الجمعه 11 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

الطابور الخامس بدیل الحروب المباشرة والمکلفة

 

عمر نجیب

 

خلال الثلث الأخیر من یونیو/ حزیران 2011 طالب حشد من کبار قیادات أحزاب وقوى المعارضة المصریة الإدارة الأمریکیة بالکشف عن أسماء الشخصیات والجهات التی تلقت منحا مالیة من واشنطن فی فترة الأحداث التی أسفرت عن تولی المجلس الاعلى للقوات المسلحة زمام الأمور فی البلاد فی 11 فبرایر/ شباط 2011.

جاء هذا التحرک بعد أن أحدثت تصریحات أمریکیة رسمیة بشأن منح 40 ملیون دولار "للمعارضین" المصریین منذ 25 ینایر، رجة کبیرة فی مصر خاصة بعد الکشف عن تمویلات وتدریبات أمریکیة لقیادات فی حرکة 9 أبریل.

وموازاة مع هذه "الاحتجاجات" تم توجیه خطاب إلى السفیرة الأمریکیة بالقاهرة مارغریت سکوبی طالب منها فیه بإصدار بیان عاجل بشأن التصریحات المنسوبة لآن باترسون السفیرة المرشحة لتولی المنصب خلال جلسة اعتمادها أمام لجنة العلاقات الخارجیة بمجلس الشیوخ الأمریکی مؤخرا، والتی أکدت فیها أن الولایات المتحدة أنفقت منذ أحداث 25 ینایر 40 ملیون دولار لدعم "الدیمقراطیة" فی مصر وأن 600 منظمة مصریة تقدمت للحصول على منح مالیة أمریکیة لدعم المجتمع المدنی.

حجم الرجة التی أحدثتها التصریحات الأمریکیة تضخم بعد اعتقال ضابط موساد إسرائیلی یدعى"إیلان تشایم جرابیل" یوم 12 یونیو 2011، واتهامه بتجنید عناصر مصریة لإثارة الفتنة الطائفیة وإحداث فوضى عارمة فی البلاد وتنظیم سلسلة من حرکات الاحتجاج، وإرسال تقاریر إلى المخابرات الإسرائیلیة التی تقوم بنقلها إلى المخابرات الأمریکیة.

الفتنة الطائفیة

یوم الأحد 26 یونیو/ حزیران 2011 اتهم نائب رئیس الوزراء المصری یحیى الجمل الولایات المتحدة وإسرائیل بالوقوف خلف التوترات الطائفیة التی شهدتها مصر مؤخراً، مؤکداً ان غایتهما من ذلک هی "کسر" مصر.

وقال الجمل فی مقابلة مع التلفزیون الرسمی، نشرت مقتطفات منها وکالة أنباء الشرق الأوسط المصریة، إن "أمریکا وإسرائیل تقفان وراء أحداث الفتنة الطائفیة فی مصر لإدراکهما بأنه لن یکسر مصر إلا الفتنة الطائفیة"، مشدداً على أن "مصلحة إسرائیل الأولى هی کسر مصر".

وأضاف أن "إسرائیل تعلم تماماً أن القوة الکبیرة والوحیدة فی المنطقة والتی تعمل لها ألف حساب، سواء الیوم أو غداً أو بعد مئة عام، هی مصر، ولذلک تعمل على محاولة کسرها التی لن تحدث بإذن الله".

إذا کانت أقطار المنطقة العربیة الممتدة من الخلیج العربی إلى المحیط الأطلسی تخوض حروباً مفتوحة من أجل التحرر من الاحتلال والاستیطان والهیمنة الاستعماریة، حروب بأسلحة ناریة على شاکلة نظامیة أو الموصوفة بحرب العصابات، کما هی الحال الآن فی العراق وفلسطین والسودان والصومال، فإن صراعات أخرى على درجة عالیة من الأهمیة والخطورة تدور رحالها فی هذا الوطن مع الأطراف الطامعة فیه، إما بشکل سری کما هی الحال بالنسبة للتجسس والتخریب المالی والاقتصادی أو تحت غطاء ستائر وأغلفة اقتصادیة وسیاسیة واجتماعیة، إلى غیر ذلک.

طفرة تضخمیة

فی الفترة التی تبعت حرب 1991 ضد العراق بمشارکة 33 دولة تحت قیادة أمریکیة ثم انهیار الاتحاد السوفییتی، شهدت الکثیر من دول العالم وخاصة الأقطار العربیة طفرة تضخمیة غیر مسبوقة فی أعداد المنظمات المدنیة المصنفة رسمیاً بـ"غیر الحکومیة".

