فلسطین.. ابتزاز التسویة ووهم المعرکة
فلسطین.. ابتزاز التسویة ووهم المعرکة
سیف دعنا
لو کان مسار الأمم المتحدة عنوان تغییر فی إستراتیجیة "المفاوضات أولاً وأخیرا" التی أثبتت فشلها الذریع, وبدایة لشیء جدید، لکان بالإمکان تفهم إِعطاء من یقود هذه الحملة فرصة. لکن, ما نحن بصدده هو معرکة وهمیة حقا ستسهم فی الالتفاف على نتیجة فشل نهج التسویة برمته ولیس فشل مسار أوسلو فقط, بینما یترافق هذا الالتفاف مع ابتزاز الأصوات المعارضة حدّ إِسکاتها.
فالمعرکة -کما یقال لنا- هی مع العدو، ولیس هناک من یرید الوقوف فی وجه من یحارب العدو. لا یحتاج الفلسطینیون إلى قرار دولی للزحف باتجاه القدس, بل یحتاجون إلى قرار فلسطینی. ربما یستشهد بعضهم, لکن لیس هناک -ولن یکون- ما هو أشرف من الموت فی الطریق إلى القدس.
ابتزاز التسویة
منذ أجمعت فصائل منظمة التحریر على نهج التسویة فی دورة المجلس الوطنی الفلسطینی الثانی عشر فی یونیو/حزیران 1974 (بعضها التحق بهذا النهج لاحقا)، هیمن خطاب الدولة وتعمم ما یمکن تسمیته "منطق التسویة"، وأصبح لهما نوع من سلطة استبدادیة فی الفکر السیاسی الفلسطینی لها قوة الابتزاز (هکذا أصبح من غیر المعقول الحدیث عن تحریر فلسطین).
فبینما وصل خیار التسویة إلى حائط مسدود، یبدو أن نقد مسار الأمم المتحدة والتحفظ علیه لا یزال یصطدم بحائط هذا المنطق. لذلک وباستثناء القلة التی ترفض المسار الأممی من خارج "منطق التسویة" ولا تتبنى "التفکیر التسووی", یقع من یعارض هذه الخطوة من داخل سیاق هذا المنطق وهذا التفکیر فی مصیدة الابتزاز وشرک التحفظ على شروط التسویة, لا رفض مبدأ التسویة (طالما تؤید التسویة بالمبدأ تصبح معارضتک سیاسیة ونفاقا, لا وطنیة الدافع).
المشکلة أساساً هی فی الفکر السیاسی الفلسطینی السائد (الفکر التسووی) الذی قاد الانقلاب على الفکر الثوری وحَوّل الثوار إلى مُجَندین -وإِن کانوا غیر متطوعین أو من حیث لا یدرون- للمشروع المضاد. فالمشکلة فی نهایة المطاف هی الکیان الصهیونی, لا رئیس وزرائه. هکذا تفشل الثورات وتنقلب على نفسها, وهکذا یخضع من یتشارک فی الفکر لابتزاز التسویة. فالمشکلة هی فی فکرة التسویة, لا فی شروطها.
هذا الابتزاز الذی مکّن نخبة التسویة من الالتفاف على حقیقة فشل مشروع التسویة والاستمرار فی العمل کالمعتاد, هو ما یضع المُعارض للمسار من داخل منطق التسویة فی موقع الدفاع الدائم عن النفس. فباستثناء تشکیک حرکة الجهاد الإسلامی (وبعض المستقلین) بالخطوة بناء على موقف مبدئی رافض لنهج التسویة, فإِن بعض القوى الفلسطینیة الأخرى أیَّدَت الخطوة بفعل هذا الابتزاز.
وحین أعلن نواب حرکة حماس فی المجلس التشریعی مؤخرا معارضتهم للخطوة, وُصِفَ موقفهم بأنه "یصب مباشرة فی خدمة إسرائیل ویتناغم مع تهدیداتها وضغوط الإدارة الأمیرکیة". هذا هو ابتزاز التسویة وابتزاز خطاب الدولة، فإِما أن تقول نعم وتکون مع المسار الجدید القدیم (الذی یتضمن الاعتراف بالکیان الصهیونی والتسلیم بأن أکثر من ثلاثة أرباع أرض فلسطین حق للکیان الصهیونی وغض النظر عن حق العودة)، وإِما أن تقول لا وتتهم بأنک فی خدمة إسرائیل.
طبعا, ربما تکون هناک حسابات سیاسیة حقیقیة -ومصالح حزبیة وشخصیة أحیانا- لمواقف القوى الفلسطینیة المختلفة وقیاداتها. لکن لا یمکن إنکار دور ابتزاز خطاب الدولة وخطاب المعرکة الوهمیة مع العدو.
وطالما بقیت القوى السیاسیة الفلسطینیة أسیرة استبداد "التفکیر التسووی"، ستبقى عالقة فی دائرة مغلقة تعید إنتاج أخطائها وفشلها. آن الأوان لنبذ الفکر التسووی وإعادة الاعتبار إلى النهج المعادی للکولونیالیة ولمسار التحریر (حین تستوطن مجموعة من الأوروبیین أی منطقة فی العالم, فهم مستعمرون ولیسوا حُجاجاً أو شرکاء).
وهم المعرکة
هذه معرکة وهمیة حتى بمنطق التسویة السائد کما سنرى فی النقاش التالی، فالقیادة الفلسطینیة حتى اللحظة (أیام قلیلة قبل الموعد) لم تعلن خطتها لهذا المسار، فی حین تطالب بوقوف الجمیع إلى جانبها فی خیار لا تزال تفاصیله سریة ومادة لمناورة هزلیة لعلها تثمر صفقة جدیدة للعودة إلى المفاوضات.
فهل ستذهب القیادة الفلسطینیة إلى مجلس الأمن من أجل عضویة کاملة, أم أنها فعلا لا ترید المواجهة مع الإدارة الأمیرکیة کما تقول, وستذهب إلى الجمعیة العامة وتکتفی بدولة غیر عضو (لأن حضور الفلسطینیین فی بعض الهیئات الدولیة أهم من حضورهم فی القدس)؟ وهل ستوافق فی نهایة المطاف على مجرد تحسین وضعیة منظمة التحریر فی الجمعیة العامة مقابل التراجع عن المسار, أم أنها ستتخلى عن هذا المسار کلیا مقابل صفقة أخرى للعودة إلى المفاوضات, کما أشارت بعض التقاریر الإعلامیة؟
هل سیتضمن المشروع اعترافا آخرا وجدیدا بالکیان الصهیونی یوثق -وبطلب فلسطینی- فی قرار دولی هذه المرة لطمأنة هذا الکیان عن حقیقة النوایا الفلسطینیة، ولیشکل انقلابا فعلیا على النشاط المثمر لآلاف العرب وغیر العرب الذین یعملون کل یوم على نزع الشرعیة عنه؟ الله وحده یعلم, وهو ما یضع الموضوع برمته خارج الحدیث فی السیاسة ویحوله إلى "فزّورة" کما یقول إخواننا المصریون.
یبقى أن الأهم هو ما سیحدث فی الیوم التالی: هل ستقود القیادة الفلسطینیة بأشخاصها ملیونیات شعبیة لتطبیق القرار وفرض سلطتها الفعلیة على الأرض والدخول إلى القدس؟ -وهذا طبعا نضال غیر عنفی یتذکره من لا یمارسه کوسیلة لرفض المقاومة بمفهومها الشامل- للأسف أیضا, نعرف الجواب على هذا السؤال، فعقب القرار الاستشاری لمحکمة العدل الدولیة فی یولیو/تموز 2004 بخصوص موضوع الجدار -نص القرار على عدم شرعیة الجدار وأن الضفة وغزة والقدس أراض محتلة، وهو أقصى ما یمکن أن یبلغه مسار الأمم المتحدة الحالی- لم یکن هناک أی حراک لتحویل هذا القرار إلى أساس لأی نشاط سیاسی أو نضالی وتم تجاهله (ملیونیات لإزالة الجدار لن تکون إلا تطبیقا للقانون الدولی).
والکل یذکر ما حل بتقریر غولدستون الصادر فی سبتمبر/أیلول 2009 بخصوص المجزرة الصهیونیة فی غزة والمتضمن لکل ما تطلبه القیادة الفلسطینیة من خیار الأمم المتحدة. ولم یصف التقریر ما قام به الکیان من جرائم حرب فقط, بل أکد أیضا أن الضفة العربیة والقدس وقطاع غزة أراض محتلة.
هی معرکة وهمیة لأن الأمم المتحدة صوتت وتصوت کل عام وبدون انقطاع منذ دورتها التاسعة والعشرین عام 1974 فی ما اصطلح على تسمیته "الحل السلمی لقضیة فلسطین"، وتؤکد على حقوق الشعب الفلسطینی الثابتة (العودة, وتقریر المصیر, وإقامة الدولة) فی أکثر من سبعین قرارا حتى الآن.
