دویلة فلسطینیة بلا حدود ولا ضفاف..!!
ماجد الشّیخ
مرة أخرى جدیدة یکرر الرئیس الأمریکی باراک أوباما ومن على منصة الأمم المتحدة هذه المرة، ما کان قد ردده من قبل فی خطاب القاهرة فی بدایة عهده، من دون أن یترجم ما کان قد وعد به من وعود، ونادى به من مبادئ، اتضح مع الوقت أن تلک "الوعود" و"المبادئ" ومسارات الطرق التی رسمتها "خرائطه"، کما "خرائط" الذین سبقوه، مجرد حبر على ورق، حیث الطرق المسدودة والتسویات المستعصیة. وهو إن کان قد "شرّف" إسرائیل- بحسب نتانیاهو- برفضه أو معارضته للدولة الفلسطینیة، فهو فی المقابل یکون قد "خان" المبادئ التی ینادی بها ولا یلتزمها، فأی وهم لدى البعض فی أن یکون الحلیف الإستراتیجی الأمریکی لإسرائیل نزیها ولو للحظة، للدفع بمفاوضات ذات مرجعیات واضحة، فی وقت یجری فیه غض النظر عن استیطان زاحف، یبتلع یومیا مزیدا من جغرافیة الأرض الفلسطینیة. بینما تتبدد فی کل یوم جدید کل مآلات ممکنة لتسویة یجری التوافق فی شأنها بین الفلسطینیین والإسرائیلیین؟.
فی سیاق المواجهات التی بدأت تشهدها حلبة سباق رئاسة الولایات المتحدة، کتبت نیویورک تایمز یوم الإربعاء "21/ 9" أن الرئیس الأمریکی بحاجة إلى رئیس الحکومة الإسرائیلیة بنیامین نتانیاهو لتمریر قرارات فی الکونغرس، کما وفی سیاق المنافسة على رئاسة الولایات المتحدة فی الانتخابات القادمة. وأوردت الحادثة التالیة: عندما سعت الإدارة الأمریکیة خلال الشهر الماضی ألى التأکد من أن الکونغرس لن یمنع تحویل 50 ملیون دولار إلى السلطة الفلسطینیة کمساعدة مالیة، توجه إلى من وصف بأنه "اللوبی ذو التأثیر الخاص" فی إشارة إلى نتانیاهو.
وکانت صحیفة "یدیعوت أحرونوت" الإسرائیلیة، فی الیوم التالی، قد نقلت هذا النبأ استنادا إلى أنه کان یمکن رؤیة تأثیر المواجهات الإسرائیلیة- الفلسطینیة فی نیویورک على السباق على رئاسة الولایات المتحدة، وأشارت إلى تصریحات المرشح الجمهوری وحاکم تکساس- المرشح الأول بحسب الاستطلاعات- ریک بیری، والتی وصف بها سیاسة أوباما فی الشرق الأوسط بأنها "خطیرة وساذجة ومضللة" وأنه لولا أوباما لما کنا "على شفا حفیر من الهاویة" فی إشارة إلى المسعى الفلسطینی فی الأمم المتحدة.
فی کل خطابات الرؤساء الأمریکیین یوجد نسبة من التماهی مع الخطاب الإسرائیلی، وقد أمل نتانیاهو على الدوام ومنذ خطاب أوباما الأول فی القاهرة أن تلتزم الخطابات الرئاسیة الأمریکیة "مبادئ السلام الإسرائیلیة الستة" من قبیل: الحفاظ على إسرائیل باعتبارها دولة الشعب الیهودی، ودولة فلسطینیة منزوعة السلاح لا تسیطر على غور الأردن، واللاجئون لا یمکن حل مشکلتهم داخل إسرائیل، والحفاظ على الکتل الاستیطانیة، والحفاظ على القدس، وأخیرا انتهاء المطالب وإنهاء الصراع.
وکما فی الأیدیولوجیا الصهیونیة، لا تختلف الأهداف عن المبادئ أو المطالب؛ الآن أو فی المستقبل، هکذا تبدّت وتبدو أیدیولوجیا التراث الدینی والسیاسی للحرکة الصهیونیة، کما لحلفائها المخلصین الإستراتیجیین من المسیحیة الصهیونیة، لهذا لا تختلف الخطابات التی تبدو لفظیة، لکنها فی الحقیقة والواقع خطابات "فوق واقعیة"، قد تقارب فی یوتوبیتها واقعا متصورا وواهما، لا ترید الحرکة الصهیونیة مغادرته، ولا الاختلاف بین مضامینها وجوهر ما ترید.
من هنا التزام نتانیاهو فی خطاباته نهج "الحقائق" کأضالیل قدّت من أیدیولوجیا اعتدنا سماعها والتعایش معها، ومؤخرا بات الخطاب الحکومی المتطرف لائتلاف الیمین الصهیونی الحاکم؛ لا یتخارج عن التزامه تلک المبادئ، فالدولة "منزوعة السلاح" الأوبامیة؛ کما "الدولة المراقبة" السارکوزیة، لا تختلف عن "دولة نتانیاهو" التی ما فتئ ینادی بتحدیدها بین الحین والآخر، فهی دولة "سلام اقتصادی" أو فی أحسن الأحوال دولة "حکم ذاتی" تقایض جزءا من أرضها ببضع أراض فی النقب، فی مقابل عدم التنازل من جانب إسرائیل عن الکتل الاستیطانیة الکبرى فی القدس والضفة الغربیة، ومن دون الانسحاب من منطقة الأغوار کمنطقة حدودیة تتیح تواصلا حدودیا مع الأردن؛ وهذا ما لا تریده هذه الحکومة ولا أی حکومة إسرائیلیة فی المستقبل.
إن "تسویة عقاریة" کهذه، کما هی فی الذهن الإسرائیلی، وبدعم أمریکی، هی ذاتها التی تجعل من "إسرائیل دولة یهودیة لشعب یهودی معترف به دولیا"، فی مقابل دویلة حکم ذاتی منزوعة السلاح والسیادة، لا یعترف العالم بها؛ إلاّ کونها حلا لتجمعات فلسطینیة استبقیت خارج إطار الکیانات القائمة فی المنطقة، فإما أن تبقى ککیان حکم ذاتی تحت السلطة الإسرائیلیة، أو یمکنها أن تنضم إلى اتحاد فیدرالی أو کونفدرالی مع الأردن، فی ظل واقع لا سیادی للطرف الفلسطینی، وذلک باستمرار وجود هیمنة إسرائیلیة متواصلة فی الأغوار. أی نشوء دولة أو دویلة بلا حدود وبلا ضفاف.
أما اللاجئون فهم خارج إطار أی تسویة ممکنة، إلاّ إذا جرى حل مشکلتهم فی إطار الکیان غیر السیادی المسمى فلسطینیا، وهذا قمة الإجحاف بحقهم، وحق أجیالهم التی لن تنسى ولن تتخلى عن ممتلکات "الغائبین" من آبائهم وأجدادهم "المتروکة"!، على امتداد الوطن الفلسطینی فی الجلیل والمثلث والنقب. وقد شهدت ذکرى النکبة الـ63 هذا العام؛ أحد أکثر الرسائل أهمیة تمسکا بحق العودة، وتأکیدا على تجسید هذا الحق التاریخی الذی لا یمکن المساومة علیه أو التفاوض فی شأنه، من دون أخذ اللاجئین أنفسهم لقضیتهم، وللمصیر الذی لا بد من أن یقرروه هم بأنفسهم، کحق لهم ولأبنائهم من بعدهم.
وطالما أن قضایا الأمن الإسرائیلی والتحالفات الإستراتیجیة القائمة مع الولایات المتحدة، هی من قبیل القضایا التی تتطابق الآراء والمصالح فی شأنها، فسنبقى نشهد العدید من أشکال المزایدات حولها؛ بین داخل إسرائیلی قد تتباین الآراء ضمن صفوف مکوناته السیاسیة والحزبیة والمجتمعیة، وبین داخل أمریکی تتسابق أطرافه على التنافس بتقدیم أفضل شروط الولاء، لأهداف الکیان- المستعمرة الحافظة للمصالح الإستراتیجیة الخارجیة للولایات المتحدة، فی قلب منطقة جیو إستراتیجیة هامة یقع فی القلب منها وجود إسرائیل فی فلسطین، وتواجد النفط، کسلعة إستراتیجیة هامة تطلبت وتتطلب العدید من أشکال الحروب، للاحتفاظ بها.
