qodsna.ir qodsna.ir

عن الدولة الفلسطینیة

تمیم البرغوثى

  

یحلم کثیر من الساسة الفلسطینیین والعرب بما یسمونه الحل العادل والشامل للقضیة الفلسطینیة وانتهاء الصراع العربى الإسرائیلى، فإن سألتهم ما هى رؤیتهم لهذا الحل، حکوا لک الحکایا عن دولة فلسطینیة فى الضفة الغربیة وقطاع غزة، عاصمتها القدس الشرقیة.

وإذا سمح لى القارئ الکریم الیوم فأنا أقول إن الدولة الحلم، التى یریدها قادتنا نحن، هى ضارة ضررا بالغا بمصالح الفلسطینیین والعرب، وهى لن تعدو أن تکون کابوسا آخر من کوابیسنا الاستعماریة العدیدة، وستکون أداة احتلالٍ وقمع للفلسطینیین لا أداة استقلال وحریة ونمو. وأزید أن هذه الدولة الفلسطینیة التى یریدها قادتنا فى الضفة الغربیة وقطاع غزة والقدس الشرقیة، ستکون نائبة عن الاحتلال قائمة مقامه مؤدیة وظائفه حالة محله کأنها هو لا فرق بینهما إلا فى الاسم والزى والشعار. وأزید أکثر أنها ستکون کذلک حتى لو حکمها ملائکة من السماء، لأن سوءها وضررها ناتجان عن بنیتها وهیاکلها، لا عن اختیارات قادتها. إن قادتها سیکونون مضطرین دائما، لا خیار لهم، إلا ما یملیه علیهم ضعف دولتهم من ظلم بنى جلدتهم وخدمة مستعمریهم، فلا فرق إن کانوا من أولاد الناس المهذبین الطیبین أو من الأفجاج المجرمین، فلا معنى لصفات المضطر، ولا ید له فى الخیر والشر.

●●●

أتمنى أن أکون مخطئا لکن لنتخیل معا أن الدولة الحلم تلک قامت غدا فکیف ستکون؟

أولا، ستکون هذه الدولة إقرارا نهائیا من الفلسطینیین بأن عکا وحیفا مدن إسرائیلیة، حق الیهودى البولندى فیها کحق المواطن المصرى فى القاهرة، وأن سادة من أمثال الدکتورعزمى بشارة، والشیخ رائد صلاح وملیون ونصف الملیون من الفلسطینیین الواقعین تحت احتلال إسرائیل منذ عام ثمانیة وأربعین لیسوا فلسطینیین، بل هم إسرائیلیون من الدرجة الثانیة، ومن لم یرد منهم أن یکون إسرائیلیا فعلیه أن یهجر مدینته ویتجه إلى الضفة الغربیة أو قطاع غزة لینعم باستقلاله الوطنى مقابل تنازله عن وطنه الأصلى. أعنى أن الدولة الفلسطینییة فى الضفة وغزة تضع أهل عکا وحیفا أما خیار غریب، الاستقلال فى جهة والوطن فى جهة، وبینهما سور.

ثانیا، من الناحیة الأمنیة، ستصبح مصلحة الدولة الفلسطینیة متوحدة مع مصلحة إسرائیل، لأن القادة الفلسطینیین سیعلمون أن أى هجوم على إسرائیل من الجبهة الشرقیة مثلا، سیهدد وجود دولتهم، لأن إسرائیل ستفضل أن تدور المعارک على أراضیهم هم بدلا من أراضى السهل الساحلى الضیق. أى أن سلامة إسرائیل من أى هجوم علیها سیکون مصلحة یعمل على تحقیقها القادة الفلسطینیون. وأکثر من ذلک، سیعمل هؤلاء القادة على حمایة إسرائیل من أیة عملیات فدائیة تنطلق من أراضیهم، خوفا من أن تکون ذریعة لاجتیاح إسرائیلى یعید احتلال الدولة الولیدة، أى أن خوفنا من احتلالهم لنا سیؤدى بنا إلى احتلال أنفسنا لحسابهم. سیکون استقلالنا من الناحیة الأمنیة على الأقل امتدادا للاحتلال الإسرائیلى، نحمیهم من أهلنا فى المخیمات، ونحمیهم من أهلنا العرب. والأدهى أن هذا الحلف الأمنى مع العدو سیمکن تبریره بصفته حفاظا على المصلحة العلیا للدولة الفلسطینیة الولیدة، وسیکون کذلک فعلا. لو أعدنا تعریف الذات، فسیعاد تعریف مصلحة الذات، ولو أصبح الوطن هو الضفة وغزة فقط، لأصبح التعاون مع إسرائیل وطنیة ومقاومتها تهدیدا لأمن ذلک الوطن.

ثالثا، من الناحیة الاقتصادیة، ستکون هذه الدولة معتمدة اعتمادا کاملا على الاقتصاد الإسرائیلى، حیث ستنشأ شرکات مسجلة فى الدولة الفلسطینیة یملک أسهمها إسرائیلیون تسوق منتجاتها فى العالم العربى الواسع، وحیث رجال الأعمال الفلسطینیون یشترون السلع الإسرائیلیة لبیعها فى الأراضى الفلسطینیة وبلاد العرب، وحیث یشتغل بعض العمال الفلسطینیین فى إسرائیل لإعالة أسرهم. وقد رأینا نموذجا من ذلک فى أیام أوسلو الأولى، حیث کان ثلث الید العاملة الفلسطینیة فى الضفة الغربیة وغزة یعمل فى إسرائیل، وکان الثلث الآخر معتمدا فى معیشته على بیروقراطیة السلطة الوطنیة الفلسطینیة، التى تعتمد بدورها على إسرائیل، إذا خالفتها انقطع عنها مالها وعجزت عن دفع رواتب الناس، فکان ستة وستون بالمائة من المجتمع الفلسطینى فى الضفة وغزة معتمدأ بشکل مباشر أو غیر مباشر على قوة الاحتلال. ولا شیء یدل على أن ذلک سیتغیر إذا قامت الدولة غدا. ستکون دولة تابعة اقتصادیا، ومنکشفة عسکریا، ومتعاونة أمنیا.

رابعا: من الناحیة السیاسیة، وحقوق الإنسان والحریات الأساسیة، ستکون هذه الدولة دولة غیر دیمقراطیة بالضرورة. إن ثلث سکان الضفة تقریبا وثلثى سکان غزة هم من اللاجئین الذین أخرجوا من دیارهم عام ثمانیة وأربعین، ولا مصلحة لهم فى هذه الدولة التى ستحرس إسرائیل منهم وتبقیهم معتمدین علیها فى خبز یومهم. لذلک، إذا ترکت الحریة لهم، فإنهم سینتخبون قوى سیاسیة تعدهم بتغییر قواعد اللعبة وبالاستقلال الاقتصادى والسیاسى والأمنى والعسکرى عن إسرائیل.

لکننا نعلم أن هذا یعنى تفکیک الدولة الفلسطینیة الولیدة، حیث یضعها فى مواجهة لا قبل لها بها أمام إسرائیل، وعلیه فإن أیة عملیة دیمقراطیة فى فلسطین الجدیدة ستکون مشروطة بأن لا تؤثر على السلام مع العدو، وأن لا تسعى للاستقلال الحقیقى عنه. وقد رأینا نموذجا من ذلک حین عوقب الشعب الفلسطینى کله بالتجویع والحصار لأنه صوت لحزب أو حرکة لم تکن إسرائیل راضیة عنها. ولا یقف ضرر غیاب الدیمقراطیة عند هذا الحد، ففى غیاب مجلس نیابى منتخب انتخابا نزیها لن تکون هناک رقابة حقیقیة على المیزانیة، وهذا یؤدى طبعا إلى استشراء الفساد، والفساد یعنى أن أى مال یصل لهذه الدولة مقابل سلامها مع إسرائیل وتعاونها الأمنى معها، لن یصل إلى فقرائها، بل سیبقى فى أیدى قادة الدولة والمتنفذین فیها، فیخرج الفقراء الفلسطینیون، واللاجئون منهم، فى الداخل والخارج، مقموعین محرومین، خاسرین حقهم فى العودة، وخاسرین حتى الثمن الذى بیع به هذا الحق.

●●●

ربما کانت الحسنة الوحیدة لهذه الدولة أنها ستمنح بعض الفلسطینیبن جوازت سفر صالحة، ومن المفارقة أن حسنتها الوحیدة هى أن تتیح لهم فرصة مغادرتها.

أما من یسأل ما البدیل؟ فنحیله لما کررناه مرارا فى هذه الزاویة عن الحلف المتکون فى المشرق من ترکیا وإیران والعراق وسوریا ولبنان وربما مصر، والذى یمکن أن یدعم مقاومة فلسطینیة تدخل النظام الصهیونى فى حرب استنزاف لا یستطیع أن یحقق فیها نصرا، فنفکک النظام الذى یظلم الفلسطینیین بدلا من أن نبنى نظاما آخر بجانبه یظلمهم أیضا.

ن/25

 


| رمز الموضوع: 143298