الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

ما بعد الصفقة...

هانی عوکل

 

کطفل غارق فی ارتباکه، تماماً هکذا کان حال الجندی الإسرائیلی جلعاد شالیت، الذی أفرجت عنه المقاومة الفلسطینیة، بعد أکثر من خمسة أعوام، على العملیة المهمة التی وقعت فی جنوب قطاع غزة، وأسفرت عن أسر هذا الجندی وقتل اثنین من رفاقه.

من لاحظ شالیت أثناء مرحلة التسلیم، انطلاقاً من غزة ومروراً بمصر ثم قاعدة سلاح الجو الإسرائیلی فی تل نوف، لا یمکن أن یقول إن هذا فعلاً جندی متمرس فی الفنون العسکریة، لقد بدا مضطرباً ویائساً، ضعیف البنیة، غیر قادر على فهم ما یجری، وبالکاد یستوعب أنه رجل ناضج.

والحقیقة أن شالیت بضعفه جسّد حالة إسرائیل الحالیة، إسرائیل المهزومة التی تتلقّى الضربات المتتالیة، وهی نفسها إسرائیل التی جمعت کل قوتها فی عملیات عسکریة قاسیة ومتنوعة، من أجل تحریره، فضلاً عن استنجادها بدول کثیرة، دون أن تعرف مکان هذا الشالیت.

نتنیاهو فتح ذراعیه لشالیت، لکنه حتماً کان یندب حظه على صفقة اعتبرت فیها إسرائیل خاسرة، إلا أنه احتکم لیس إلى صوت عقله الشخصی، وإنما إلى صوت الجمهور الإسرائیلی، الذی أبدى حماسةً لقبول صفقة التبادل.

وعلى الرغم من موقف الجمهور الإسرائیلی الذی وافق على إتمام الصفقة، وانتظار عودة شالیت إلى منزله، فإن هذا الجمهور حتماً سوف یجلد شالیت، ویحمّله مسؤولیة الوقوع فی الأسر والمساومة على تحریره فی صفقة تبادل غیر متکافئة.

فی کل الأحوال، نتنیاهو أراد من الصفقة تحریر نفسه من الضغط الشعبی الداخلی الذی بدا متحاملاً علیه نتیجة التداعیات الاقتصادیة والاجتماعیة وغلاء الأسعار، ففی العقلیة السیاسیة الإسرائیلیة، هناک قناعة بأن المشکلة الداخلیة التی یستعصی حلها، تستلزم محاولة إلهاء الجمهور الإسرائیلی، إما بصفقة یرضى بها، مهما کان شکلها، أو عن طریق افتعال حرب ضد الفلسطینیین.

نتنیاهو سلک الخیار الأول، أی أنه داخلیاً استمزج رأی جمهوره ووافق على صفقة التبادل، وخارجیاً، هو أعاد حبل التواصل مع مصر، خصوصاً بعد أحداث مقتل الجنود المصریین، ذلک أن نتنیاهو قلق من الربیع العربی، ولا یرغب فی تعمیق الخلاف مع مصر بعد الثورة.

الجوار العربی کله یشکّل قلقاً بالنسبة إلى إسرائیل، فوضع مصر الحالی غیر مستقر، وهناک حالات غضب متزایدة من قبل الجمهور المصری الناقم على معاهدة کامب دیفید، وهذا یشکل هاجساً لإسرائیل وتخوفاً من تردی العلاقة مع جار مهم جداً بالنسبة إلیها، خصوصاً أنه یجاورها فی الحدود الجنوبیة من جهة إسرائیل.

الوضع فی سوریة مقلق للغایة، وانعکاسات القلق واضحة على إسرائیل، وکم من مرة وجهت التعزیزات العسکریة الإسرائیلیة، وهی باقیة حتى هذه اللحظة، على الحدود الشمالیة، هذا غیر الوضع اللبنانی وحزب الله، والوضع الأردنی، وطبعاً الوضع الفلسطینی الذی یتحرّک دبلوماسیاً من أجل الحصول على دولة مستقلة.

نعم، إسرائیل تقرأ المعطیات جیداً، وتدرک أن هناک أزمةً اقتصادیةً عالمیةً تعیق الولایات المتحدة الأمیرکیة، وتعیق أوروبا بأکملها، وأیضاً تدرک إسرائیل أن الربیع العربی یتجه أکثر ناحیة الاستجابة للمطالب الشعبیة، هذه التی تربطها بإسرائیل علاقة العدو غیر المهذب.

