التوسع والاستیطان فی الفکر الصهیونی

محمد بن سعید الفطیسی (باحث فی الشؤون السیاسیة ورئیس تحریر صحیفة السیاسی التابعة للمعهد العربی للبحوث والدراسات الاستراتیجیة )
إن ما تقوم به الحکومة الإسرائیلیة فی فلسطین العربیة المحتلة, من محاولات التوسع والاستیطان وضم المزید من الأراضی الفلسطینیة وبناء المساکن والمستوطنات, إنما هو فکر متأصل فی جذور تاریخ هذا الکیان الغاصب منذ قیامه بقرار ظالم من الأمم المتحدة, و(مسألة مألوفة کغیرها من القضایا الکثیرة والمتنوعة التی تتداخل فی تعقیداتها الاحتلالیة القاسیة والوحشیة مع النهج السیاسی العملی المفروض على الشعب الفلسطینی العربی الأعزل, من خلال الممارسات القمعیة التی تنتهجها حکومة الاحتلال وسلطاتها العسکریة).
وآخر الأنباء الاستیطانیة کما تناقلتها وسائل الإعلام الصهیونیة تفید بصدور وثیقة عن الإدارة المدنیة - وهی فی الحقیقة إدارة عسکریة - تابعة للجیش الإسرائیلی تتحدث صراحة عن خطوات لزیادة ملکیة "إسرائیل" لأرض الضفة الغربیة , وبتلک الخطوة التوسعیة الاستیطانیة فإنها ستحول من الناحیة العملیة من قیام دولة فلسطینیة مع تواصل جغرافی - على حد قول الوثیقة.
ولهذه الظاهرة بالطبع أبعاد کثیرة ومختلفة, أرید من وراءها ترسیخ الوجود الصهیونی, وتحقیق الاستقرار للمستعمرة الإسرائیلیة الکبرى المسماة ب"إسرائیل" على ارض فلسطین, ونوجزها فی البعد الأیدیولوجی - التاریخی والدینی - والبعد الاقتصادی والأمنی العسکری والسیاسی القومی والدیموجرافی, وقد تناولت هذه الأبعاد فی تاریخ الفکر الصهیونی العدید من الدراسات والبحوث الأیدیولوجیة والتاریخیة, التی خلصت فی مجملها إلى تلازم هذه التوجه الاستیطانی مع ذلک الفکر العدوانی.
فهی - أی - سیاسة الاستیطان والتوسع, عقیدة متأصلة قبل أن تکون سیاسة مستحدثة, (فالحقیقة هی أن لا صهیونیة بدون استیطان، ولا دولة یهودیة بدون إخلاء العرب ومصادرة أراضیهم وتسییجها), وطردهم منها وتحویلهم إلى لاجئین ونازحین, ومن ذلک المنطلق فان ابسط تعریف لهذه الظاهرة هی أنها: محاولات الحکومة إلى تفریغ الأرض من سکانها الأصلیین وإحلال السکان الذین ینتمون لدولة الاحتلال مکانهم عبر الوسائل التعسفیة والقهریة والقمعیة والإرهابیة وما یرافق ذلک من مصادرة للأراضی العامة والخاصة دون مراعاة لأی اعتبارات إنسانیة وأخلاقیة أو سیاسیة او قانونیة أو غیرها.
وقد بدأت فکرة الاستیطان فی فلسطین، تلوح فی الأفق بعد ظهور حرکة الإصلاح الدینی على ید مارتن لوثر فی أوروبا، حیث بدأ أصحاب المذهب البروتستانتی الجدید ترویج فکرة تقضی بأن الیهود لیسوا جزءاً من النسیج الحضاری الغربی، لهم ما لهم من الحقوق وعلیهم ما علیهم من الواجبات, وإنما هم شعب الله المختار، وطنهم المقدس فلسطین، ویجب أن یعودوا إلیه، وکانت أولى الدعوات لتحقیق هذه الفکرة ما قام به التاجر الدنمارکی أولیجربولی فی عام 1695م ، والذی أعد خطة لتوطین الیهود فی فلسطین، وقام بتسلیمها إلى ملوک أوروبا فی ذلک الوقت .
وان دل هذا على شیء, فإنما یدل على الأهمیة البالغة والقصوى لهذا النهج الاستیطانی فی فکر بناء الدولة الصهیونیة الحدیثة, أو المستعمرة الإسرائیلیة الکبرى على ارض الطهر والرسالات فلسطین العربیة المحتلة, فنراه دائم التصدر على قمة الأولویات الصهیونیة الإسرائیلیة فی جمیع المحافل الدولیة, ولیس ذلک إلا لکونه أداة هامة لممارسة الفکر الاستیطانی الذی تقوم علیه النظریة الصهیونیة, مدعومة بکل وسائل القمع والبطش والإرهاب, والدعم المتزاید من قبل منظمات الضغط الصهیونیة المتوغلة فی جل الدول الکبرى بشکل عام, وفی الولایات المتحدة الأمیرکیة على وجه التحدید, والتی من شأنها تغییر الواقع الفلسطینی من خلال التصرفات المکرسة بأعمال البناء والهدم واستقدام المهاجرین الیهود من مختلف أرجاء الأرض.
ولیتحقق لإسرائیل الغلبة الدیموغرافیة على الرقعة الجغرافیة الفلسطینیة فی نهایة المطاف بحسب الاعتقاد الإسرائیلی, ودون الأخذ بالاعتبار إلى حقوق الشعب الفلسطینی الإنسانیة منها والأخلاقیة والقانونیة, وتنبع تلک الأهمیة الاستراتیجیة للاستیطان الصهیونی فی فلسطین: (من خلال کون هذا الاستیطان یشکل العمود الفقری والتطبیق العملی للصهیونیة, واللبنة الأولى لإنشاء الکیان الإسرائیلی فی فلسطین، فإسرائیل (کدولة) ما هی فی الحقیقة إلا مستوطنة کبیرة قامت على أساس غزو الأرض وطرد سکانها العرب, وإنشاء کیان غریب عن المنطقة العربیة من خلال جلب المهاجرین الیهود من جمیع أنحاء العالم واستیطانهم فیها).
وقد لعب الدین الکثیر فی تاریخ الیهود قدیماً وحدیثاً, لدرجة أن الصهیونیة قد نجحت فی استغلال هذا البعد بدرجة کبیرة جدا فی سیاساتها التوسعیة فی فلسطین العربیة, بل وفی العالم بأسره, ومن أهم القراءات المتزمتة التی تدل على خطورة هذا البعد فی العقیدة الصهیونیة السیاسیة الحدیثة, قول الجنرال موشی دیان, فی صحیفة الـ(جیروزالیم بوست), بتاریخ 10 أغسطس 1967م: (إذا کنا نملک التوراة, ونعتبر أنفسنا شعب التوراة, فمن الواجب علینا أن نمتلک جمیع الأراضی المنصوص علیها فی التوراة).
وفی هذا السیاق یقول الکاتب الفرنسی روجیه جارودی: (یذهب القادة الصهاینة وحتى الملحدین منهم إلى القول: بأن الرب قد وهبنا أرض فلسطین, وذلک دون التساؤل عن طبیعة هذا الوعد, أو ما ینطوی علیه المیثاق المعقود مع الرب, أو ما إذا کانت هناک شروط لذلک الاختیار الإلهی).
وهکذا یتأکد لنا, ولمن یقرأ التاریخ بشکل صحیح, بأن حکومات الکیان الصهیونی, لن تتوقف عن النهج الاستیطانی الاستعماری فی أرض الطهر والرسالات فلسطین مهما حصل, وأن محاولات التقارب والسلام مع هذا الکیان الإرهابی الغاصب لیست أکثر من لعبة فی ید طفل سرعان ما سیملها لیرمیها بکل قوته , وبالتالی فان ما تقوم به الحکومة الإسرائیلیة الیوم من توجهات لتوسعة خارطة الاستیطان فی فلسطین لیست تکتیکاً مؤقتاً کما یقول البعض ویدعی من جهلة التاریخ, وإنما هو سیاسة تاریخیة إستراتیجیة لن تتوقف أبداً.
ن/25