مؤسسات "المجتمع المدنی" هی الکیانات العاملة فی المجتمع والتی تعمل بدون تدخل الدولة وهیمنتها وفق المبادئ والأهداف المعلنة ضمن برامج معدة من قبلها یحکمها النظام الداخلی والهیکل التنظیمی الذی تنتمی له، وهی تعمل لتحقیق أهداف اتفقت علیها شرائح معینة فی المجتمع، وتشمل الکیانات السیاسیة والنقابات والاتحادات المهنیة والجمعیات الخیریة والإنسانیة والأهلیة.

ویعرف البنک الدولی منظمات المجتمع المدنی بأنها تلک المنظومة واسعة النطاق من اتحادات العمل والمنظمات غیر الحکومیة والمجموعات القائمة على الأدیان والمنظمات القائمة على المجتمعات فی المجتمع المدنی.

وکثیراً ما تستخدم عبارة المنظمات "غیر الحکومیة" للإشارة إلى جمیع منظمات المجتمع المدنی، وهذه تسمیة لیست فی محلها وفیها نوع من التعمیم، ففی حین أن المنظمات غیر الحکومیة تشکل بحد ذاتها فرعا من فروع منظمات المجتمع المدنی فإن التمییز بین الفروع المختلفة من تلک المنظمات تعتبر من الأمور المهمة.

وعند النظر إلى تشکیلات منظمات المجتمع المدنی نلاحظ أن بعضها یعبر عن مصالح طبقة أو شریحة معینة من المجتمع ممن تم تعیینهم فی دوائر ومؤسسات الدولة وتربطهم علاقة المهنة أو الحرفة؛ وهذه الأنواع من المنظمات تهمها مصلحة الشریحة التی تمثلها أکثر من المجتمع والأهداف الاجتماعیة وهناک نوع آخر من المجالس الصغیرة فی منطقة معینة والتی یتم تأسیسها بصورة غیر رسمیة ولا یمکن تسمیتها بالمنظمة، وفی المقابل هناک منظمات أخرى یتم تأسیسها وفق القانون لتقدیم الخدمات إلى المجتمع ولإحداث تغییرات اجتماعیة وثقافیة واقتصادیة وسیاسیة فیها ولا تعبر عن مصالح شریحة معینة ولا تمثل توجهاً سیاسیاً معیناً وتطلق علیها تسمیة المنظمات غیر الحکومیة.

نوعان من المنظمات

لعبت العدید من المنظمات غیر الحکومیة فی الوطن العربی لسنوات طویلة دوراً ایجابیاً فی بناء أوطانها ومعالجة مختلف مشاکله، غیر أنه ومع اقتراب نهایة القرن العشرین أخذ الإخطبوط الاستعماری فی صورته الجدیدة یصنع عشرات المنظمات الجدیدة أو یتسرب إلى القائم منها لیستخدمها فی تنفیذ مخططاته التوسعیة والتخریبیة، وهو ما أدى إلى تشویش الصورة وأحاط بالشکوک أهداف هذه التنظیمات.

مخططو "النظام العالمی الجدید" والعولمة والرأسمالیة المتوحشة، فی عهده الإمبراطوری الأمریکی استطاعوا بأموالهم تحت غطاء التمویل والمساعدة غیر المشروطة، وبأدوات من السیاسیین والکتاب والصحافیین الذین قبلوا بیع ضمائرهم، أن یصنعوا طابوراً خامساً أمضى من سیف الاحتلال والغزو العسکری المباشر وأقل تکلفة، وذلک من أجل فرض شروطهم السیاسیة وإملاءاتهم ونشر مشاریع التفتیت على الدول التی تتخذ نهجا سیاسیا مغایرا لما تریده واشنطن.

جاء فی "تقریر واشنطن" أن أولى المنظمات الدولیة غیر الحکومیة قامت أساسا من أجل مهام الکنیسة، حیث تخصصت فی "تمدین" تنصیر شعوب الدول غیر الأوروبیة. وکانت الجهات الممولة لهذه المنظمات وکیفیة تأثیر هذا التمویل على عملها فی غایة الوضوح حینذاک.

أما الآن ورغم زیادة عدد تلک المنظمات ومعاهد البحث الدولیة، واتساع مجالاتها وتعدد مشروعاتها، إضافة إلى نمو مواردها المالیة، وزیادة تأثیرها أیضاً، فإن مصادر التمویل أصبحت أقل وضوحاً وأکثر أهمیة من قبل، وتحصل هذه المنظمات على التمویل اللازم من عدد کبیر من المصادر، لکن فی معظم الأحیان یوجه إلیها النقد لإمکانیة السماح لمصادر التمویل بالتأثیر على عملها وتوجیهها لخدمة أغراض وأهداف لمصلحة المانحین والممولین.

