الاثنين 14 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

الرهان التفاوضی الفلسطینی الأخیر

الرهان التفاوضی الفلسطینی الأخیر

 

نقولا ناصر

 

سبق أن وعد الراعی الأمریکی على مستوى الرئاسة مفاوض منظمة التحریر بمفاوضات على قضایا "الوضع النهائی" تفضی إلى "حل الدولتین" عام 1999 وعام 2005 وعام 2008، دون أن یفی بوعده، ومع ذلک فإن مفاوض المنظمة قد أخذ على محمل الجد الوعد الأمریکی الذی جدده الرئیس الحالی باراک أوباما فی مستهل عهده بدولة فلسطینیة خلال عامین، لیقدم المفاوض هذه المرة "وعدا فلسطینیا" بولادة دولة فلسطینیة فی شهر أیلول/ سبتمبر المقبل، فی رهان أخیر على إقامة الدولة فی ذلک الموعد أو، "کملاذ اخیر"، کما قال "الرئیس" محمود عباس لتلفزیون فلسطین فی نیسان/ أبریل العام الماضی، سوف یحل سلطة الحکم الذاتی الإداری المحدود ویسلم "المسؤولیة الکاملة" عن الضفة الغربیة إلى دولة الاحتلال ثم یذهب إلى مجلس أمن لأمم المتحدة لیطلب منها الاعتراف بدولة فلسطینیة فی الأراضی المحتلة عام 1967، وإذا حال حق النقض "الفیتو" الأمریکی دون ذلک فإنه سیذهب إلى الجمعیة العامة للمنظمة الأممیة للهدف نفسه.

لکن کل الدلائل تشیر إلى أن الولادة الموعودة فی الشهر التاسع من العام الجاری لن تتم لأن الحمل کاذب ووهمی، أما إذا کان هناک حمل فعلا فإنه سیکون حملا غیر شرعی یتمخض عن جنین مشوه لن تتسنى له الحیاة خارج الحاضنة الاصطناعیة لدولة الاحتلال.

إن حق النقض "الفیتو" الأمریکی الذی استخدمه أوباما یوم الجمعة الماضی سوف یدخل التاریخ باعتباره الأول من نوعه فی عهد إدارته وسوف یدخل التاریخ الفلسطینی باعتبار هذا الاستخدام الأول له کان موجها ضد الشعب الفلسطینی وبخاصة الجزء الذی یعیش منه تحت الاحتلال منذ عام 1967 بفضل "الفیتو" الأمریکی الذی استخدمه أسلافه. وکانت المجموعة العربیة قد أفشلت مناورة أمریکیة بعد لقائها بالسفیرة الأمریکیة لدى الأمم المتحدة سوزان رایس یوم الأربعاء الماضی لاستبدال مشروع القرار الذی تقدمت به إلى مجلس الأمن الدولی بواسطة لبنان، العضو العربی الوحید فی المجلس، بشأن الاستیطان ببیان رئاسی.

ولا جدید طبعا فی استخدام "الفیتو" الأمریکی ضد الشعب الفلسطینی، وتکمن أهمیة هذه الممارسة الأمریکیة المألوفة إن تجددت فی کونها مؤشرا لا یقبل الجدل على أن مفاوض منظمة التحریر قد تورط فی وعد شعبه بدولة بناء على وعد أمریکی تقدم به أوباما فی الثانی من أیلول/ سبتمبر الماضی باختتام المفاوضات "المباشرة" بین مفاوض المنظمة وبین حکومة دولة الاحتلال خلال عام ینتهی فی الشهر نفسه من العام الحالی ثم جدد وعده فی خطابه إلى الجمعیة العامة للأمم المتحدة فی الشهر نفسه عندما قال: "عندما نعود إلى هنا العام المقبل یمکن ان یکون لدینا اتفاق سوف یقود إلى عضو جدید فی الأمم المتحدة- دولة فلسطین مستقلة وذات سیادة تعیش فی سلام مع إسرائیل".

لقد کان هذا هو الأساس الذی بنى علیه مفاوض المنظمة وعده بدولة فی أیلول/سبتمبر المقبل، وهو أساس کالرمال السیاسیة المتحرکة الأمریکیة المعروفة التی تبتلع من یتعسه حظه فیجد نفسه غارقا فیها فکم بالحری من یذهب إلیها بقدمیه کمفاوض المنظمة الذی یدخلها بعینین مفتوحتین لکنهما لا تبصران.

لقد کان المتوقع أن ینفض المفاوض یده تماما من أی رهان على وعود أوباما بعد أن توقفت المفاوضات "المباشرة" بعد ثلاثة أسابیع من إطلاقها فی واشنطن نتیجة عجز أوباما وفشله وتراجعه عن الوفاء بوعوده أمام تحدی دولة الاحتلال له ولهیبة بلاده علنا، لأن تحدید ایلول المقبل موعدا لولادة دولة فلسطینیة مشروطة مسبقا باختتام مفاوضات تستغرق عاما لم یقدر لها حتى الآن أن تستأنف بعد توقفها یصبح محاولة یائسة للتشبث بأمل کاذب فی أن تحدث معجزة ما تلزم أوباما بوعده حتى یستطیع مفاوض المنظمة أن یفی بوعده بدوره.

وقد وقعت معجزة فعلا فی تونس أولا ثم فی مصر، أطاحت بظهیرین عربیین رئیسیین لمفاوض المنظمة، ووجد "شرکاء" هذا المفاوض فی "عملیة السلام" فی ضعفه الناجم عن هذه المعجزة "لحظة فرصة" لدفعه إلى استئناف المفاوضات "المباشرة" دون شروط، کما قال ممثل الرباعیة تونی بلیر یوم الاثنین الماضی، لیصبح "الوقت عاملا وإحراز تقدم عاجل فی التسویة الفلسطینیة الإسرائیلیة أمر ضروری" کما أضاف وزیر خارجیة روسیا سیرجی لافروف فی الیوم التالی، لتنضم مسؤولة الأمن والسیاسة الخارجیة للاتحاد الأوروبی کاثرین أشتون فی الیوم نفسه إلى جوقة من یعتبرون "التغیرات الهامة فی تونس وطبعا فی مصر فرصة لنا کی نحاول ونشارک بصورة أفضل وأسرع فی حل قضیة عملیة السلام"، بینما رأى وزیر الخارجیة البریطانی ولیام هیغ یوم السبت المنصرم أنه "من الحیوی الآن: إحراز تقدم فی "عملیة السلام" باعتبار ذلک "أحد الأشیاء الجیدة التی قد تتمخض عن الأحداث فی مصر وتونس"، ومثل هؤلاء اعتبر الرئیس الفرنسی نیکولا سارکوزی "التغیرات" المصریة والتونسیة فرصة تجعل "من الملح إحیاء المفاوضات المباشرة بین الإسرائیلیین وبین الفلسطینیین" کما قال فی التاسع من الشهر.

وهؤلاء هم ممثلو الأعضاء الثلاث فی اللجنة الرباعیة الدولیة الراعیة لـ"عملیة السلام فی الشرق الأوسط". أما العضو الأمریکی الرابع فی "الرباعیة" الذی یقود هذه العملیة فقد کشفت ردود فعله الرسمیة على سقوط نظام الرئیس السابق حسنی مبارک أن الولایات المتحدة معنیة بضمان أمن دولة الاحتلال الإسرائیلی واستمرار الالتزام المصری بمعاهدة الصلح المنفرد معها باعتباره الضمانة الأهم لأمنها أکثر مما هی معنیة بالسلام وأی عملیة له.

ولم یفوت هذه "الفرصة" حتى رئیس دولة الاحتلال شمعون بیریس الذی حث فی مؤتمر هرتزلیا الحادی عشر فی السادس من الشهر على أنه "یجب على إسرائیل أن تعمل فی أقرب وقت ممکن على حذف الصراع الإسرائیلی – الفلسطینی من الأجندة الإقلیمیة" بسبب "الأحداث الدرامیة الأخیرة" فی المنطقة لیتفق معه الأمین العام لحلف "الناتو" أندیرز فوغ راسموسین فی المؤتمر نفسه على أن "عدم حل هذا الصراع سوف یظل ینسف الاستقرار فی المنطقة".

وکانت "الرباعیة" أثناء اجتماعها فی میونیخ أوائل الشهر الجاری قد حثت فی بیانها على الالتزام بموعد أیلول / سبتمبر المقبل بدعوتها إلى "اختتام المفاوضات قبل أیلول/سبتمبر 2011". وتستعد الرباعیة الآن لاستقبال وفدین فلسطینی وآخر إسرائیلی کلا على حدة فی بروکسل أوائل آذار/مارس، تمهیدا لاجتماعها على مستوى وزراء الخارجیة فی منتصف الشهر المقبل.

وتستعد باریس لاستضافة مؤتمر جدید للمانحین الدولیین لسلطة الحکم الذاتی فی رام الله. وتستعد المنظمة لاستئناف المفاوضات بإعادة تأهیل دائرة المفاوضات ولاستقبال المولود المأمول فی الشهر التاسع من العام بترتیب بیتها الداخلی عن طریق تألیف حکومة جدیدة تکون أکثر تمثیلا للفصائل الأعضاء فیها، ویکون مهامها الرئیسیة استکمال بناء مؤسسات الدولة المنشودة قبل موعد أیلول، لکن الأهم أنها تستعد لإضفاء شرعیة على تمثیلها للشعب الفلسطینی بالدعوة إلى انتخابات رئاسیة وتشریعیة ومحلیة قبل الموعد المحدد المعلن.

وکل هذه الاستعدادات لـ"شرکاء عملیة السلام" تشیر فقط إلى وجود جدول زمنی حتى أیلول، "وهذا إطار زمنی وافق الجمیع علیه" کما قالت أشتون، وهو إطار یصر على استغلال "فرصة" وجود مفاوض المنظمة فی أضعف حالاته - - بسبب الانقسام الوطنی والرفض الشعبی لاستمرار العبث التفاوضی بعد فقد ظهیره المصری وخذلان راعیه الأمریکی وانعکاسات الثورة الشعبیة التی تجتاح المنطقة - - لانتزاع المزید من تنازلاته، مما یذکر بفرصة ضعف مماثلة فی أعقاب فرض الحصار الدولی على العراق بعد حرب الکویت دفعته إلى مؤتمر مدرید للسلام عام 1991 ثم إلى اتفاقیات أوسلو التی یحاول الآن الخروج من ورطتها بوعد کالوهم بدولة فلسطینیة فی الشهر التاسع من هذا العام.

وموعد أیلول/سبتمبر المقبل یحاصر مفاوض المنظمة الآن بین خیارین: إما أن یفی بوعده وکل الدلائل تشیر إلى أنه لن یفی به، وإما أن تبتلعه الموجات العاتیة لطوفان انتفاضة الجماهیر الشعبیة العربیة ضد الوضع الراهن التی سوف تصل فلسطین إن عاجلا أو آجلا لتجرف فی طریقها "عملیة السلام" العقیمة ومفاوضیها وإستراتیجیتها لترسی أسس إستراتیجیة وطنیة مغایرة تبشر بدولة فلسطینیة لا تولد فی رحم الاحتلال وبشروطه وموافقته ومبارکته وحضانته.

وفی خضم الانبهار بعظمة الانتفاضة الشعبیة فی تونس ومصر لا یتذکر الیوم إلا القلة أن مفردة "الانتفاضة" العربیة قد انتشرت عربیا وعالمیا فی إطار فلسطینی لأول مرة لتصف مقاومة شعبیة عارمة للاحتلال کان لها الفضل فی دخول المنظمة إلى الوطن المحتل ویمکنها أن تتجدد فی أیة لحظة لتلفظ خارج صفوف شعبها أیة مشاریع تولد فی رحم الاحتلال وعلى حساب مقاومته.

لقد اخرجت فکرة إقامة دولة فلسطینیة على خمس الوطن التاریخی المحتل عام 1967 إلى العلن باعتبارها مشروعا وطنیا فلسطینیا بإعلان الاستقلال الذی أقره المجلس الوطنی لمنظمة التحریر الفلسطینیة بالجزائر عام 1988، وهو المرجع الفلسطینی لفکرة "حل الدولتین"، لکنها کانت فی الأصل فکرة أقنع بها الاتحاد السوفیاتی السابق قیادة المنظمة آنذاک باعتبارها المدخل "الواقعی" إلى الأمریکیین والأوروبیین الذین سوف یظلوا یعارضون حق الشعب الفلسطینی فی تقریر مصیره فوق ترابه الوطنی طالما لم یعترف أصحاب هذا الحق بدولة المشروع الصهیونی التی أقیمت بالقوة المسلحة الغاصبة على الأخماس الأربعة الأخرى من وطنهم التاریخی.

وکانت موسکو الشیوعیة التی تسابقت مع واشنطن على الاعتراف بقیام هذه الدولة من جانب واحد فی الساعات الأولى بعد إعلان قیامها منسجمة مع نفسها تماما، لکن إذا کان میزان القوى الدولی فی زمن القطبین الأمریکی والسوفیاتی قد یسمح بإخراج "حل الدولتین" إلى حیز الوجود، حیث کان السوفیات المعارضون للصهیونیة یأملون فی أن یقود هذا الحل إلى تجرید الدولة العبریة من صهیونیتها فی الأمد الطویل، فإن انهیار الاتحاد السوفیاتی قد جعل هذا الحل رهینة لشروط التحالف الأمریکی الصهیونی المعنی فقط بهذا الحل باعتباره الضمانة الوحیدة لضمان أمن دولة الاحتلال الإسرائیلی وصهیونیتها، ومؤخرا "یهودیتها"، والمدخل الوحید للاعتراف العربی والإسلامی بها، وبالتالی فإن أی دولة فلسطینیة تتمخض عن میزان القوى الراهن وبالشروط الحالیة لن تکون إلا مشروعا أمریکیا- أوروبیا بمواصفات صهیونیة- إسرائیلیة، ولیس مشروعا وطنیا فلسطینیا.

ن/25

 


| رمز الموضوع: 143270







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)