فی خطابه الثانی "الأحد 22/مایو" أوضح الرئیس الأمریکی ما لم یکن فی حسبان نتانیاهو لدى إلقاء خطابه الأول قبل ذلک بثلاثة أیام، وذلک حین أبدى هذا الأخیر ارتیاحه لخطاب أوباما الذی حمل توضیحات لا بد منها، کی لا یُفهم موقفه على أنه أقرب إلى المطالب الفلسطینیة، لا سیما مطلب إقامة الدولة ضمن حدود عام 1967. بحیث جاء خطابه الأخیر، کواحد من خطابات إعلان التأیید لإسرائیل؛ کیانا وأمنا وأهدافا ومطالب تفاوضیة مع الطرف الفلسطینی. وهنا بالضبط مربط فرس الارتیاح الإسرائیلی الذی کان محط التباس الخطاب الأول. وها هو خطاب أوباما فی الأمم المتحدة، الذی اعترض فیه على اعتراف المؤسسات الدولیة بالدولة الفلسطینیة، "یشرّف" إسرائیل بحسب تعبیر نتانیاهو.
من هنا تبدأ الآن "حرب الحلفاء الإستراتیجیین" على هدف الاعتراف بالدولة الفلسطینیة، فی وقت یعتقد فیه أعداء الشعب الفلسطینی والشعوب العربیة، أن زخم التغییر والتحولات فی الفضاء العربی العام، بات یقدم للشعب الفلسطینی المزید من فسحات الأمل، وللشعوب العربیة الإیمان بجدوى الانتفاضات والثورات الشعبیة السلمیة، فی مواجهة أنظمة استبداد دمویة وقمع بولیسی، وما یخلقه واقع التحرر من أمثال تلک الأنظمة من قلق متزاید داخل الکیان الاحتلالی الإسرائیلی.
وإذا کان هناک من یفکر بأن انتهاء المطالب وإنهاء الصراع، قد بات قاب قوسین أو أدنى، فی اقترابه من ذاک المنحى التبسیطی الذی یقیم نتانیاهو مبادئه الستة علیها، وتقیم القیادة الفلسطینیة "دولتها" عبر مؤسسات المجتمع الدولی العاجز عن التقدم ولو خطوة إلى الأمام، لإسدال الستار على صراع تاریخی متواصل منذ أکثر من قرن على فلسطین، فإن ما یجری الیوم من ثورات على الاستبداد وأنظمته، یؤکد أن الکیان الاحتلالی الأکثر استبدادیة وقمعیة على الإطلاق، لن یکون فی منأى أو منجى من تحولات التغییر التی تصیب هذه البلاد بأکملها، ویمکنها بتداعیاتها أن تنتقل إلى بلاد العالم الواسع، فکما للاحتلال والاستبداد وجه واحد مشترک، کذلک لثورات الشعوب وانتفاضاتها وجهها الأکثر نصاعة؛ ضد کل أشکال التحالف الموضوعی مع الاحتلال، أو التغاضی عن جرائم الاستبداد.
ومهما ادعى أوباما عن قربه أو اقترابه من قوى التغییر والثورة فی بلادنا، فهو بالتأکید أبعد ما یکون من مصالح وأهداف التغییر الحقیقیة لشعوبنا، وکل ما تحاوله الولایات المتحدة فی ظل مأزقها المالی والاقتصادی غیر المسبوق، محاولة استعادة زمام السیطرة على الأقل فی هذه المنطقة التی فقدت فیها رکائز هامة لها، وأخذ الأمن الإسرائیلی بعین الاعتبار، إذ أن کل الاعتبار فی نظرها؛ لما یحیل واقع الوجود الاحتلالی الإسرائیلی، کمصلحة إستراتیجیة فی هذه المنطقة إلى معطى مریح، بحیث لا تؤثر فیه ثورات شعوبنا وأهدافها ومطالبها التغییریة. أما الدولة الفلسطینیة فمؤجلة إلى ما شاءت وتشاء المصالح المتداخلة والمعقدة للقوى الدولیة والإقلیمیة، فی ظل "القداسات" العقیدیة والأیدیولوجیة، وفی ظل غیاب الإرادة التحرریة لوطنیة فلسطینیة موحدة، تنسجم على هدف التحرر الوطنی. وهذا یحتم وجود استراتیجیة کفاحیة جدیدة، تقطع مع ما بلی وتقادم وتکلس من وضع فصائلی وفئوی، بات هو العبء الأکبر على القضیة الوطنیة.
ن/25