الخروج من الکامب
عبد الحلیم قندیل
هل یمکن أن یأتی یوم تلغى فیه معاهدة السلام المصریة 'الإسرائیلیة' المعروفة إعلامیا باسم اتفاقیة کامب دیفید؟.
الجواب المباشر عندی: نعم.
والأسباب ظاهرة، وأهمها ما یجری فی مصر الآن بعد ثورتها الشعبیة العظمى، والتی تتوالى موجاتها، وتنزح من بئر ألم عظیم یستشعره المصریون بعد سنوات الغیبوبة .
صحیح أن الطرق لاتبدو سالکة بسهولة، وأن مصر ـ بعد ثورتها ـ تواجه مصاعب کبرى، وأن المتاعب فی کل اتجاه، فقد بدت الثورة فی صورة دراما هائلة، ولکن بلا قیادة مطابقة، وهو ما استدعى لجوءا إلى الإستعانة بصدیق، وتصادف أن کان الصدیق فی صورة المجلس العسکری، وهو لیس مجلسا لقیادة الثورة، ولیست لدیه ـ بطبیعة التکوین ـ أحلام الثورة ولا أشواقها ولا طموحاتها، وبدا فی وضع 'الوکیل' نیابة عن 'الأصیل' الذی هو الدراما السائلة لثورة الشعب المصری، وکثیرا ما حدثت أزمات واختناقات بین الوکیل والأصیل، وإلى حد بدا معه الوکیل فی حالة من السکون الذی لایتحرک إلا تحت الضغط الشعبی، بدا المجلس العسکری دائما فی حالة من الإزاحة الفیزیائیة، وفی بیئة مناخ متقلب، تهتز فیه أحوال الأمن الداخلی، وتتدافع موجات القلق الاجتماعی، ویتزاید فیه إحساس الناس بأنه لاسبیل لکسب حقوقهم بغیر اللجوء للتمرد السلمی، مفرقا کان أو مجمعا.
وبینما بدت النخب السیاسیة التقلیدیة متصارعة متقاتلة على أشیاء تخصها، ومن نوع تنظیم المجال السیاسی، وإطلاق حریة تکوین الأحزاب، وبناء نظام انتخابی جدید، ورسم سیناریو المرحلة الانتقالیة، وبدا المجلس العسکری ـ فی المقابل ـ على صورة الشریک المؤتمن أحیانا، والشریک المخالف فی أحوال أکثر، والمحصلة: مقادیر ملحوظة من التباطؤ والریب المتبادلة، وانحراف الاهتمام إلى معارک طواحین هواء، ومن نوع الاستقطاب على شعار الدولة المدنیة مقابل شعار الدولة الدینیة، وتصعید الاستقطاب إلی حدود خطرة توحی بنوع من الحرب الأهلیة الثقافیة، وفی قضیة مزیفة بالجملة، فلا العلمانیة التی یفهمها أنصار مبدأ الدولة المدنیة ممکنة فی مصر، ولا الدولة الدینیة على طریقة السلفیین الوهابیین واردة، لا الفصل الکامل بین الدین والدولة ممکن، ولا الدولة الدینیة مما تستسیغه شریعة وثقافة الإسلام، وکل الأطراف متفقة على مکانة الشریعة فی الدستور، وعلى التحول لنظام دیمقراطی، وهو ما یبدو کافیا جدا کقاعدة لاتفاق أوسع، ولانهاء حرب مفتعلة یقصد بها الإلهاء وکف الاهتمام عن حروب ومعارک حقیقیة تتصل بمستقبل مصر، وأولها مواریث کامب دیفید بالذات، والتی صعدت إلى صدارة المشهد المصری، برغم تواطؤ نخب التزییف، وصارت قضیة مصر الأولى بالاهتمام، وإلى جوار القضایا الاقتصادیة والاجتماعیة فی بلد غاطس بأغلبیة أهله تحت خط الفقر والبطالة والعنوسة وإهدار الکرامة الانسانیة.
وقد لا تکون قضیة مصر الدیمقراطیة هینة، لکنها الأسهل فی التقدم الى حلولها، وفی صیاغة دستورها، بینما تبدو قضیة انحطاط التنمیة أعقد، وتحتاج قضیة استئناف التنمیة والتصنیع وعدالة التوزیع إلى مدى أطول، وإلى اصوات سیاسة باتجاه الیسار بدیلا عن أصوات الیمین الدینی واللیبرالی الطاغیة الاّن، لکن النظام الدیمقراطی لن یستقر فی مصر، ولن یؤتى ثمارا فی التقدم إلى نهضة تلیق، وإلى قوة خلق تحتاجها مصر، لن یحدث شیء من ذلک مع بقاء قضیة مصر الوطنیة معلقة، فمصر بلد تحت الاحتلال السیاسی الأمریکی، وجهاز المعونة الأمریکیة سلطة انتداب حقیقیة فی مصر، فضلا عن انعدام فرص بناء صناعة حربیة ومدنیة کبرى فی ظل وقوع مصر تحت التهدید الدائم لحد السلاح الإسرائیلی، وبأثر من اخلاء السلاح الى عمق 150 کیلومترا فی سیناء، وهذه کلها من مصائب کامب دیفید.
العناوین الثلاث ـ إذن ـ مترابطة، قضیة مصر الدیمقراطیة، وقضیة النهضة والتصنیع وعدالة التوزیع، وقضیة مصر الوطنیة، والتی تطرح مهمات استعادة الاستقلال الوطنی، وتحریر مصر سیاسیا من القید الأمریکی ـ الإسرائیلی، والذی استحکمت حلقاته بدءا بعقد ما یسمى معاهدة السلام، والتی انتهت إلى نزع سیادة السلاح فی سیناء، ثم أعقبتها المعونة الأمریکیة الضامنة، وبشروطها واّلیات عملها، والتی أکملت نزع سیادة السلاح بنزع سیادة القرار، وفی مصر کلها هذه المرة، ولیس فی سیناء وحدها.
وربما لا ینبغی أن تغیب عن البال حقیقة کبرى، وهی طبیعة الثورة الشعبیة ضد نظام مبارک، هذه الثورة لم تکن فقط ضد ما یمثله هذا النظام من استبداد سیاسی عائلی، بل کانت ثورة ضد نظام یمثل حالة انحطاط تاریخی آل إلیها الوضع فی مصر، توقفت فیها مقدرة مصر على مواصلة خطط التنمیة والتصنیع والاختراق التکنولوجی، وعلى خلق مجتمع جدید من قلب المجتمع القدیم، وعلى التحدیث الشامل للرؤی والسلوک، فیما حل اقتصاد النهب العام، ومجتمع الغیبوبة، وبالتوازی مع عقد ما یسمى معاهدة السلام، وتفکیک الدور القیادی لمصر فی أمتها العربیة، وإحلال دور آخر لمصر، خادم لمصالح الأمریکیین والإسرائیلیین، وقانع بأدوار وساطة وسمسرة سیاسیة سرعان ما تآکلت الحاجة إلیها، وهو ما یعنی ـ ببساطة ـ أن الثورة ضد نظام مبارک وعائلته تعنی شیئا محددا للغایة، وهی أنها ثورة ضد نظام کامب دیفید فی مصر، واکتسبت طابعها الشعبی التلقائی بدواعی النزح من بئر غضب عظیم، تراکمت مخزوناته الاحتماعیة والسیاسیة على مدى عقود الألم، والإحساس بالمهانة وانحطاط الدور، وجعلت من معانی الحریة والعدالة والکرامة أشواقا تلقائیة لکل الناس.
وبقدر ما کانت الثورة الشعبیة ردا لاعتبار الشعب المصری، واستعادته لثقته بنفسه، وبمقدرته على صنع المعجزات، وتحدى القوى التی تظن فی نفسها القدرة والقوة غیر النهائیة، بقدر ما کانت الثورة استردادا للثقة بالذات، فإنها استردت لقضیة مصر الوطنیة اعتبارها، والسبب ـ ببساطة ـ فی الطابع الوطنی الذاتی لفعل الثورة نفسه، وفی سیطرة مزاج شعبی کاره لتغول الأمریکیین والإسرائیلیین، ومناصر لحرکات المقاومة المسلحة، وراغب فی استعادة کرامة مصر، وهو ما یفسر سلوکا بدا تلقائیا لجمهور الثورة المصریة، وهو یقیم جمعة الغضب من أجل فلسطین فی أسابیع الثورة الأولى، ثم توالى دفقات الغضب من أجل حریة مصر، ودخول أولویات التحرر من هیمنة الأمریکیین والإسرائیلیین على خط التظاهر الشعبی، وبدء طرح إمکانیة إلغاء اتفاقیة کامب دیفید على جدول النقاش العام، وتدفق آلاف الجنود المصریین إلى شرق سیناء فی أول اختراق فعلی لمحظورات معاهدة العار، والبقیة تأتی، وإن تباطأت الخطى.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS