة التهدید الذی تمثله إیران بمشروعها النووی. وقال فیشمان إنه بإتمام الصفقة یحقق إجماعا داخلیا ودولیا حوله للتقدم صوب ذلک الهدف الذی سترحب به بعض الدول العربیة، فی مقدمتها مصر والمملکة السعودیة.

فکرة استهداف إیران کررها ناحوم برنیاع فی یدیعوت (19/10) وسانی راحلفسکی فی هآرتس (17/10) التی نشرت یوم 14/10 مقالا فی ذات الاتجاه کتبه أمیر أورن. وقد ذکرت تلک الصحف أن زیارة وزیر الدفاع الأمیرکی لتل أبیب فی بدایة الشهر الجاری کان من أهدافها تحذیر حکومة إسرائیل من مهاجمة إیران دون التنسیق المسبق مع واشنطن. ومما ذکره ناحوم برنیاع فی هذا الصدد أنه فی عام 1991 حین أطلق صدام حسین صواریخ سکود على إسرائیل، فإن نائب رئیس الأرکان آنذاک إیهود باراک خطط لهجوم بری مضاد على قواعد الإطلاق، ولکن الأمیرکیین عارضوا الخطة بشدة معتبرین أن من شأنها إفساد التحالف ضد النظام العراقی، وقالوا إنهم سیعالجون الأمر بصورة أخرى. وحینذاک أرسلت وحدة مغاویر بریطانیة إلى العراق لمهمة قریبة من الخطة الإسرائیلیة، مما أدى إلى انخفاض عدد الصواریخ الموجهة ضد إسرائیل انخفاضا حادا. بعد ذلک التقى باراک قادة العملیة البریطانیین وشکرهم باسم الجیش الإسرائیلی.

لا أفترض البراءة فی الصحف الإسرائیلیة، ولا أستطیع أن أؤکد ما إذا کان الکلام الذی تنشره یساعدنا على فهم ما جرى أو تصور ما سیجری، أم أنه من قبیل "کلام الجراید" الذی نعرفه، لکن الذی لا أشک فیه أن الأیام القادمة ستجیب لنا على التساؤلات المثارة بهذا الخصوص.

ن/25

 

 

           

  

 

 

 


| رمز الموضوع: 143318