ففی الدورة التاسعة والعشرین للهیئة العامة للأمم المتحدة سنة 1974 اتخذت الهیئة مجموعة من القرارات الخاصة بالقضیة الفلسطینیة, منها دعوة منظمة التحریر کممثل للشعب الفلسطینی للمشارکة فی نقاش موضوع فلسطین فی جلساتها (قرار 3210 یوم 14 أکتوبر/تشرین الأول 1974), وتأکید الحقوق غیر القابلة للتصرف للشعب الفلسطینی (قرار 3236 یوم 22 نوفمبر/تشرین الثانی 1974), ودعوة منظمة التحریر للمشارکة کعضو مراقب فی کل دوراتها والمؤتمرات التی تعقدها (قرار 3237 یوم 22 نوفمبر/تشرین الثانی 1974).
وفی دورتها الثلاثین فی العام التالی تم تشکیل "لجنة ممارسة الشعب الفلسطینی لحقوقه الثابتة" من قبل الجمعیة العامة للأمم المتحدة بموجب القرار 3376 یوم 10 نوفمبر/تشرین الثانی 1975 (تضمن القرار الطلب من اللجنة تقدیم توصیات للتطبیق والطلب من مجلس الأمن النظر فی مسألة ممارسة الشعب الفلسطینی لحقوقه).
وفی دورتها الثانیة والثلاثین أکدت الجمعیة العامة ما سبق أن أقرته وطالبت فی قرارها (40/32 قسم ب یوم 2 دیسمبر/کانون الأول 1977) الأمین العام للأمم المتحدة بتشکیل وحدة خاصة فی الأمانة العامة معنیة بالحقوق الفلسطینیة، ویکون من مهامها الإحیاء السنوی "للیوم العالمی للتضامن مع الشعب الفلسطینی" یوم 29 نوفمبر/کانون الثانی من کل عام.
وفی 15 دیسمبر/کانون الأول 1988, وعقب إعلان المجلس الوطنی الفلسطینی یوم 15 نوفمبر/تشرین الثانی فی الجزائر للدولة الفلسطینیة، صدر قرار عن الهیئة العامة للأمم المتحدة فی دورتها الثالثة والأربعین (قرار 177/43) یتضمن بشکل مختصر ما یلی:
1- تعترف (أو تقر) الهیئة (العامة) بإعلان دولة فلسطین.
2- التأکید على الحاجة لتمکین الشعب الفلسطینی من ممارسة سیادته على أراضیه المحتلة عام 1967.
3- تقرر الهیئة واعتبارا من 15 دیسمبر/کانون الأول 1988, استبدال تسمیة "فلسطین" بدلا من "منظمة التحریر الفلسطینیة" فی نظام الأمم المتحدة, بدون أی مساس بمکانة ووظیفة المراقب.
هی معرکة وهمیة لأن هدفها العودة إلى مفاوضات کان فشلها السبب الأساسی الذی دفع القیادة الفلسطینیة إلى التفکیر فی مسار الأمم المتحدة, وهو ما تردده القیادة الفلسطینیة یومیا (المفاوضات أولا وثانیا وثالثا)، ولیست خیارا إستراتیجیا جدیدا یفترض إعطاؤه فرصة على اعتبار أنه لم یجرب سابقا. فحتى لو لم تستخدم الولایات المتحدة الفیتو (وهذا على ما یبدو مستحیل إِن کان الخیار مجلس الأمن) وحصلت فلسطین على عضویة کاملة, فإن هذا لن یحسن شروط المفاوضات کما یقال لنا. ففشل المفاوضات لیس سببه قلة القرارات الدولیة أو التأیید العالمی لحقوق الشعب الفلسطینی, بل ضعف إرادة الطرف الفلسطینی الذی تنازل عن کل مقومات القوة التی یمکن أن توفرها له الخیارات الأخرى. بل إِن بعض القرارات تطالب حتى بما لا تطالب به القیادة الفلسطینیة بقبولها لتبادل الأراضی (القرار 176 فی الدورة 43 یوم 15 دیسمبر/کانون الأول یطالب بتفکیک المستوطنات).
القرارات الدولیة ستبقى بلا أسنان طالما یصر الطرف الفلسطینی على مصادرة حقه الذی تضمنه الشرعیة الدولیة فی المقاومة. فإذا کان أکثر من سبعین قرارا دولیا صادرا عن الجمعیة العامة للأمم المتحدة لم تستطع تحسین شروط المفاوضات ولم تشکل ذخیرة من أی نوع للمفاوض الفلسطینی فی ظل الخلل القائم فی موازین القوى نتیجة التسلیم بخیار المفاوضات کخیار وحید, فقرار جدید لن یزید الوهم إلا وهما.
مرة أخرى.. لا یحتاج الفلسطینیون إلى قرار دولی للزحف باتجاه القدس, بل یحتاجون إلى قرار فلسطینی. ربما یستشهد بعضهم, لکن لیس هناک -ولن یکون- ما هو أشرف من الموت فی الطریق إلى القدس.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS