خطاب محمود عباس فی "المجلس المرکزی"
منیر شفیق
أولا، یجب أن یوضع "المجلس المرکزی" کل ما ذکِرَ بین مزدوجتین لأنه عدیم الصلاحیة ومنتهی الصلاحیة وملفق بکل ما تحمله الکلمة من معنى، فلیس هناک مجلس وطنی حتى یکون هنالک مجلس مرکزی یتمّ اختیاره منه، ولیقوم مقامهُ فی ما بین عقد دورتیه.
ثانیا، یا لهذا المجلس المرکزی الذی لا یناقش الرئیس، ولا یفعل سوى الموافقة على کل ما یرد فی خطابه، بما فی ذلک التجاوب بالضحک المدوّی مع نکاته، فما فعله المجلس المرکزی کان سماع الخطاب والتصفیق له وتأیید ما جاء فیه، ولم یکن معنیا بمناقشة سیاسات المرحلة السابقة.
هذا أقل ما یجب أن یُقال فی هذا الذی اسمه "المجلس المرکزی"، مع إعفاء المشارکین فیه من أن یُقال فیهم أکثر، بسبب مشارکتهم فی هذه المهزلة.
ولکن ماذا عن الخطاب نفسه؟ وماذا استهدف محمود عباس من عقد "المجلس"، ومن فحوى الخطاب؟
طبعا، عقد "المجلس المرکزی" استهدف التأکید على دیمقراطیة الرئیس وشوریته، وأن ما فعله فی السیاسة وفی غیر السیاسة إنما هو نابع من إرادة أعضاء "المجلس المرکزی"، فهو بعید من الرئاسة الاستبدادیة، أو التفرّد بفرض ما یتبعه من إستراتیجیة على الشعب الفلسطینی. فلو کان حسنی مبارک وزین العابدین مثله لما قامت ثورة ضدهما.
أما محتوى الخطاب فقد شدد على أهمیة إستراتیجیة اللجوء إلى هیئة الأمم المتحدة من دون أن یفسّر لماذا أصبح اللجوء إلى هذه الخطوة ملحا، بل قضیة القضایا، بل عنوانَ ما یجب أن یفعله الشعب الفلسطینی الذی یجب أن یؤیده.
لم یتطرق مثلا إلى فشل إستراتیجیته فی المفاوضات وتحقیق تسویة، ولا إلى مدى مسؤولیته فی انقسام الوضع الفلسطینی بسبب المفاوضات التی أشرفت علیها کوندولیزا رایس ثم جورج میتشل، أم أن تلک الإستراتیجیة أصابت النجاح وأثبتت التجربة والنتائج العملیة صوابها وأصبح الآن من الضروری تتویجها بحملة الذهاب إلى مجلس الأمن وربما إلى الجمعیة العامة؟!
هذا الخطاب لا یمکن أن یُفهم إلا باعتباره محاولة یائسة للهروب من الاعتراف بفشل السیاسات التی اتبعها کل من محمود عباس وسلام فیاض على المستویین المتعلقین بالمفاوضات والرهان على أمیرکا وعلى الاتفاق الأمنی وتکریس الانقسام وکبت کل مقاومة موجهة ضد قوات الاحتلال ومستوطنیه. وخلاصتهما سیاسة التبعیة لأمیرکا وسیاسة حمایة قوات الاحتلال من المقاومة والانتفاضة.
أما الظرف الذی جاء الخطاب لیعبر عنه فهو التهیئة للانتقال من السیاسة التابعة کلیا لسیاسة حسنی مبارک إلى ما یمکن أن تتبناه مصر فی عهدها الجدید من سیاسة تتعلق بأمیرکا والوضع الفلسطینی.
ولکن هذا الانتقال السهل "کأن شیئا لم یکن" أو کأن إطاحة الثورة الشعبیة بحسنی مبارک وتوجهها إلى محاکمته وجر بطانته إلى المحاکم یجب ألا تمس سیاسة مبارک الخارجیة وکل من تواطأ معه فیها، علما بأن أسس تجریم حسنی مبارک یجب أن یَبدأ من سیاساته الفلسطینیة والعربیة والدولیة، فکل ما فعله من سیاسة داخلیة نبعت من تلک ولیس العکس.
فالارتهان والتبعیة للسیاسات الأمیرکیة خارجیا یقتضیان لیبرالیة اقتصادیة وفسادا فاحشا وارتکاب جرائم، تعذیبا وقتلا، کما یقتضیان تزویرا للانتخابات وللمجالس الوطنیة والمرکزیة.
الانتقال إلى المرحلة المصریة الجدیدة لم یتضح بعد إلى الحد الکافی فی ما یتعلق بالموضوع الفلسطینی سوى الحد الذی عبر عنه نبیل العربی وهو ما زال فی بدایاته، الأمر الذی رفع من سقف محمود عباس إلى المستوى الذی عبر عنه الخطاب، ولکن أبقاه فی سقف إستراتیجیة المفاوضات دون القول "المفاوضات والمفاوضات فقط"، کما کان الحال فی عهد حسنی مبارک وعمر سلیمان، فلسطینیا.
وبلا مقدمات توسّع محمود عباس فی حدیث مستریح ومطمئن عن المقاومة الشعبیة، کما لو کان لا یرى غیرها خیارا.
واعتبر عباس أن إصرار الثورات الشعبیة العربیة على شعار "سلمیة سلمیة" جاء مؤکدا لسیاساته التی ترفض المقاومة المسلحة للاحتلال وتبطش برجالها ونسائها من کل الفصائل تحت حجة "سلمیة سلمیة" حتى تحریم الاشتباک بالأیدی مع الاحتلال.
محمود عباس لا یعتبر أن ثمة فرقا بین مقاومة نظام مستبد فاسد أو تابع ومقاومة الاحتلال الصهیونی لفلسطین.. إنه یرید هنا أن یقول لا فرق بین أشکال النضال ضد المحتل الصهیونی المغتصب لفلسطین والمشرد لأهلها، وأشکال النضال فی الصراع الداخلی فی البلاد العربیة.
هذه واحدة، أما الثانیة فهی محاولة تمییع أشکال النضال والمقاومة الأخرى المصاحِبة للمقاومة المسلحة فی مواجهة الاحتلال، وذلک لیقول لنا إن کل ما تفعله حکومة سلام فیاض ویتبناه الرئیس من اتفاق أمنی مع أمیرکا وقوات الاحتلال فی الضفة یدخل ضمن "المقاومة الشعبیة" و"السلمیة السلمیة".
فالانتفاضة التی یفترض بها الاصطدام بالمستوطنین أو بالحواجز التی تفرضها قوات الاحتلال، أو التصدی ولو بالحجارة لدوریات الاحتلال حین تستبیح رام الله ونابلس والخلیل، لا تدخل فی المقاومة الشعبیة، أما عندما تهاجم قوات الأمن التی شکّلها دایتون المعتصمین الذین یریدون إطلاق مقاومة ضد الاحتلال فیجب أن یُعتبَر فعلها (قوات الأمن) شکلا من أشکال "المقاومة الشعبیة" و"السلمیة السلمیة".
أراد خطاب محمود عباس أن یقول إن ما تفعله سلطة رام الله بالکبیرة والصغیرة هو "المقاومة الشعبیة" ولا یفکرنَّ أحد بإطلاق انتفاضة ثالثة فی مواجهة قوات الاحتلال والمستوطنین.
فنحن هنا أمام مصادرة المقاومة الشعبیة السلمیة مثل المقاومة المسلحة وحتى التصدی لقوات الاحتلال بالحجارة.
قوات الاحتلال تُقاوَم ببناء مؤسسات السلطة وباللجوء إلى هیئة الأمم والتمسک بإستراتیجیة المفاوضات، وهذه کلها اسمها "المقاومة الشعبیة" و"السلمیة السلمیة".
أما ما عدا ذلک من مقاومة مسلحة وانتفاضة وعصیان مدنی واشتباک الآلاف بحواجز الاحتلال ومحاصرتها والتصدی للدوریات، فمن الشیطان ولا علاقة له بمقاومة الاحتلال.
هذا اسمه لعب الورقات الثلاث فی موضوع مقاومة الاحتلال، ولا یمکن أن تختار من بینها غیر ورقة محمود عباس أو سلام فیاض، أما ورقة المقاومة التی عرفتها منطلقات فتح ومیثاق منظمة التحریر الفلسطینیة عام 1968، وعرفها تاریخ الشعب الفلسطینی منذ عشرینیات القرن العشرین، وصولا إلى الانتفاضتین وحرکتی حماس والجهاد، وحرب 2008/2009 على قطاع غزة، وأسطول الحریة وشهدائه الأتراک، أو المقاومة التی حررت جنوب لبنان، فلا علاقة لها بمقاومة الاحتلال، ولا یمکن أن تسحب ورقته فی لعبة الورقات الثلاث فی خطاب عباس الأخیر.
بکلمة.. کان على محمود عباس أن یُعلِن فشل سیاسته وفشل اتفاق أوسلو والسلطة، وسوء الاعتماد على الدول المانحة، وفشل المفاوضات، ویعلق استقالته لتعود البوصلة الفلسطینیة إلى المنطلقات والمواثیق والتحریر الکامل لفلسطین وعدم الاعتراف بالکیان الصهیونی، وإلى إعادة الاعتبار لإستراتیجیات الکفاح المسلح والمقاومة والانتفاضة، والتأکید على انخراط الثورات الشعبیة العربیة فی القضیة الفلسطینیة باعتبارها قضیتها الأولى، بعد الخلاص من أنظمة الاستبداد والفساد والتبعیة والتفریط فی القضیة الفلسطینیة.
ن/25