هذا عدا ترکیا التی تنظر إلى إسرائیل باعتبارها دولةً عنصریةً وفوق القانون، ناهیک عن تآکل وضع إسرائیل أمام العالم، بسبب التراکمات العنصریة والحروب القاسیة التی کانت تشنها على الفلسطینیین، لکل ذلک، یرى نتنیاهو أن على إسرائیل أن تقرأ المتغیّرات فی المنطقة وتستجیب لها ولو بالحد الأدنى.

هذا ربما یشکل مؤشراً على رغبة إسرائیل حالیاً فی "تهدئة اللعب"، کما یقول المثل، لکن ربما کانت هناک مخططات تقوم بها الدولة العبریة للعودة من جدید إلى فتح مواجهة مع الفلسطینیین، تخرب أولاً على کل المحاولات لإعادة ترمیم وحدتهم الداخلیة، وثانیاً تخرب على حقوقهم بدولة مستقلة.

ثمة من یربط صفقة شالیت بالاستعدادات لدق طبول الحرب الإسرائیلیة ضد إیران، بمعنى أن هناک تخوفاً إسرائیلیاً کبیراً من الملف النووی الإیرانی، خصوصاً فی ظل الاستبعاد اللحظی لمواجهة عسکریة دولیة ضد إیران، وهذا الرأی یعتقد بأن إسرائیل ستتقدم خطوة إلى الأمام فی استهداف إیران عسکریاً.

ربما هذا الرأی غیر صائب، لماذا؟ أولاً لأن إسرائیل تواجه العزلة المتزایدة فی المحافل الدولیة، وثانیاً لأن حدودها غیر آمنة بسبب الثورات العربیة المجاورة لها والمهددة لوجودها فی أیة لحظة، ولذلک لا تستطیع إسرائیل أن تورط نفسها فی ظل الأوضاع الحرجة والمقلقة، فی فتح جبهة مواجهة مع إیران.

ثم إن إسرائیل تدرک أن الولایات المتحدة غیر مستعدة لتحمل خسائر إضافیة من جراء إطلاق حملة عسکریة ضد إیران، ولذلک فإن کل التفکیر الإسرائیلی الحالی منصب على منع حصول الفلسطینیین على دولة مستقلة، وتأبید الخلاف بین الحرکتین "فتح" و"حماس".

إسرائیل التی وافقت على صفقة التبادل، قد تستفید منها لاحقاً فی أکثر من جانب، الأول أن الصفقة نفسها أعطت زخماً لحرکة حماس، باعتبارها راعیة المقاومة والقادرة على التأثیر بقوة، فی موازین القوى الداخلیة، وهذا یقودنا إلى الجانب الثانی الذی قد تستفید منه إسرائیل فی العودة إلى مسلسل الاجتیاحات والعدوانات.

قد تلجأ إسرائیل إلى تسویق الفرضیة الآتیة: أن حماس لها امتداد حاضر فی الضفة الغربیة، وأن السلطة غیر قادرة على احتواء "حماس" هناک، وبالتالی هی لا تستحق أن تتحول إلى دولة، ثم تسعى إسرائیل إلى شن عدوان على الضفة وغزة بحجة القضاء على المقاومة ووقف التهدیدات الأمنیة التی تواجهها.

الملخص أن إسرائیل مأزومة ومهزومة وتعانی من متغیّرات داخلیة وخارجیة، وبالتالی هی وافقت على عملیة التبادل، استجابةً لموقف جمهورها الذی یرحّب بإتمام صفقة مقابل شالیت، ومن أجل إراحة نفسها ولو بشکل مؤقت من الضغوط الداخلیة، وحالیاً قد تستفید إسرائیل من کل فرصة تؤهلها للتخریب فی الشأن الداخلی الفلسطینی.

وهذه المرة ستتعامل إسرائیل فی ظل هذه الأوضاع، نقول إنها ستتعامل مع کل المعطیات بحذر، حتى فی الشأن الفلسطینی، ستکون حریصةً على تقدیم الذرائع التی تؤهلها لارتکاب عدوانات لا تکلفها ندماً کبیراً أو مزیداً من الانتقادات.

ن/25

 


| رمز الموضوع: 143317







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)