لماذا منعت الیونان أسطول الحریة "2" من الإبحار؟!
راسم عبیدات
ثمة الکثیر من التساؤلات تثار حول حقیقة وأسباب الموقف الیونانی برفض السماح لأسطول الحریة "2" من الإبحار من موانئها باتجاه غزة من أجل کسر الحصار الظالم المفروض على شعبنا فی القطاع منذ حوالی خمس سنوات، وتأتی هذه التساؤلات بسبب المواقف التاریخیة للیونان المناصرة للشعب الفلسطینی وقضیته وحقوقه المشروعة، ولعل الجمیع یستذکر الوقفة الشجاعة للیونان مع شعبنا وثورتنا ومقاومتنا الفلسطینیة أیام الاجتیاح الإسرائیلی للجنوب اللبنانی فی عام 1982، حیث تمیزت فی موقفها حتى عن العرب أنفسهم، برفض وإدانة العدوان الإسرائیلی على شعبنا، وکان موقفها حازماً فی هذا الجانب، حتى أن الکثیر من الصحف علقت على الموقف الیونانی بالقول بأن الدولة العربیة الوحیدة التی وقفت إلى جانب الشعب الفلسطینی هی الیونان.
هذا الموقف الیونانی ما الذی اعتراه وما الذی أصابه؟ ولماذا کل هذا التبدل والتغیر فی موقف دولة صدیق تقلیدی للشعب الفلسطینی على مدار عقود من الزمن؟
واضح أن هذا التغیر والتبدل له علاقة کبیرة بالأزمة الاقتصادیة التی عصفت بالاقتصاد الیونانی مؤخراً، والذی شهد ویشهد حالة من الجمود والتراجع بشکل کبیر، بل أصبح الاقتصاد الیونانی على حافة الانهیار الکلی، وهذا شکل ویشکل عاملا ضاغطا قویا فی مواقف وسیاسات الحکومة الیونانیة الخارجیة، فهی تلقت وتتلقى مساعدات اقتصادیة کبیرة من الاتحاد الأوروبی لتجاوز هذه الأزمة، وأی موقف یخرج عن إطار السیاسة والرؤیا الأمریکیة والأوروبیة الغربیة من شأنه أن یزید الضغوط علیها، وقد یعرضها الى السقوط.
وأیضاً إسرائیل بعد الأزمة الإسرائیلیة- الترکیة فی أواخر أیار من العام الماضی والتی نجمت عن تداعیات الاقتحام الإسرائیلی لأسطول الحریة "1"، وبالتحدید سفینة مرمرة الترکیة، والتی سقط على متنها عدد من الشهداء وعشرات الجرحى، حیث شهدت العلاقات الترکیة- الإسرائیلیة حالة من الفتور والجمود، وهذا الفتور دفع بإسرائیل إلى توثیق علاقاتها مع الیونان على کل الصعد وفی کل المجالات، فقد وجهت إسرائیل سیاحتها إلى الیونان وجزرها بعدما کانت ترکیا ومنتجعاتها تعج بعشرات الآلاف من السیاح الإسرائیلیین.
أما على الصعید العسکری فقد جرت مناورات عسکریة مشترکة یونانیة وإسرائیلیة، وکذلک تحدثت الأنباء عن تدریبات للطیران الإسرائیلی فی الأجواء الیونانی من أجل التدرب على ضرب المفاعلات النوویة الإیرانیة، وکذلک باعت إسرائیل الیونان بمئات الملایین من الدولارات أسلحة حدیثة ومطورة.
إذن، فی ظل مثل هذه العلاقات الإسرائیلیة- الیونانیة المتنامیة، وفی ظل غیاب تام للموقف العربی، فإنه یصبح مفهوماً وواضحاً أن الیونان لن تجرأ على اتخاذ موقف مستقل ینسجم مع قناعاتها ومواقفها، بل حتماً ستتخذ موقفاً ینسجم مع مصالحها، فلو وظف الذین یبددون الملیارات من الثروات العربیة، من أجل وقف تداعیات ثورات الربیع العربی ومنع محاکمة قادة الأنظمة العربیة المغرقة بالفساد وقمع الشعوب التی أطاحت بهم تلک الثورات، وکذلک توظیف تلک الأموال من أجل تخریب حالة الاستقرار فی أکثر من قطر عربی لصالح أجندات مریبة ومشبوهة، ولتشکیل حلف معاد للثورات العربیة، على غرار حلف بغداد فی الخمسینات من القرن الماضی، هذه الأموال لو وظفت لدعم ونصرة القضایا العربیة من خلال تقدیم مساعدات ودعم للاقتصاد الیونانی، لما کان الموقف الیونانی على ما هو علیه الآن، ولما أقدمت الحکومة الیونانیة على منع سفن أسطول الحریة الثانی من الإبحار من موانئها تجاه قطاع غزة المحاصر.