وحول الدور الغامض الذی تقوم به هذه المنظمات وعلى الرغم من الدور الکبیر الذی تقوم به مؤسسات المجتمع المدنی والمنظمات غیر الحکومیة کوسیط بین الدولة والمجتمع إلا أنها لا زالت موضع اتهام وشک العدید من الهیئات الوطنیة على اختلافها، والسبب یعود إلى علاقاتها الغامضة والمشبوهة مع مؤسسات التمویل الأجنبی.

هذه الاتهامات لیست جدیدة وإنما قدیمة لکنها فی الآونة الأخیرة بدأت تأخذ منحاً خطیراً عندما باتت تعمل على ترجمة الأجندات الخارجیة وتقوم بمهمة العمیل السری الذی یزود دوائره الخاصة بالمعلومات ذات الصبغة الأمنیة، والتی تشکل اختراقاً أو محاولة لتغییر البیئة الاجتماعیة والسیاسیة والثقافیة والعقدیة بطرق ظاهرها إنسانی.

المشکل أن هذه المنظمات لا زالت أیضاً تتلقى الدعم من مؤسسات دولیة خاصة معروف عنها علاقتها بالدوائر الاستخباراتیة. ولعل واقع العراق الیوم نموذجاً لهذا الاختراق الکبیر، حیث تقوم مؤسسات المجتمع المدنی بأدوار لیست من صلب أعمالها.

تمویل أجهزة المخابرات

فی نهایة القرن الماضی نشرت عدة صحف غربیة أجزاء من وثیقة لوکالة المخابرات المرکزیة الأمریکیة "سی آی أیه" تحمل تصنیف "سری جداً" حول خطة عمل محددة لتمویل هیئات المجتمع المدنی فی یوغوسلافیا السابقة، وذلک قبل تفکیکها، للتعجیل بإسقاط نظامها ونشر القیم الأمریکیة تحت عنوان: "دولة صربیة دیمقراطیة"، وکانت الوثیقة التی تحمل ختم "مؤسسة البلقان" المخابرات المرکزیة الأمریکیة قد صدرت أولاً بتاریخ 16 دیسمبر 1998. وتقدم تلک الوثیقة نموذجاً کلاسیکیاً لاستخدام التمویل الأجنبی لمنظمات المجتمع المدنی فی عملیة التفکیک والاختراق فی کل مکان على مستوى لا یدرکه من یتناول مسألة التمویل الأجنبی من منظور وجود أو عدم وجود شروط للتمویل فی هذه الحالة الجزئیة أو تلک الحالة المنفردة.

فالقضیة لیست ما إذا کانت هناک شروط محددة من المانحین لتمویل هذه الحضانة للأطفال مثلاً، أو ذلک البرنامج لزیارة الصحفیین لأمریکا أو تلک المنظمة غیر الحکومیة المعنیة بالبیئة أو المرأة أو الحریات، بل غالباً ما لا تکون هناک شروط محددة تمکن الإشارة إلیها بالسبابة، وإذا کان الشیطان یکمن عادة فی التفاصیل، کما یقال، فإن شیطان التمویل الأجنبی للمنظمات غیر الحکومیة یکمن فی الصورة الکبیرة، وفی النتائج بعیدة المدى على المستوى الاجتماعی السیاسی لقطر أو إقلیم بأکمله، فمن یقترب کثیراً لا یراها. ومن ذلک مثلاً نموذج رئیس "مرکز ابن خلدون" فی مصر، الذی جسد نموذج ما صارت علیه مراکز الأبحاث والمنظمات غیر الحکومیة العاملة فی خدمة المخططات الصهیونیة والاستعماریة: تمویل أجنبی سخی، علاقات قویة مع السفارتین الأمریکیة والصهیونیة فی القاهرة، وتدخل أجنبی مباشر للدفاع عنه، وعمل دؤوب لبلورة نزعات التفتیت الطائفیة بذریعة الدفاع عن حقوق الأقلیات.

قنوات "بریئة"

بموازاة تضخم عدد المنظمات غیر الحکومیة فی الوطن العربی، تکرر نفس السیناریو فی العدید من الدول الغربیة لصنع قنوات بریئة المظهر لتمریر الأموال، وعلى سبیل المثال تم فی سنة 1998 إنشاء "اللجنة الأمریکیة للحریات الدینیة فی العالم" بموافقة الکونغرس الأمریکی، وأعلن أنها لجنة مستقلة تراقب وضع حریة الأدیان فی العالم وتقوم دوریا بنشر تقاریرها الخاصة والتی ترسل إلى الجهات المعنیة حول تقییم اللجنة لواقع الحریات الدینیة فی العالم والتی تعتبرها اللجنة من القضایا المهمة ضمن ملف حقوق الإنسان.

هذه اللجنة أصدرت العدید من التقاریر التی سجل أنها تناولت بالنقد بشکل خاص دولا تعرف خلافات مع الولایات المتحدة وتحدثت عن حالات أقلیات صغیرة، فی حین تغاضت عن اضطهاد مئات الآلاف من العراقیین فی ظل الاحتلال لاختلاف معتقداتهم الدینیة، وعن أربعة ملایین الفلسطینیین فی غزة والضفة یقمعهم الصهاینة.

سنة 1996 کشفت صحیفة "نیویورک تایمز" أن وکالة الاستخبارات المرکزیة الأمریکیة تمول منظمة "المؤتمر العالمی للحریة والثقافة" التی کانت بدورها تمول مجلة "حوار" الصادرة فی لبنان وعددا آخر من النشرات والصحف، "الواشنطن بوست" کشفت فی السنة التالیة للغزو الأمریکی لأفغانستان أن عشرات الصحافیین الأمریکیین یوجدون على قوائم دفع الأجور والتعویضات التی تقدمها المخابرات المرکزیة.

بعد ذلک تبین وعن طریق وسائل الإعلام الغربیة أن منظمة "المحاربون من أجل الحریة" کانت تتلقى دعمها الرئیسی من لجنة "أفغانستان الحرة" التابعة للمخابرات الأمریکیة، نفس اللجنة کانت قد وزعت قبل ذلک بسنوات عدیدة وخلال الحرب ضد السوفییت قمصان مرسوماً علیها صورة أسامة بن لادن مع عبارة "ادعموا المقاتل الأفغانی من أجل الحریة"، وذلک حینما کان حلیفا رسمیا لواشنطن.

نفس المؤسسة استطاعت النفاذ إلى العدید من الکتاب والصحافیین سواء فی الأقطار العربیة أو فی دول أخرى من "العالم الثالث" عبر تنظیم دورات تدریبیة أو التکلف مادیا وتأطیریا بإرسالهم فی مهمات صحافیة إلى مناطق مختلفة من العالم.

وهناک من یؤکد أنه بعد انکشاف تورط هذه المؤسسة فی فضیحة "إیران-غیت" تم نقل نشاطها إلى "المؤسسة الوطنیة من أجل الدیمقراطیة" التی أکدت صحف لاتینیة أنها مولت الانقلاب على الرئیس الفنزویلی هوغو شافیز عام 2002 بضخ ملایین الدولارات إلى جیوب المعارضة.

وفی دول "الشرق الأوسط" وآسیا الوسطى هناک فروع للمؤسسات الأمریکیة مثل: "بیت الحریة، صندوق المنحة القومیة للدیمقراطیة، والمعهد الأمریکی للدیمقراطیة"، فضلا عن العدید من الجامعات الأمریکیة و"رادیو الحریة" وغیرها التی تحصل على تمویل من هیئات أمریکیة مختلفة لدعم مشروع الإمبراطوریة، وقد تولى جیمس ولسی المدیر السابق للمخابرات المرکزیة الأمریکیة رئاسة مؤسسة "بیت الحریة" التی تمول حرکات المعارضة فی آسیا الوسطى وشرق أوروبا.

نموذج مشابه عاشته أیضاً دول أمریکا اللاتینیة منذ أکثر من ربع قرن، حینما اجتاحتها انقلابات مدعومة أمریکیا عبر المخابرات وحروبها وصراعاتها، والآن مع بدایة العقد الثانی للقرن الحادی والعشرین تحاول واشنطن تکرار نفس التدخلات بأسلوب مختلف جزئیاً بعد أن تحولت العدید من دول القارة دیمقراطیاً إلى نهج سیاسی واقتصادی لا ینفع المصالح الأمریکیة ولا یلبی طموحات شرکاتها الضخمة.

مرجعیات أجنبیة

المنظمات غیر الحکومیة فی الوطن العربی والمعتمدة على التمویل والسند الخارجی تحتکم فی عملها على مرجعیات قانونیة خارجیة وتسعى إلى تکریسها، زیادة على أن القضایا التی تعمل من أجلها تربطها بوعی إنسانی ما فوق قومی، إنسانی الظاهر، ولکنه یؤدى من خلال الترکیز على حقوق الأقلیات إلى تفکیک الدول، ومن خلال الترکیز على حقوق الأفراد إلى تمزیق المجتمعات وتهمیش القضایا الکبرى، ومن خلال تعمیم الوعی المتغرب والمعولم إلى تهدیم الثقافة العربیة الإسلامیة، ومن خلال الترکیز على القضایا التفصیلیة إلى تفکیک الحرکة الوطنیة نفسها.

إن من یتابع نشاطات التمویل الأجنبی للأبحاث والمنظمات غیر الحکومیة المحلیة، ویربط الأجزاء المختلفة لهذه النشاطات فی هیکل بنیوی واحد سیکتشف أن القضایا التی تطرحها هذه المنظمات تتسم بأنها تمثل فی الکثیر من الأحیان قضایا محقة فی جزئیاتها، مثل الطفل والبیئة والمرأة وما إلى ذلک، غیر أنها تفصل هذه القضایا عن النضال العام الوطنی والقومی لتحقیق التغییر السیاسی الجذری فی المجتمع.

وکما یقول الأستاذ ناجی علوش، فبدلاً "من طرح القضایا الجزئیة ضمن سیاق مشروع وطنی، کما تفعل حرکات التغییر الکبرى فی المجتمعات، تعمل منظمات التمویل الأجنبی فی الواقع على تفکیک الحرکة الوطنیة فی البرنامج والممارسة، وتستوعب المناضلین السابقین فی مکاتب وموازنات وبرامج خارج العمل الوطنی".

کما أن هذه المنظمات تطرح قضایا وإن کانت مهمة، لکنها لیست القضایا الأهم فی مجتمع یعانى الاحتلال والتجزئة أولاً، ومن ذلک مثلاً طرح قضیة جزئیة مثل جرائم الشرف فی الضفة وغزة.

ویسجل أن الأبحاث والمنظمات التی تتبنى هذه القضایا تهیئ فی علاقاتها المالیة والتنظیمیة لتجاوز واختراق سیادة الدولة الوطنیة على أراضیها، الأمر الذی یتماشى فی المحصلة مع برنامج الشرکات متعددة الجنسیة، وبرنامج "البنک الدولی وصندوق النقد الدولی"، فی تهدیم سیادة الدولة الوطنیة، أی أن منظمات التمویل الأجنبی تصبح هنا متمماً موضوعیاً لمشروع العولمة، وتوجهها لتفکیک الدولة وتحویل مهماتها الاجتماعیة إلى جهات أخرى.

"المؤسسة العربیة للدیمقراطیة"

فی 26 ینایر 2008 کتب الکاتب والصحفی علی الصراف فی "العرب الأسبوعی" مقالا فضح فیه هذا التآمر حیث قال: تهانینا، فقد أعلن الأربعاء الماضی عن بدء نشاط ما یسمى بـ"المؤسسة العربیة للدیمقراطیة".. ولا یحتاج المرء إلى عبقریة لیعرف أن هذه المؤسسة لن تکون سوى ذراع لإخطبوط معروف، وأن مهماتها لن تتجاوز حدود النفاق المألوف، والقمیء، الذی تمارسه الولایات المتحدة فی ما یسمى بـ"الدفاع عن الدیمقراطیة وحقوق الإنسان"، ولا یجب أن یکون مفاجئاً لأحد أن شخصیة مثیرة للجدل من قبیل سعد الدین إبراهیم هو واحد من أبرز أعضاء مجلس أمناء هذه المؤسسة، فهذا هو مکانه الطبیعی، ودعم الدیمقراطیة کنشاط مریب هو وظیفته البدیهیة".

وقال: "أحد أوجه الزیف فی تشکیل هذه المؤسسة یبدأ من اسمها، فهی لیست عربیة لا فی هویتها ولا فی أجندتها ولا فی المصالح القذرة التی ستدافع عنها، ولو تمت تسمیتها المؤسسة الأمریکیة للدفاع عن الصهیونیة لکان الوضع أقرب إلى الحقیقة".

وقال علی المری أمین عام المؤسسة فی مؤتمر صحافی عقده فی وقت سابق لدى تدشین موقع المؤسسة على شبکة الانترنت إنه "ستکون هناک رقابة على العمل الدیمقراطی العربی من خلال المؤسسة"، معلنا "إنشاء مرصد تعتزم المؤسسة إطلاقه لرصد الأداء العربی فی المجال الدیمقراطی"، وسیقوم المرصد "بإصدار تقریر سنوی عن حالة الدیمقراطیة فی المنطقة العربیة".

وقال الصراف: "لا أحد یعرف ماذا ستضیف هذه المؤسسة إلى تقریر النفاق السنوی الذی تصدره وزارة الخارجیة الأمریکیة عن الدیمقراطیة وحقوق الإنسان فی العالم، ولکن بما أن هذه الوزارة لا تستطیع شراء المأجورین مباشرة، لمراقبة "أداء الدیمقراطیة"، فأن هذه المؤسسة، التی تم الإعلان عنها فی یولیو 2007، ستقوم حسب وثائقها "بإنشاء صنادیق مالیة"! "لإعداد البحوث"! "الاقتصادیة والاجتماعیة والسیاسیة المتعلقة بأهدافها، وتألیف الکتب وإصدارها وعقد الندوات والمحاضرات وتبادل المعلومات والخبرات مع المؤسسات العربیة والإقلیمیة والدولیة المماثلة، إضافة إلى تقدیم المنح والمساعدات المالیة لمساعدة ودعم برامج المؤسسات العربیة "الأهلیة" العاملة فی مجال الدیمقراطیة".

ورأى أن "الهدف الحقیقی من تلک الصنادیق هو شراء الضمائر، وتحویل نخبة من الکتاب والمثقفین إلى عملاء مأجورین یخدمون مصالح الإمبریالیة والصهیونیة ویسوقون مشاریعها للاستغلال والاحتلال والهیمنة، ولکن لکی یبرروا أیضاً انتهاکاتها وجرائمها وکل أعمالها الوحشیة ضد أبسط قیم الدیمقراطیة وأقدس حقوق الإنسان".

الاختراق الأمنی

بموازاة مع "حرب الخلیج العربی الثانیة" وانهیار الاتحاد السوفییتی أدرکت العدید من الدول والأجهزة الأمنیة بالولایات المتحدة وحلیفاتها بجدوى استراتیجیة الاختراق الاقتصادی والاجتماعی والإعلامی من الداخل التی مارستها بالفعل لأکثر من ثلاثین عاماً فی دول المنظومة الاشتراکیة ودول منظمة عدم الانحیاز، ونجحت فی نهایة المطاف لأسباب عدیدة.

ففی السنوات العشر الأخیرة من حیاة الاتحاد السوفییتی تمکنت المخابرات المرکزیة الأمریکیة من اختراق عدد کبیر من الأجهزة الأمنیة والإعلامیة بدول المنظومة الاشتراکیة عبر تمویل مجلات وصحف ومنظمات تبدو ثوریة اشتراکیة أو شیوعیة، وتدافع عن قضایا السلم والاشتراکیة والبیئة والشباب والدیمقراطیة فی العدید من دول العالم، وذلک بهدف تخریب "المناضلین الشیوعیین" وتعویدهم على التربح من خلال مراکز وهمیة بمنظمات السلام تلک وعضویة مجلس تحریر تلک الصحف والمجلات فی براغ وبودابست وبیروت وبرلین، بمرتبات ومزایا مغریة جداً.

وقد اعترف الرئیس السابق للمخابرات الألمانیة الشرقیة مارکوس وولف فی کتاب له بعنوان "رجل بلا وجه" بعمالته للمخابرات الأمریکیة و"الموساد" فی نفس الوقت بسبب دیانته، بل والتنویه إلى أن التحولات فی الاتحاد السوفیاتی کانت بتخطیط کامل مع غورباتشوف منذ بدایة الثمانینات، وأن المخابرات الأمریکیة هی التی أخذت بید غورباتشوف وأوصلته إلى رئاسة اللجنة المرکزیة والمکتب السیاسی للحزب الشیوعی السوفیاتی، وحددت له طریقه الذی عرف بعد ذلک بـ"البریسترویکا" و"الغلاسنوست".

لعبة العولمة

بعد فرض الحصار على العراق سنة 1991 ودخول روسیا فی مرحلة تحلل خلال سنوات حکم یلتسین، وانتشار حالة نفسیة انهزامیة فی الوطن العربی جددت الأجهزة الأمنیة فی الغرب استراتیجیتها للإبقاء على قدر من التأثیر فی أغلب بلدان العالم وخاصة بلدان "العالم الثالث" التی تنعکس أیة تغییرات سیاسیة غیر محسوبة فیها على استراتیجیات الأمن القومی لأوروبا والولایات المتحدة، ومن ضمن تلک البلدان فی منطقتنا العربیة.

فما کان من تلک الأجهزة إلا تنشیط الحرکة فی مجال العمل الاجتماعی وهو مجال واسع تمتلک فیه الأجهزة الأمنیة خبرات هائلة سواء من خلال جمعیات "اللوتاری" و"اللیونز" أو من خلال أنشطة مکاتب مؤسسات الخدمات الاجتماعیة والثقافیة والأثریة والسیاسیة الأمریکیة والأوروبیة فی المنطقة، فکان أن بدأت أجهزة الإعلام والصحف فی تلک الدول حملاتها المخطط لها بدقة للمطالبة بحریة العمل الاجتماعی وحریة تأسیس الجمعیات والاتحادات النشطة فی مجال الدیمقراطیة وحقوق الإنسان والمرأة والطفل والبیئة وخلافه فی تلک البلدان، باعتبار ذلک أحد معاییر الدیمقراطیة.

وجاء الاعتماد على تلک الجمعیات لاعتبارات عدیدة، من أهمها أنها الأقدر على رصد التغیرات داخل مجتمعاتها بطرق شرعیة وعلنیة، ما یمکن وهو ما سیسمح للأجهزة الاستخباراتیة من الحصول على المعلومات الضروریة عن تلک البلدان بقلیل من الجهد والمال عبر تمویل مشاریع بعینها فی تلک البلدان، وهى معلومات ضروریة لیست فقط للاستعداد لأیة تغیرات سیاسیة قد تحدث بتلک البلدان، بل أیضاً إمکانیة إجهاض أو توجیه تلک التغیرات بما یخدم مصالح البلدان المعنیة.

لقد اتضح الدور الذی لعبته وتلعبه واشنطن فی الأوضاع السیاسیة للدول المتفککة عن الاتحاد السوفیاتی السابق، حیث قامت المخابرات المرکزیة الأمریکیة بتمویل المنظمات غیر الحکومیة، بل قدمت تمویلاً مالیاً مباشراً لقوى المعارضة فی عدة دول أطاحت بأنظمة غیر موالیة لها وهذا کله بالأساس، عمل مخابراتی استخباری واضح وناجح، لم تطلق فیه رصاصة أمریکیة واحدة ولم تخسر فیه واشنطن جندیاً واحداً بعکس ما یحصل فی العراق وأفغانستان، وحققت الهدف الأمریکی عبر قوى أخرى.

ومن إبداعات البیت الأبیض للنفاذ إلى الأقطار العربیة ما سمی "مبادرة الشراکة مع الشرق الأوسط" التی أطلقتها الخارجیة الأمریکیة فی دیسمبر 2002 والمعروفة اختصاراً بـ"میبی" والتی یتضمن برنامجها مساعدة المنظمات الأهلیة فی المنطقة، وقد أعلن مکتبها ومقره فی تونس فی شهر فبرایر 2008، عن فتح باب الترشیحات للحصول على مساعدات موجهة للمنظمات المهنیة والجامعات والهیئات غیر الحکومیة وجماعات النساء.

ووصلت المبالغ المخصصة لعام 2008 إلى 3 ملایین دولار، أما حجم التمویل الممنوح للمشاریع الفردیة فیراوح بین 15 ألفاً و25 ألف دولار للمشروع الواحد، وأفاد المکتب بأن "المبادرة" التی أطلقتها الإدارة الأمریکیة فی دیسمبر 2002 منحت مساعدات زادت قیمتها عن 430 ملیون دولار لتمویل 350 مشروعا فی 17 بلداَ من "منطقة الشرق الأوسط" وشمال أفریقیا.

وفتحت "میبی"، ثلاثة مکاتب إقلیمیة الأول ویشمل لبنان وشمال أفریقیا والثانی فی أبو ظبی وهو موجه لبلدان الخلیج العربی والثالث فی القاهرة مخصص لمصر.

شرکات خاصة للتجسس

لم یکتف "المحافظون الجدد" بتکثیفهم غیر المسبوق للتدخل فی شؤون الدول الأخرى على المنظمات غیر الحکومیة وأجهزتهم الأخرى بل اتجهوا إلى خوصصة التجسس کما فعلوا مع خصخصة جزء من حروبهم عبر شرکات الأمن الخاصة أو بالأحرى شرکات المرتزقة التی جندت فی العراق أکثر من 120 ألف مسلح.

فقد أکد تقریر أمریکی صدر فی بدایة سنة 2008 نشرته وکالة "رویترز" زیادة عقود "البنتاغون" مع شرکات أمریکیة لاستئجار أمریکیین وأجانب للتجسس فی العراق ودول عربیة أخرى، وقال التقریر الذی أصدرته شرکة "اثینا" الأمریکیة، وهی واحدة من شرکات حصلت على هذه العقود، أنها حصلت على عقدین مع وکالة الاستخبارات المیدانیة المضادة "سی آی أف أی" التابعة "للبنتاغون"، هذا بالإضافة إلى أکثر من عقد بین قیادة القوات الأمریکیة الوسطى، المسؤولة عن "الشرق الأوسط"، وشرکة "لوکهید مارتن" التی أعلنت أنها تبحث عن موظفین یعملون "فی مجالات استخباراتیة لجمع معلومات عن جماعات وشبکات إرهابیة فی العراق ودول شرق أوسطیة أخرى".

وأوضح "البنتاغون" أنه کلف وکالة الاستخبارات المیدانیة المضادة بجمع معلومات "لحمایة موظفیه، ومصادره، ومعلوماته، وأبحاثه، وتکنولوجیته، وأمنه الاقتصادی وبقیة المصالح الأمریکیة"، وأن الوکالة، التی لا تعلن میزانیتها، تنسق بین أجهزة عسکریة ومدنیة لجمع معلومات عن حرب الإرهاب فی الداخل والخارج، ولحمایة الأمن الأمریکی.

وکانت اللجنة القانونیة فی مجلس الشیوخ قد عقدت سنة 2008، جلسة استماع حول الموضوع، حذر فیها "جون غانون"، نائب مدیر سابق فی وکالة الاستخبارات المرکزیة "سی آی أی"، من زیادة عقود التجسس التی وقعها "البنتاغون" مع شرکات أمریکیة، وقال "إن هذه العقود تخلط بین أجهزة مدنیة وعسکریة، وبین أمریکیین وأجانب".

وأشار "غانون" إلى أن مرکز مقاومة الإرهاب الوطنی "أن سی تی سیط"، الذی یمد البیت الأبیض بمعلومات استخباراتیة عن الإرهابیین، یعتمد، أیضا، على عقود مع شرکات تجسس؛ وأکد مسؤولون فی المرکز أن 70 فی المائة من موظفیه متعاقدون مع شرکات تجسس أمریکیة، وعقدت، قبل ذلک، لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس النواب جلسة استماع حول الموضوع، وأعلنت قلقها بسبب معلومات بأن وکالة الاستخبارات المیدانیة المضادة تجمع معلومات عن مواطنین أمریکیین، وأعلنت اللجنة أن الوکالة "فشلت فی إتباع سیاسات تنظم جمع معلومات من مواطنین أمریکیین". وأشارت اللجنة إلى أن الوکالة جمعت معلومات عن 13 ألف تحقیق فی حالات تهدید لقواعد ومنشآت عسکریة أمریکیة، منها معلومات عن مواطنین أمریکیین، مما یعتبر خرقاً لحقوقهم الدستوریة.

حرب أرخص

ذکر تقریر "تکالیف الحروب" الذی أعده معهد واطسون للدراسات الدولیة التابع لجامعة براون إن إجمالی تکالیف التدخل فی العراق وأفغانستان حتى نهایة سنة 2011 سیکون 3700 ملیار دولار على الأقل وقد یصل حتى إلى 4400 ملیار دولار.

یوم 6 یولیو 2011 دافع الرئیس الأمریکی باراک أوباما عن الابقاء على المساعدات التی تقدمها الولایات المتحدة الى الخارج، معتبراً أن "مبلغاً زهیداً یؤدی الى نتائج کبیرة" وذلک فی وقت یحاول البیت الأبیض التفاوض مع الکونغرس على اتفاق لتقلیص العجز.

وأکد أن الأمریکیین غالبا ما یضخمون المساعدة المرسلة إلى الخارج. وذکر بأنها لا تمثل فی أقصى حد سوى 2 فی المائة من المیزانیة الفدرالیة السنویة. وأضاف "من الذکاء قیام الولایات المتحدة بعمل متواضع فی المساعدة إلى الخارج، إذا أرادت أن تکون زعیمة العالم وتتمتع بنفوذ".

الطابور الخامس یعمل فی الخفاء منسقاً مع جیوش الغزاة والمرتزقة من أجل تحقیق ما عجزت عنه کل آلة الحرب الأمریکیة وحلفائها فی بلاد الرافدین وأفغانستان وآلة الحرب الصهیونیة فی فلسطین وغیرها.

ن/25

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 143254







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)