وأیضاً فی هذا الصدد فقد ذکرت صحیفة "هارتس" الإسرائیلیة فی عددها الصادر یوم الأحد 26/ 6/ 2011 أن رئیس وزراء الاحتلال الإسرائیلی بنیامین نتنیاهو ونظیره الیونانی جورج بابندریو اتفقا خلال مکالمة هاتفیة على منع إبحار أسطول الحریة"2 " لکسر الحصار عن غزة. کما ذکرت الصحیفة فی عددها الصادر یوم الأربعاء 29/ 6/ 2011 أن نتنیاهو کرر خلال مکالمة هاتفیة أجراها مع نظیره الیونانی بابندریو طلب إسرائیل بأن تصدر الحکومة الیونانیة أمراً بمنع إبحار سفن الأسطول باتجاه غزة وأن رئیس الوزراء الإسرائیلی وافق على هذا الطلب.
وإسرائیل لم تکتفی بالوسائل والرسائل الدبلوماسیة والتهدیدات المبطنة لحث الیونان على منع أسطول الحریة "2" من الإبحار، بل شنت حملة دبلوماسیة وإعلامیة واسعتین على منظمی تلک الرحلة ووصفتهم بـ"الإرهابیین" وبأنهم یحملون معهم على متن السفن مواد کیماویة من أجل المس بالجنود الإسرائیلیین، کذلک قامت أجهزة المخابرات الإسرائیلیة الخارجیة "الموساد" بعدة عملیات ومحاولات من أجل إعطاب محرکات تلک السفن لمنعها من الإبحار.
والموافقة الیونانیة على الطلب الإسرائیلی بمنع إبحار سفن الأسطول، جاءت فی ظل صمت عربی مریب، وفی ظل موقف فلسطینی باهت وغیر منسجم، وهذا بدوره یضعف من زخم التضامن الدولی مع الشعب الفلسطینی وقضیته وحقوقه المشروعة.
إن الحالة الفلسطینیة المنقسمة على ذاتها، والحالة العربیة المنهارة والتی تشهد مخاضات، لم تتضح صورتها بعد، حیث الربیع العربی للثورات متعثر، بل فی أکثر من قطر عربی هناک أکثر من استفهام وتساؤل، حیث یجری تجییر تلک الثورات لصالح أجندات وأهداف ومصالح خارجیة، وهذا یجعلنا متخوفین من عدم نجاح معارکنا الکبرى.
فعلى الصعید الفلسطینی، هناک معرکة الاعتراف بالدولة الفلسطینیة على حدود الخامس من حزیران- او ما یعرف باستحقاق أیلول، وهذه معرکة بحاجة إلى الکثیر من الجهد والعمل، وهی بحاجة أولاً وقبل کل شیء إلى إستراتیجیة فلسطینیة موحدة، حتى لا نخسر المعرکة بامتیاز. فإسرائیل تعمل وبأقصى طاقة ممکنة وعلى کل الجبهات حتى تخسر السلطة الفلسطینیة هذه المعرکة، وطواقمها تعمل کالمکوک فی الداخل والخارج إعلامیا وسیاسیا واقتصادیا، وهی کذلک توظف کل أصدقائها وحلفائها ومراکز ضغطها الإقلیمیة والدولیة وتجندها لهذه المعرکة، بل تتجند معها فی هذه المعرکة أمریکا والعدید من دول أوروبا الغربیة وفی المقدمة منها إیطالیا وألمانیا، حیث شهدنا تقدیم العدید من المبادرات والدعوات لعقد مؤتمرات دولیة، الهدف منها بالمجمل قطع الطریق على الجانب الفلسطینی وثنیه عن التوجه لمجلس الأمن وهیئة الأمم المتحدة من أجل الاعتراف بالدولة الفلسطینیة على حدود الرابع من حزیران 1967.
وحتى لا نخسر معارکنا کما خسرنا معرکة أسطول الحریة "2 "، حیث حالت الضغوط الکبیرة دولیاً وإسرائیلیا على الیونان دون إبحار سفن التضامن الدولی الى غزة من أجل کسر الحصار الظالم علیه، فإنه لا بد من ترجمة حقیقیة وجادة لاتفاق المصالحة الفلسطینیة الموقع علیه فی القاهرة فی الرابع من أیار الماضی.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS