الاحد 13 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

تدویل عملیات الإصلاح فی الشرق الأوسط‏‏

 

تدویل عملیات الإصلاح فی الشرق الأوسط‏‏

 

الدکتور محمد السید سلیم

 

منذ بدایة الحقبة الاستعماریة بالشرق الأوسط فی القرن التاسع عشر،‏ ارتبطت المنطقة بصورة وثیقة بالنظام العالمی وتأثرت بشدة بالتحولات التی طرأت علیه‏.‏ واتسمت الروابط العالمیة‏-‏ شرق‏‏ الأوسطیة بالاعتماد على النظام العالمی‏.‏ واستمر هذا النمط من العلاقات حتى بعد نیل دول الشرق الأوسط‏” الاستقلال السیاسی‏”,‏ والذی أعقبه ظهور مشروعین أساسیین بالمنطقة،‏ انطوى کل منهما على مجموعة مختلفة من الافتراضات والمبادئ والترتیبات الأمنیة،‏ ودخل الاثنان فی تنافس على الهیمنة داخل منطقة الشرق الأوسط خلال حقبة الحرب الباردة‏.‏ بید أن کلیهما أسفر عن تهمیش قضیة الدمقرطة بالمنطقة‏.‏

 

یحمل الأول اسم‏” مشروع الشرق الأوسط‏” وظهر بحلول مطلع الخمسینیات وتمثل أبرز مؤیدیه فی القوى الغربیة‏.‏ نظر المشروع إلى الشرق الأوسط باعتباره منطقة جغرافیة غنیة بالموارد النفطیة وتحوی مجموعة متنوعة من الدول وتهددها قوی خارجیة معادیة،‏ على رأسها الاتحاد السوفیتی‏.‏ وترى القوى المناصرة للمشروع ضرورة الربط بین المنطقة والغرب من خلال نظام أمنی ومجموعة من الترتیبات الاقتصادیة بمقدورها تحقیق الاستقرار بالمنطقة والحفاظ على المصالح الغربیة بها‏.‏ جاء الإعلان الأول عن المشروع من جانب الولایات المتحدة عام‏1950‏ عندما اقترحت إنشاء منظمة دفاعیة شرق‏-‏ أوسطیة‏.‏ وأعاد الرئیس الأمریکی‏” أیزنهاور‏” طرح الفکرة عام‏1953‏ عندما اقترح إقامة تحالف بین الدول الواقعة شمال الشرق الأوسط بهدف احتواء الاتحاد السوفیتی،‏ والذی ضم کل من ترکیا وإیران وباکستان والعراق‏.‏ وفی استجابة لهذا المقترح،‏ وقع کل من العراق وترکیا میثاقا أمنیا فی فبرایر عام‏1955‏ تعهدت الدولتان بمقتضاه بالدفاع عن بعضهما البعض حال وقوع عدوان أجنبی‏.‏ وانضمت بریطانیا إلى المیثاق فی أبریل‏1955,‏ وبات یعرف باسم‏” حلف بغداد‏”,‏ وقوبل بمعارضة شدیدة من قبل أنصار المشروع العربی الإقلیمی‏.‏ وفی أعقاب اندلاع الثورة العراقیة عام‏1958,‏ انسحب العراق من المیثاق الذی انتقل مقر رئاسته من بغداد إلى إسطنبول وأصبح یحمل اسم‏” منظمة المعاهدة المرکزیة‏”(‏ المعروفة اختصارا باسم‏” سنتو‏”).‏ أما آخر مرة طرحت فیها فکرة بناء مشروع یقوم على الهویة شرق‏-‏ الأوسطیة فکانت أثناء الحرب الباردة عندما طرح الرئیس الأمریکی‏” ریجان‏” مبدأ‏” الإجماع الاستراتیجی‏” بین دول الشرق الأوسط فی عام‏1982‏ تحت رعایة بلاده،‏ وجاء ذلک فی أعقاب مجموعة من الأحداث التی شهدها عام‏1979‏ أبرزها توقیع اتفاقیة السلام بین مصر وإسرائیل وقیام الثورة الإیرانیة والتدخل السوفیتی فی أفغانستان وانهیار‏” منظمة المعاهدة المرکزیة‏”.‏ کان المقصود من مصطلح‏” الإجماع الإستراتیجی‏” توصل الدول شرق‏-‏ الأوسطیة إلى تفهم عام بأن الاتحاد السوفیتی یشکل التهدید الأکبر للمنطقة‏.‏ وکان من المأمول أن یؤدی هذا‏” الإجماع‏” إلى تسویة جمیع الصراعات بالمنطقة بصورة تثمر فی نهایة الأمر عن علاقة إستراتیجیة بین دول المنطقة والشرق الأوسط‏.‏ وفی حال فشل تلک الدول فی التوصل إلى تسویة،‏ سیتم اللجوء إلى المساعدة الأمریکیة‏.‏

 

من جانبهم،‏ وصف أنصار المشروع الإقلیمی العربی المؤلفین بصورة أساسیة من العناصر القومیة،‏ المشروع شرق‏-‏ الأوسطی بأنه بدعة غربیة،‏ مشیرین إلى أن الشرق الأوسط فی حقیقة الأمر یتمیز بهیمنة الأمة العربیة الواحدة علیه والتی تشترک فیما بینها فی مجموعة من الخصائص والمصالح والاعتبارات والأولویات الأمنیة‏.‏ کما تتمیز الشعوب العربیة بوحدة اللغة والثقافة والموقع الجغرافی،‏ ما یؤهلها لصیاغة الاعتبارات الأمنیة والاقتصادیة الخاصة بها‏.‏ وینظر هذا الفریق إلى إسرائیل باعتبارها التهدید الرئیسی لأمن المنطقة‏.‏ ویؤمنون بضرورة وضع ترتیبات إقلیمیة عربیة للحد من هذا التهدید،‏ بحیث تتم صیاغتها فی إطار أمنی عربی‏.‏ وتمثل جامعة الدول العربیة التی أنشئت عام‏1945‏ التجسید الرئیسی لهذا المشروع،‏ خاصة بتوقیع اتفاقیتی الدفاع العربی المشترک والتعاون الاقتصادی عام‏1950.‏

بید أن المشروعین العربی وشرق‏-‏ الأوسطی أغفلا قضیة التغییرات الدیمقراطیة بدول المنطقة نتیجة ترکیزهما على الصراعات الإستراتیجیة العالمیة والإقلیمیة‏.‏ بل إن بعض أنصار مشروع الشرق الأوسط أبدوا تأییدهم للأنظمة الاستبدادیة العسکریة التی أطاحت بالحکومات الدیمقراطیة،‏ مثلما کان الحال مع حکومة‏” مصدق‏” بإیران‏.‏

فی أعقاب نهایة الحرب الباردة،‏ عاد التنافس بین المشروعین العربی والشرق‏-‏أوسطی من جدید‏.‏ وسرعان ما انضم للصراع مشروعان إقلیمیان آخران هما‏:‏ المشروع الأورو‏-‏ متوسطی الذی یدعمه الاتحاد الأوروبی،‏ والحوار بین حلف الناتو ودول حوض البحر المتوسط الذی تزعمه الناتو‏.‏ وفی الوقت الذی اتسم المشروع الأول بتعدد أبعاده بتناوله للتغییرات السیاسیة والاقتصادیة والاجتماعیة بالدول العربیة‏(‏ المشار إلیها فی هذا السیاق بمصطلح‏” المتوسطیة‏”),‏ شکل المشروع الثانی بصورة أساسیة منتدى لتبادل المعلومات الاستخباراتیة،‏ على الأقل حتى عام‏2004.‏ ویعد مشروع الاتحاد الأوروبی بمنطقة الشرق الأوسط المحاولة الأولى من نوعها لإثارة قضیة الإصلاحات الاقتصادیة والسیاسیة بالعالم العربی‏.‏

فی أعقاب هجمات‏11‏ سبتمبر عام‏2001,‏ اتفقت تلک المشروعات فی نقطتین‏:‏ أولهما التأکید على أولویة إجراء تغییرات اقتصادیة وسیاسیة بالعالم العربی وجعل تلک التغییرات شرطا مسبقا لحل المشکلات الأمنیة بالمنطقة‏.‏ وثانیهما اعتبار هذا الأمر مسؤولیة دولیة تتحملها بصورة رئیسیة اتحاد من القوى الأوروبیة والولایات المتحدة‏.‏

وتهدف هذه الدراسة مراجعة التغییرات الرئیسیة فی البیئة الإستراتیجیة بالشرق الأوسط بعد هجمات‏11‏ سبتمبر عام‏2001,‏ مع إلقاء الضوء على المقترحات الأوروبیة‏-‏الأمریکیة لإقرار إصلاحات بالعالم العربی واستعراض الاستجابات العربیة وتحدید الشروط الرئیسیة‏” الدولیة‏” المسبقة لإجراء إصلاح حقیقی بالدول العربیة‏.‏

 

مشروع الشرق الأوسط بعد‏11‏ سبتمبر عام‏2001:‏

 

أسفرت أحداث‏11‏ سبتمبر عام‏2001‏ التی تعرضت لها الولایات المتحدة عن إحداث تغییرات دراماتیکیة بالبیئة الإستراتیجیة فی الشرق الأوسط،‏ بإدعاء الولایات المتحدة أن الهجمات خرجت من تحت عباءة الدول العربیة واعتبرتها نتاجا لـ‏” الطابع الاستبدادی‏” لتلک الأنظمة‏.‏ وزعمت أن الحرب ضد الإرهاب تستلزم إجراء تغییرات اجتماعیة فی الشرق الأوسط تعزز الإصلاح الاقتصادی والسیاسی‏.‏ نتیجة لذلک أصدرت واشنطن‏” ورقة إستراتیجیة الأمن القومی‏” فی سبتمبر عام‏2002,‏ التی أکدت على عقیدة أمنیة أمریکیة جدیدة تقوم على استغلال الموارد الأمریکیة فی تعزیز الدیمقراطیة واتخاذ إجراءات اقتصادیة لتحریر التجارة الدولیة وقطع الإمدادات المالیة عن الإرهابیین،‏ والأهم من ذلک تطبیق واشنطن لمبدأ الضربات الاستباقیة العسکریة لإحباط التهدیدات التی تواجه الأمن الأمریکی‏.‏ ووقع الاختیار على الشرق الأوسط کموقع تطبیق الإستراتیجیة الأمریکیة الجدیدة،‏ حیث جرى النظر إلى هذه المنطقة تحدیدا باعتبارها منشأ التهدیدات‏” الإرهابیة‏” القائمة أمام واشنطن‏.‏ وبدأت هذه العملیة بالفعل بغزو واحتلال أفغانستان عام‏2001‏ والعراق عام‏2003,‏ ما اعتبرته الولایات المتحدة الخطوة الأولى باتجاه تغییر المنطقة بأکملها‏.‏

على الجانب الآخر،‏ کان قد شهدت منطقة الشرق الأوسط محاولات دؤوبة لإحیاء مشروع الشرق الأوسط،‏ تجلى ذلک فی عقد مؤتمر السلام العربی‏-‏ الإسرائیلی بمدرید فی أکتوبر عام‏1991.‏ وانبثق عن المؤتمر مساران رئیسیان‏:‏ أولهما‏:‏ ثنائی ویرکز على المفاوضات للتوصل إلى تسویة سیاسیة للخلافات الإقلیمیة بین إسرائیل وکل من الدول المجاورة لها التی یخضع جزء من أراضیها للاحتلال‏.‏ وثانیهما‏:‏ متعدد الأطراف ویتناول الترتیبات الاقتصادیة والأمنیة المستقبلیة‏.‏ وفی هذا الإطار،‏ تم تشکیل خمس مجموعات عمل تعنى ب‏-:‏ السیطرة على السلاح والأمن الإقلیمی،‏ التعاون الاقتصادی الإقلیمی،‏ اللاجئین،‏ المیاه،‏ والبیئة‏.‏ وقد شارکت العدید من الدول من خارج الشرق الأوسط فی المسار متعدد الأطراف‏.‏ بل إن القوى العظمى تولت رئاسة مجموعات العمل التی عقدت اجتماعاتها داخل وخارج المنطقة،‏ بهدف التأکید على الطابع الدولی للمسار متعدد الأطراف‏.‏ وجاء ثانی أکبر تجسید لمشروع الشرق الأوسط فی حقبة ما بعد الحرب الباردة متمثلا فی سلسلة مؤتمرات الشرق الأوسط وشمال أفریقیا التی رمت لصیاغة نظام شرق‏-‏ أوسطی للتعاون الاقتصادی‏.‏ عقدت هذه المؤتمرات فی کل من الدار البیضاء‏(1994)‏ وعمان‏(1995)‏ والقاهرة‏(1996)‏ والدوحة‏(1997).‏ وجاء عقد تلک الاجتماعات فی أعقاب توقیع‏” إعلان المبادئ‏” بین إسرائیل ومنظمة التحریر الفلسطینیة عام‏1993,‏ ما مثل إطار عمل لإقرار سلطة فلسطینیة بالمناطق الفلسطینیة المحتلة وإقامة دولة فلسطینیة بحلول عام‏1998.‏ کما أصدر‏” شیمون بیریز‏”,‏ رئیس الوزراء الإسرائیلی فی ذلک الوقت،‏ کتابا یحمل عنوان‏” الشرق الأوسط الجدید‏” رسم فیه ملامح نظام إقلیمی جدید للتعاون‏.‏ وسارعت واشنطن من جانبها باستغلال الفرصة بإقناعها منتدى‏” دافوس‏” بالدعوة لعقد مؤتمر للتعاون الاقتصادی الإقلیمی لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفریقیا‏.‏ وبالفعل،‏ أقیم المؤتمر بالدار البیضاء فی المغرب،‏ وصدر عنه‏” إعلان الدار البیضاء‏” الذی شدد على أن إرساء أسس مجموعة اقتصادیة للشرق الأوسط وشمال أفریقیا یتطلب تدفق رؤوس السلع والأموال والعمالة داخل المنطقة،‏ إلى جانب إنشاء مصرف تنموی‏.‏ علاوة على ذلک،‏ تمخض المؤتمر عن تشکیل لجنة توجیه وأمانة عامة تنفیذیة‏.‏ کما تقرر عقد المؤتمر بشکل سنوی‏.‏ یذکر أن آخر تلک المؤتمرات عقد فی الدوحة،‏ وأعقب ذلک رفض غالبیة الدول العربیة المضی قدما على هذا المسار فی أعقاب تولی حکومة‏” بنیامین نتنیاهو‏” المتشددة السلطة فی إسرائیل عام‏1996.‏

ومن الواضح أنه منذ اللحظة الأولى لظهوره،‏ رکز مشروع الشرق الأوسط بصورة أساسیة على القضایا السیاسیة والأمنیة،‏ بینما أغفل القضایا المرتبطة بالدمقرطة‏.‏ وساعد اعتماد الشرق الأوسط على النظام العالمی وتنافس القوى العظمى على الهیمنة على المنطقة أثناء حقبة الحرب الباردة،‏ فی تهمیش قضیة الدیمقراطیة بالمنطقة التی عانت من کم هائل من الصراعات وضعت قضیة الدیمقراطیة فی ذیل قائمة الأولویات‏.‏ إلا أن هذا الوضع تغیر فی عام‏1994‏ بإعلان الاتحاد الأوروبی عن اقتراح یحمل اسم‏” الشراکة الأورو‏-‏ المتوسطیة‏” التی هدفت لدعم إقرار منطقة تتمیز بالاستقرار والأمن وخلق ظروف مواتیة للتنمیة الاقتصادیة السریعة والمستدیمة بدول حوض البحر المتوسط‏.‏ وشدد المقترح على بعدین رئیسیین للشراکة‏:‏ أولهما‏:‏ إقامة منطقة أورو‏-‏ متوسطیة للاستقرار والأمن من خلال حوار سیاسی بین دول الاتحاد الأوروبی ودول حوض البحر المتوسط یقوم على مبادئ الدیمقراطیة والحکم الصالح وحکم القانون وجهود الاتحاد لإقناع دول حوض البحر المتوسط بالتخلی عن الخیارات العسکریة غیر التقلیدیة وإقامة منطقة اقتصادیة أورو‏-‏ متوسطیة یجری فی إطارها الاتجار فی جمیع السلع المصنعة بحریة‏.‏ فی أکتوبر عام‏1995,‏ أصدر الاتحاد الأوروبی بیانا آخر تناول مقترح الشراکة الأورو‏-‏ متوسطیة،‏ ملقیا الضوء على ثلاثة جوانب رئیسیة‏:‏ الجانب السیاسی والأمنی،‏ الجانب الاقتصادی والمالی والجانب الاجتماعی والإنسانی‏.‏ وبناء على مبادرة من قبل الاتحاد،‏ عقد الاجتماع الوزاری الأول للدول الـ‏27‏ الأعضاء فی الشراکة فی برشلونة،‏ ما أدی إلى إطلاق اسم‏” عملیة برشلونة‏” على مجمل تلک الجهود‏.‏ وشهد الاجتماع نقاشات حامیة بین الاتحاد الأوروبی ودول حوض البحر المتوسط بشأن عناصر الشراکة الأورو‏-‏ متوسطیة‏.‏ وعکس الإعلان الختامی الذی حمل اسم‏” إعلان برشلونة‏” بدرجة کبیرة وجهات النظر الأوروبیة‏.‏

بصورة عامة،‏ أولى‏” إعلان برشلونة‏” والبیانات الأخرى التی تلته اهتماما خاصا لقضیة إحلال الدیمقراطیة بالدول المطلة على البحر المتوسط،‏ وشمل ذلک تعزیز المؤسسات الدیمقراطیة وحکم القانون والإصلاح القضائی وبناء المؤسسات وحریة التعبیر وتدعیم وسائل الإعلام المستقلة والحکم الصالح‏.‏ وجاء هذا الاهتمام بناء على فرضیة أن إقرار الدیمقراطیة سیؤدی إلى تسویة سلمیة للصراعات القائمة‏.‏ بید أن الدول العربیة من جانبها شددت على أن الدیمقراطیة لا تعد بأی حال من الأحوال بدیلا عن تسویة الصراعات،‏ موضحة أن الدمقرطة عبارة عن عملیة اجتماعیة طویلة الأمد ینبغی تنفیذها فی إطار التقالید الثقافیة لکل من الدول المختلفة بحوض البحر المتوسط‏.‏ ورأت الدول العربیة أنه من المتعذر إرجاء تسویة الصراعات واستعادة السلام حتى تتم عملیة الدمقرطة وأن الترکیز بصورة کاملة على الإصلاح على حساب تسویة الصراع العربی‏-‏ الإسرائیلی،‏ من شأنه منح إسرائیل وقتا کافیا لإحکام قبضتها على جمیع الأراضی المحتلة.‏

وفی نهایة الأمر أسفرت تلک الخلافات عن إخفاق الشراکة الأورو‏-‏ متوسطیة عن تحقیق أی تغییرات مهمة بالمنطقة‏.‏ فی الواقع،‏ لقد انصب الاهتمام الرئیسی للاتحاد الأوروبی على ضم العرب والإسرائیلیین فی إطار عمل أوروبی فی وقت یهمش فیه الأجندة الأمنیة العربیة ویقوم بعض أعضائه‏(‏ بصورة أساسیة ألمانیا‏)‏ بإمداد إسرائیل بأسلحة فتاکة تساعد فی انتشار أسلحة الدمار الشامل‏.‏

فی أعقاب أحداث‏11‏ سبتمبر عام‏2001,‏ تحولت الولایات المتحدة والدول الأوروبیة نحو التأکید على مسألة التحول الدیمقراطی بالدول العربیة‏.‏ وفی عام‏2003,‏ أقر الاتحاد الأوروبی‏” سیاسة الجار الصالح.

 

اتحاد الدیمقراطیة فی الشرق الأوسط: 

 

(TheDemocracyConsortiuminthemiddleeast)‏

شهد العام‏2004,‏ صعود تحالف اتحاد دولی معنی بالدیمقراطیة بالشرق الأوسط‏.‏ ففی أعقاب اقتراح مشروع الشرق الأوسط الکبیر،‏ تقدمت ألمانیا فی فبرایر عام‏2004‏ بمقترح یحمل عنوان‏” مبادرة الشرق الأوسط الأوسع‏”,‏ وشارکت فرنسا فی رعایتها فی وقت لاحق‏.‏ جاء الإعلان عن هذا المقترح بعد إعلان الولایات المتحدة عن مبادرة شراکة الشرق الأوسط الکبیر‏.‏ بید أن الاقتراح الأوروبی جاء مختلفا عن نظیره الأمریکی فی نقطة واحدة فقط ألا وهی أنه ربط بین عملیة التحول إلى الدیمقراطیة وتسویة الروابط الإقلیمیة‏.‏ لکن الاقتراح لم یحدد کیفیة تحقیق ذلک،‏ ورکز بدلا من ذلک على تحقیق تغییرات داخلیة بالدول العربیة‏.‏ وفی نهایة الأمر،‏ تخلى الأوروبیون عن مقترحهم لصالح المبادرة الأمریکیة‏.‏

تجدر الإشارة فی هذا الصدد إلى أن شهر یونیو عام‏2004‏ شهد تلاقی العدید من المشروعات الأوروبیة والأمریکیة،‏ وهی قمة مجموعة الثمانیة فی الولایات المتحدة والقمة الأورو‏-‏ أمریکیة فی دبلن وقمة الناتو فی إستانبول‏.‏ وتوصلت تلک اللقاءات فی نهایة الأمر بصورة عامة إلى إقرار وجهة النظر الأمریکیة بشأن أفغانستان والسودان والعراق،‏ وقضایا الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل‏.‏ وقد جرى النظر إلى التهدیدات الأمنیة باعتبارها ناشئة بشکل أساسی عن الهیاکل الداخلیة بالدول العربیة،‏ ما یستدعی التدخل الدولی لإصلاح تلک الدول‏.‏ بالإضافة إلى ذلک،‏ تم توسیع حدود المنطقة إلى ما وراء التعریف التقلیدی لها‏.‏ ویبدو أن المنطقة تشهد عودة إلى ما کان علیه الحال فی حقبة ما بعد الحرب العالمیة الأولى عندما اضطلعت القوى العظمى بتحدید الأجندة الإقلیمیة من خلال نظام الانتداب‏.‏

ویمکن القول بأن أهم ملامح عملیة إضفاء الطابع الدولی على ترتیبات الإصلاح بمنطقة الشرق الأوسط تتمثل فی الوثائق الصادرة عن قمة مجموعة الثمانیة التی عقدت بالولایات المتحدة فی یونیو عام‏2004,‏ حیث تمخضت القمة عن ثلاث وثائق کبرى ترتبط بصورة أو بأخرى بمشروع الشرق الأوسط الکبیر الذی اقترحته واشنطن‏.‏ کما أقر الاجتماع آلیة اتصال بین دول مجموعة الثمانیة ودول منطقة الشرق الأوسط‏” الکبیر‏” لضمان تنفیذ تلک الدول للمهام المحددة لها فی إطار المشروع الأمریکی ومحاسبتها حال عدم قیامها بذلک‏.‏ وتم توزیع الأدوار بین القوى المختلفة فیما یخص الإصلاحات الداخلیة بدول المنطقة المختلفة‏.‏ على سبیل المثال،‏ جرى تکلیف الیابان بمهمة تمکین المرأة بمصر والأردن وفلسطین‏.‏ من ناحیة الأخرى،‏ أقرت قمة الناتو فی اسطنبول فی‏28-30‏ یونیو عام‏2004‏ تحولا فی إستراتیجیة الحلف فی اتجاه دعوة شرکائه فی حوار دول حوض البحر المتوسط لدراسة إمکانیة اضطلاع الحلف بدور أمنی بالمنطقة،‏ مع الترکیز على محاربة الإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل ودعوة دول مجلس التعاون الخلیجی للمشارکة فی هذه الإستراتیجیة الجدیدة التی باتت تعرف باسم‏” إستراتیجیة اسطنبول للتعاون‏” وتعد بمثابة تحول هائل عن السیاسات الماضیة التی عمدت إلى قصر دور الناتو على تبادل المعلومات‏.‏

وفی مثل هذا الإطار،‏ اضطلعت المؤسسات الغربیة بدور تحدید الأجندة ومراقبة مدى الالتزام بها،‏ أی أن اتحاد من الدول الغربیة أوکل إلى نفسه مهمة تحدید الأجندة والقضایا والآلیات ومحاسبة الدول الإقلیمیة‏(‏ العربیة‏)‏ على التنفیذ‏.‏ أما الصراع العربی‏-‏ الإسرائیلی،‏ فیجری النظر إلیه باعتباره خارج إطار الأجندة الغربیة‏.‏ وتزعم الدول الغربیة أنه بمجرد تحقیق جمیع المطالب الواردة بالأجندة الغربیة،‏ سیتحرک الصراع العربی‏-‏الإسرائیلی فی اتجاه الحل‏.‏

 

وجهات النظر العربیة حیال اتحاد الدیمقراطیة بالشرق الأوسط‏:‏

 

قوبل اتفاق قوی من خارج المنطقة على إعادة هیکلة الشرق الأوسط بردود أفعال مختلطة داخل العالم العربی،‏ ففی الوقت الذی أبدت بعض الحکومات والمثقفین تأییدهم للفلسفة الأساسیة التی یتحرک على أساسها هذا الاتحاد المؤلف من القوى الخارجیة،‏ رفضه البعض الآخر،‏ أو على الأقل أبدى تأییدا فاترا له‏.‏ أکد،‏ من ناحیتهم،‏ مؤیدو هذا الاتحاد من أبناء المنطقة على أنه یعد بمثابة الفرصة الوحیدة المتاحة أمام العرب للتحول إلى المسار الدیمقراطی،‏ نظرا لأن الأنظمة المحلیة من غیر المحتمل أن تتحرک فی هذا الاتجاه من تلقاء نفسها‏.‏ وعلیه،‏ یتعین على العرب استغلال هذه الفرصة لتحقیق تغییر حقیقی ببلادهم‏.‏ بید أن هناک آخرین نظروا بریبة بالغة إلى المشروعات المقترحة من خارج المنطقة،‏ بل واعتبروها محاولة للهیمنة على العالم العربی لصالح إسرائیل وطمس معالم الهویة العربیة‏-‏ الإسلامیة لشعوبها،‏ ما أعلنه بوضوح‏” أحمد ماهر‏” وزیر الخارجیة المصری السابق‏.‏

وقد أبدى قطاع مهم من المثقفین والحکومات العربیة التحفظات التالیة،‏ رغم غیاب الإجماع بالعالم العربی حول هذه التحفظات،‏ فإنها تعکس وجهة نظر جانب مهم من الکیان السیاسی العربی‏.‏

اولا‏-‏ مشروعات الإصلاح لم تجر صیاغتها بالتشاور مع الدول العربیة‏:‏ تم تصمیم جمیع المشروعات الدولیة للإصلاح بالعالم العربی تقریبا بشکل انفرادی من قبل الدول الغربیة،‏ ما یوحی بأن الدول العربیة جرى النظر إلیها باعتبارها حقلا للتطبیق والتنفیذ،‏ ولیس شرکاء فی صیاغة الأجندة وتطبیقها‏.‏ وقد جرى فرض فکرتی‏” الشرق الأوسط الکبیر‏” و‏”الشرق الأوسط الواسع‏” على المنطقة من الخارج ولم تجد العناصر المحلیة بدا من قبولها والتعامل معها کما لو کانت حقائق مؤکدة،‏ ما یحمل تشابهات قویة مع مشروع الشرق الأوسط القدیم الذی ظهر بحقبة الخمسینیات ونظر إلى المنطقة باعتبارها مجرد مساحة جغرافیة‏.‏ کما یعد هذا التوجه امتدادا للمشروع الأوروبی‏-‏ المتوسطی الذی ظهر بالتسعینیات وجرت فی إطاره صیاغة اتفاقات الارتباط بصورة أحادیة الجانب من جانب الاتحاد الأوروبی،‏ ثم تم تسلیمها إلى دول حوض البحر المتوسط للتفاوض بشأنها دون السماح بإدخال تغییرات جوهریة علیها‏.‏ یذکر أنه أثناء قمة مجموعة الثمانیة بالولایات المتحدة فی یونیو عام‏2004,‏ تم توجیه الدعوة إلى عدد من القادة العرب‏.‏ بید أن ذلک کان بهدف استغلالهم فی إضفاء الشرعیة على الخطط الغربیة،‏ ولیس کشرکاء فی عملیة الصیاغة‏.‏ وقد أعادت تلک التوجهات الغربیة إلى الأذهان العربیة ذکریات السیاسات الغربیة بالقرن التاسع عشر وفکرة‏” العبء الذی یحمله الرجل الأبیض‏”,‏ وهی صورة من غیر المحتمل أن تلقی قبولا فی عصر العولمة‏.‏

ثانیا‏-‏ اتحاد الدیمقراطیة یفترض أن مصادر انعدام الاستقرار بالمنطقة داخلیة بصورة أساسیة،‏ وغالبا ما یجری تجاهل المصادر الخارجیة التی خلقتها القوی الغربیة نفسها‏:‏

تقوم المشروعات الغربیة المعنیة بالعالم العربی على فرضیة أن الجزء الأکبر من المشکلات القائمة بالمنطقة نابع من الداخل،‏ حیث یجری النظر إلى الشرق الأوسط باعتباره منطقة فوضویة متأخرة ومفعمة بشتى صور انعدام الاستقرار الداخلی وخاضعة لهیمنة أنظمة استبدادیة تفتقر إلى الشرعیة وتواجه مشکلات وأزمات اقتصادیة بالغة الصعوبة‏.‏ وبالمثل،‏ یجری النظر إلى العرب أنفسهم باعتبارهم عاجزین عن صیاغة إستراتیجیة حقیقیة للإصلاح،‏ لذا یتعین على الغرب الاضطلاع بتلک المسؤولیة‏.‏

إلا أن العرب من جانبهم یشیرون إلى أن جذور عدم الاستقرار تکمن کذلک فی الصراعات الإقلیمیة وانعدام التوازن الاستراتیجی بالمنطقة والذی تساعد القوى الغربیة على تفاقمه والتدخلات الغربیة غیر المتوازنة فی المنطقة‏.‏ وکان من شأن تلک العوامل خلق أجندة عربیة تهیمن علیها التهدیدات الأمنیة والصراعات،‏ ما أضر بطبیعة الحال بأجندة التغییرات الداخلیة‏.‏ على سبیل المثال،‏ أسفر التأیید الغربی الکامل للسیاسات الإسرائیلیة عن إثارة شکوک عمیقة بالعالم العربی إزاء أی مقترحات صادرة عن الغرب‏.‏ علاوة على ذلک،‏ أولى الغرب من الناحیة التقلیدیة تأییده للأنظمة الاستبدادیة العربیة طالما خدمت مصالحه بالمنطقة‏.‏ بل وقدم الغرب ید العون للقادة الاستبدادیین للسیطرة على مقالید الحکم عبر وسائل تتنافى مع الدستور‏.‏

ثالثا‏-‏ یهیمن على فکر القوى الغربیة النموذجان الأمریکی‏-‏ الیابانی والفرنسی‏-‏ الألمانی فی تناولها للمشکلات العربیة الداخلیة‏:‏ بید أن هذین النموذجین یفترضان هزیمة الجانب الآخر،‏ وبالتالی لا ینطبقان على العالم العربی‏:‏ فی تناولها لقضیة الإصلاح بالعالم العربی تمیل القوى الغربیة للتفکیر على أساس أحد نموذجی التحول السیاسی الفرنسی‏-‏ الألمانی أو الأمریکی‏-‏ الیابانی فی فترة ما بعد الحرب العالمیة الثانیة‏.‏ على سبیل المثال،‏ فی إطار خطاب أدلى به فی‏5‏ أبریل عام‏2002,‏ نوه الرئیس‏” بوش‏” بالسلام الذی تحقق بین بلاده من ناحیة وکل من الیابان وألمانیا وروسیا من ناحیة أخری کنموذج لدول الشرق الأوسط‏.‏ وإذا ما أمعنا النظر فی النماذج الثلاثة التی ذکرها الرئیس الأمریکی،‏ یتضح أن السمة المشترکة بینها هی أنها کانت القوى المهزومة بالحرب العالمیة الثانیة أو الحرب الباردة‏.‏ وبذلک کانت الرسالة الموجهة إلى الدول العربیة واضحة،‏ وهی أن الإصلاح بتلک الدول سیتم من موقع الهزیمة،‏ سواء جاء ذلک بصورة مباشرة من خلال الاحتلال أو بصورة غیر مباشرة من خلال ممارسة ضغوط هائلة على عاتقها‏.‏ وبالطبع،‏ من المستحیل قبول مثل تلک الرسالة داخل العالم العربی.

رابعا‏ً-‏ فی تناولها لمسألة الإصلاح بالعالم العربی،‏ تمیل القوى الغربیة لطرح قیمها‏:‏ تعتمد التوجهات الغربیة إزاء الإصلاح على فرضیة أن ما یقدره الغربیون یتعین على الآخرین تقدیره،‏ وأن عملیات الإصلاح بالدول غیر الأوروبیة یجب أن تحاکی التجربة الأوروبیة‏.‏ ربما تحمل هذه الفکرة مبررا منطقیا فیما یخص القضایا الاقتصادیة والتقنیة‏.‏ لکن منطقیة هذه الفکرة تتضاءل بالتأکید عند تطبیقها على القیم الثقافیة والدینیة‏.‏ فی الواقع،‏ تشدد التوجهات الغربیة على النموذج الأوروبی للتعامل مع القضایا المرتبطة بالنوع وإلغاء عقوبة الإعدام وحریة المثلیین‏.‏ وبینما تلقی مثل تلک التوجهات قبولا داخل أوروبا،‏ فإنها تتعارض مع القیم الثقافیة والدینیة الأساسیة لدی العرب والمسلمین والمسیحیین بمنطقة الشرق الأوسط‏.‏ یذکر أنه فی إطار القمة التی عقدها فی البرتغال فی یونیو عام‏2000,‏ أصدر مجلس الاتحاد الأوروبی وثیقة تحمل عنوان‏” الإستراتیجیة المشترکة للاتحاد الأوروبی تجاه منطقة حوض البحر المتوسط‏” احتوت على بعض العناصر الثقافیة التی تتعارض نصا وروحا مع مبدأ التعددیة الثقافیة‏.‏ على سبیل المثال،‏ فی المادة السابعة من الجزء الثانی والتی جاءت تحت عنوان أهداف الإستراتیجیة المشترکة،‏ أعلن الاتحاد الأوروبی أنه یسعی‏” لتعزیز القیم الجوهریة التی أقرها الاتحاد الأوروبی والدول الأعضاء به،‏ بما فی ذلک حقوق الإنسان والدیمقراطیة والحکم الصالح والشفافیة وحکم القانون‏”.‏ وتشدد الوثیقة فی إطار المادة الرابعة عشرة على أن أحد مجالات العمل والمبادرات المحددة تتمثل فی‏” اتخاذ إجراءات لإقناع جمیع الشرکاء بمنطقة البحر المتوسط بإلغاء عقوبة الإعدام،‏ تبعا لما ورد بالخطوط الإرشادیة المتفق علیها الخاصة بالاتحاد الأوروبی‏”.‏ وتضیف الإستراتیجیة المشترکة فی إطار المادة الثانیة والعشرین أن من بین مجالات العمل الأخرى تعزیز التطابق بین الأنظمة القانونیة من أجل تسویة المشکلات المرتبطة بالقانون المدنی المتعلقة بالأفراد وقوانین الأسرة،‏ بما فی ذلک الطلاق‏.‏ عند النظر إلى المواد الواردة بالإستراتیجیة المشترکة بصورة مجملة،‏ نجد أنها تعد بمثابة إعلان من جانب الاتحاد الأوروبی بأنه یسعی لتعزیز قیمه الثقافیة بمنطقة حوض البحر المتوسط،‏ وأنه یرغب فی أن تتبع دول المنطقة‏(‏ خاصة العربیة منها‏)‏ القیم الأوروبیة‏.‏ ویعکس مثل هذا الإعلان الإیمان بوجود ترتیب هرمی للثقافات،‏ تشکل فی إطاره الثقافات الأوروبیة المرجع‏.‏ وبالنظر إلى أن بعض تلک القیم یتعارض بشکل صارخ مع قیم الإسلام،‏ مثل ما یخص عقوبة الإعدام وقوانین الأسرة،‏ وأن التوافق معها یتطلب تغییر أجزاء من نصوص القرآن الکریم،‏ یتضح مدى الانفرادیة الثقافیة التی ینتهجها الاتحاد الأوروبی.

‏خامسا‏-‏ فی تعاملها مع قضیة الإصلاح بالدول العربیة،‏ تمیل القوى الغربیة لتهمیش الصراع العربی‏-‏ الإسرائیلی‏:‏ ترکز المشروعات الغربیة على الإصلاح الداخلی بالعالم العربی‏.‏ ورغم إشارة الإعلان الصادر عن قمة مجموعة الثمانیة فی یونیو عام‏2004‏ إلى أهمیة تسویة الصراع العربی‏-‏ الإسرائیلی،‏ فإنه استطرد موضحا أن مثل تلک التسویة لا ینبغی أن تؤجل عملیة الإصلاح‏.‏ والأهم من ذلک أن الإعلان لم یقترح إجراء عملیا واحدا للتعامل مع الصراع العربی‏-‏ الإسرائیلی‏.‏ وبدا أن القوى العظمى لا تبغی سوی تقدیم مجرد تأیید شفهی لمسألة ضرورة تسویة هذا الصراع،‏ بینما تصر على أن مثل تلک التسویة ستأتی نتاجا للإصلاحات،‏ ولیس کعملیة مناظرة لها‏.‏

أما محوریة تسویة هذا الصراع فلا تظهر فقط فی الأجندة العربیة،‏ وإنما أیضا فی التجارب التاریخیة للمشروعات السابقة المعنیة بالشرق الأوسط،‏ مثل‏” مشروع شیمون بیریز للشرق الأوسط الجدید‏”,‏ والحاجة لخلق بیئة أفضل أمام جهود إقرار الدیمقراطیة‏.‏ یذکر أن المحللین التابعین لمؤسسة‏” راند‏” تکهنوا بأن إقرار الدیمقراطیة بالشرق الأوسط سوف یترتب علیه حدوث حالة من زعزعة الاستقرار بالمنطقة على المدى القصیر،‏ لأنه سیجلب إلى السلطة حکومات أکثر عداء تجاه الغرب عن الأنظمة القائمة حالیاً‏.‏ وهو أمر صحیح تماما‏.‏ ویتمثل السبیل الوحید لتجنب تحقق هذا السیناریو فی الحد من مشاعر الألم والکراهیة لدی الحکومات الجدیدة تجاه الغرب من خلال القضاء على منابع تلک المشاعر‏.‏ ویعتبر ذلک الوسیلة الوحیدة لضمان تردی الأوضاع بدرجة أکبر فی المنطقة جراء التحول

سادسا‏ً-‏ فی تعاملها مع الشرق الأوسط،‏ تستثنی القوى الغربیة قضیة عجز الدیمقراطیة فی إسرائیل وترکز بصورة کاملة على الدول العربیة وإیران‏:‏ یجری النظر إلى أجندة الإصلاح فی الشرق الأوسط باعتبارها مشکلة تتعلق بالدول العربیة وإیران‏.‏ بینما تعد إسرائیل‏” واحة الدیمقراطیة بالشرق الأوسط ومحاطة بأنظمة استبدادیة‏”.‏ ولا یرد أی ذکر لإجراء إصلاحات دیمقراطیة فی إسرائیل فی الوثائق الصادرة عن اتحاد القوى الکبرى المعنیة بالشرق الأوسط‏.‏ تجدر الإشارة فی هذا الصدد،‏ إلى أنه منذ أمد بعید یعانی‏” عرب إسرائیل‏” من التمییز ضدهم،‏ بما فی ذلک قتل‏13‏ منهم داخل إسرائیل عام‏2002‏ أثناء اعتراضهم السلمی على المذابح التی ارتکبتها إسرائیل بحق إخوانهم الفلسطینیین،‏ علاوة على عملیات القتل المنظم الیومیة بالمناطق الفلسطینیة المحتلة وتدمیر المؤسسات الدیمقراطیة الفلسطینیة،‏ وهی انتهاکات موثقة من جانب الأمم المتحدة‏.‏ والآن،‏ یقبع البرلمانیون الفلسطینیون المنتخبون فی السجون الإسرائیلیة‏.‏ ومؤخرا،‏ أعاقت إسرائیل إجراء انتخابات فلسطینیة بالقدس العربیة وتدخلت فی انتخابات المجلس التشریعی الفلسطینی من خلال تعهدها بإعاقتها حال مشارکة‏” حماس‏”.‏ ومع ذلک،‏ غالبا ما یتم إقرار تلک الممارسات على أساس أن إسرائیل دولة دیمقراطیة،‏ رغم تعارض مثل تلک الممارسات التام مع الدیمقراطیة‏.‏

سابعا‏ً-‏ فی تناولها لمسألة الإصلاح فی الدول العربیة،‏ تتبع الدول الغربیة توجها نقدیا تقایض فیه بالمال مقابل الدیمقراطیة‏:‏ تدور المقترحات الغربیة بصورة أساسیة حول توفیر المال اللازم للمجتمع المدنی والمجموعات التجاریة لتعزیز الدیمقراطیة‏.‏ جدیر بالذکر أن الاجتماع الثانی لـ‏” منتدى المستقبل‏” الذی أنشأته دول مجموعة الثمانیة وعقد بالبحرین فی نوفمبر عام‏2005,‏ أصدر قرارا بإقامة‏” مؤسسة المستقبل‏” لتقدیم‏50‏ ملیون دولار کدعم مالی لجماعات المجتمع المدنی لمساعدتها على تعزیز حکم القانون وحمایة حقوق الإنسان الأساسیة‏.‏ کما خصص‏100‏ ملیون دولار لإقامة‏” صندوق المستقبل‏” لدعم الشرکات التجاریة الصغیرة والمتوسطة‏.‏

ویؤمن بعض المثقفین العرب أن بناء الدیمقراطیة یستلزم توجها متعدد الأبعاد یأخذ فی الاعتبار جمیع العوامل القائمة،‏ سواء ثقافیة أو اقتصادیة أو إقلیمیة‏.‏ أما قصر الترکیز على توفیر إعانات مالیة لمجموعات المجتمع المدنی ووضعها فی مواجهة الأنظمة المحلیة،‏ فلن یخلق سوی مشاحنات داخلیة‏.‏ کما أن مجموعات المجتمع المدنی لیست المرشح الأمثل لبناء الدیمقراطیة،‏ حیث أن بعضها لا یقل فسادا عن الأنظمة الحاکمة.‏

ثامنا‏-‏ أعضاء الاتحاد الدولی المعنی بالدیمقراطیة بالعالم العربی یربطون بین قضیتی الدمقرطة ومحاربة الإرهاب‏:‏ تبرر القوى الدولیة المهتمة بالدیمقراطیة فی الدول العربیة اهتمامها على أساس مکافحة الإرهاب،‏ التهدید الرئیس بحقبة ما بعد‏11‏ سبتمبر عام‏2001,‏ والنابع بصورة أساسیة من العالم المسلم‏.‏ بید أن هناک اختلافا أساسیا بین الدول العربیة والغرب حول تعریف الإرهاب‏.‏ فبینما تضع أوروبا‏” حماس‏” على قائمة المنظمات الإرهابیة،‏ یختلف غالبیة المثقفین العرب مع هذا التصنیف‏.‏ ویخلق الربط بین الإصلاح ومحاربة الإرهاب شعورا بأن الغرب یستغل عملیة الإصلاح فی کبت مقاومة الاحتلال الإسرائیلی للمناطق الفلسطینیة المحتلة،‏ وهی وجهة نظر تدعمت بتهمیش الغرب لمسألة تسویة الصراع العربی‏-‏ الإسرائیلی‏.‏ فی الواقع،‏ ینبغی السعی وراء تنفیذ الإصلاح کغایة فی حد ذاته،‏ ولیس کوسیلة لمحاربة عدو غیر محدد‏.‏ إلى جانب ذلک،‏ فإن الإرهاب لا یعد نتاجا لغیاب الدیمقراطیة،‏ وإنما للتدخلات الغربیة غیر المتوازنة بالمنطقة‏.‏ وسیختفی الإرهاب مع تغیر هذا الوضع‏.‏ بید أن هذه الفکرة لا أثر لها فی الإستراتیجیات الغربیة بالمنطقة‏.‏

تاسعا‏-‏ القوى الغربیة لیست صادقة بشأن رغبتها فی بناء الدیمقراطیة بالدول العربیة،‏ وإنما تستغل هذه العملیة فی الضغط على الحکومات العربیة لتقدیم تنازلات فیما یخص القضایا المرتبطة بإسرائیل ومصالحها الأخرى بالمنطقة‏:

‏من الملاحظ أن القوى الغربیة حدت من ضغوطها على عاتق الحکومات العربیة للمضی قدما على طریق الدیمقراطیة بمجرد تقدیم تلک الحکومات تنازلات ترتبط مباشرة بمصالح هذه القوى بالمنطقة‏.‏ وتجلی هذا الأمر فیما یتصل بمصر،‏ حیث غضت واشنطن الطرف عن الممارسات الاستبدادیة فی الانتخابات الرئاسیة والبرلمانیة عام‏2005‏ بمجرد أن شرع النظام فی تحسین علاقاته مع إسرائیل وتذلیل الصعاب أمام التوجه الأمریکی إزاء السلام بالمنطقة،‏ ما دفع ببعض المثقفین العرب للتساؤل بشأن مدى صدق رغبة القوى الغربیة تحقیق الدیمقراطیة کغایة فی حد ذاتها،‏ ولیس کإستراتیجیة لاستخلاص التنازلات‏.‏

الخاتمة‏:‏

شکل السعی وراء تحقیق نهضة عربیة منذ أمد بعید محل اهتمام بالغ للعرب منذ أن بدأت الإمبراطوریة العثمانیة فی التداعی وشرعت القوى الاستعماریة الغربیة فی هجماتها الوحشیة ضد الدول العربیة فی القرن التاسع عشر‏.‏ وأثار المفکرون العرب والمسلمون من أمثال الأفغانی ومحمد عبده ورشید رضا التساؤلات حول السر وراء تأخر العرب والمسلمین وصعود نجم الأوروبیین واقترحوا إستراتیجیات لمساعدة المجتمعات العربیة على النهوض من جدید‏.‏ وجرى النظر إلى إستراتیجیات إقرار الدیمقراطیة والتوجهات اللیبرالیة باعتبارها عاملا جوهریا فی إنقاذ الشعوب العربیة من تداعی الإمبراطوریة العثمانیة وهجمات الأوروبیین‏.‏ کما أبدى هؤلاء المفکرون إدراکا کاملا بأن النهوض لا یعنی محاکاة الغرب،‏ وإنما العودة للقیم الأصیلة للإسلام التی ضاعت مع توالی القرون‏.‏ وشکلت الهجمات الأوروبیة الاستعماریة ضد الدول العربیة على مدار القرنین الماضیین سببا رئیسیا وراء تأخر تنفیذ تلک الإستراتیجیات،‏ حیث تشتت ترکیز العرب بأجندة التحریر الوطنی،‏ مما أعاق حرکة النهوض الداخلیة‏.‏ وجاءت مشارکة العرب فی الأجندة الجیو‏-‏ سیاسیة للتهدیدات الأمنیة الإقلیمیة بعد الحرب العالمیة الثانیة لتعزز هذا التوجه‏.‏ ولولا تلک الأجندة،‏ لکان العرب الیوم قد حققوا مستوى من الدیمقراطیة شبیها بما حققته دول مثل إندونیسیا ومالیزیا‏.‏ علاوة على ذلک،‏ خلفت التجارب التاریخیة للعلاقات بین العرب والغرب مشاعر شک وریبة عمیقة إزاء المشروعات التی یتولى الغرب رعایتها داخل المنطقة‏.‏

یجری النظر إلى خلق اتحاد دولی معنی بالدیمقراطیة فی عام‏2004‏ من هذا المنظور التاریخی‏.‏ على سبیل المثال،‏ نظر وزیر الخارجیة المصری السابق‏” أحمد ماهر‏” إلى هذا الأمر باعتباره محاولة لإلحاق الضعف بالهویة العربیة‏-‏ المسلمة‏.‏ بینما رأى آخرون فیه امتدادا لمعاهدة‏” سایکس‏-‏ بیکو‏” الموقعة عام‏1916‏ والتی تم بمقتضاها تقسیم الوطن العربی بین بریطانیا وفرنسا‏.‏ وتکمن المشکلة الرئیسیة فی أن هذا الاتحاد تم إنشاؤه دون مشاورة الدول العربیة،‏ بما فی ذلک الحکومات وجماعات المجتمع المدنی والأفراد،‏ وعمدت القوى الغربیة إلى تحدید مهام معینة لمراقبة التطورات بمجالات محددة،‏ مما یعزز من جدید اتفاق‏” سایکس‏-‏ بیکو‏”.‏

بید أن ذلک لا یعنی بالضرورة أن الاتحاد الدولی لیس بإمکانه تقدیم إسهامات إیجابیة فی عملیة النهوض الداخلی للمجتمعات العربیة‏.‏ وبمقدوره القیام بذلک،‏ شریطة ألا یستغل هذه العملیة فی استخلاص تنازلات طبقات الصفوة الحاکمة لصالحه،‏ والتحرک على الصعیدین الداخلی والإقلیمی فی نفس الوقت‏.‏ على الصعید الداخلی،‏ ینبغی أن یقصر دوره على دعم المبادئ الأساسیة للدمقرطة واللیبرالیة،‏ دون التورط فی عملیة صیاغة الأجندة وتنفیذها،‏ حیث أن هذه المجالات یجب أن تکون للعرب وحدهم‏.‏ وبمقدور الاتحاد استخدام بعض أدوات الإقناع والعقاب شریطة استخدامها بصورة عادلة خالیة من التمییز ضد جمیع منتهکی حقوق الإنسان والدیمقراطیة‏.‏ وکمؤشر على الالتزام بالعملیة الدیمقراطیة،‏ ینبغی على دول الاتحاد إبداء اهتمام متکافئ بجمیع دول المنطقة،‏ ما سیخلق زخما قویا لعملیات الدمقرطة بالعمال العربی‏.‏ وینبغی أن تتم إضافة عقد حوار حول حقوق الإنسان الخاصة بالعرب والمسلمین داخل أوروبا إلى أجندة‏” منتدى المستقبل‏”,‏ إذا ما کانت هناک رغبة حقیقیة فی أن یتمتع بمصداقیة قویة‏.‏ أما على المستوى الإقلیمی،‏ من شأن الالتزام الصارم بتسویة جمیع الصراعات بالمنطقة تعزیز الزخم لتلک الجهود‏.‏ وبالتأکید ستسهم هذه التطورات فی الحد من حالات انعدام الاستقرار قصیرة الأمد التی تکهن بها بعض المحللین حال تحول الشرق الأوسط نحو الدیمقراطیة‏.‏ فی الواقع،‏ مثل تلک الحالات من انعدام الاستقرار قد تنشأ فقط إذا لم یصاحب عملیات الدمقرطة عملیة موازیة لتسویة الصراعات الإقلیمیة،‏ حیث ستأتی الدیمقراطیة بأنظمة حاکمة أشد عداء للغرب وتدخلاته غیر المتوازنة بالمنطقة،‏ عن الأنظمة الحالیة‏.‏

بید أنه لا یبدو أن القوى الغربیة المهتمة بالمنطقة العربیة مدرکة لهذا الأمر،‏ حیث تری التأکید العربی على ضرورة تسویة الصراع العربی‏-‏الإسرائیلی مجرد ذریعة لتجنب إقرار الدیمقراطیة‏.‏ علاوة على ذلک،‏ تختلف ثقافة الدول العربیة عن ثقافات القوى المهزومة المشار إلیها آنفا‏.‏ ومن المستحیل إقناع العرب بالاعتراف بالهزیمة وعقد سلام وإجراء تغییرات دیمقراطیة انطلاقا من هذا الاعتراف‏.‏ تجدر الإشارة فی هذا الصدد،‏ إلى أن‏” السادات‏” لم یکن لیتمکن من إبرام سلام مع إسرائیل دون النصر الجزئی الذی حققه فی أکتوبر عام‏.1973‏ مما سبق یتضح أن الشغف الغربی بالنموذجین الألمانی‏-‏ الفرنسی والأمریکی‏-‏ الیابانی لن یثمر أی إنجازات کبرى بالشرق الأوسط‏.‏ جرى النظر إلى تلک القوى الخارجیة باعتبارها اتحاد جدید من القوی الأورو‏-‏ أمریکیة لإعادة ترتیب الشرق الأوسط لصالح إسرائیل،‏ حیث لا تقدم المشروعات المقترحة سوى دعم شفهی لمسألة تسویة الصراع العربی‏-‏ الإسرائیلی وتدعی أن هذا الصراع ستتم تسویته فقط بعد إجراء إصلاحات داخلیة بالمجتمعات العربیة‏.‏ ولکن بعد إجراء تلک التغییرات لن یکون هناک ما یمکن التفاوض بشأنه،‏ لأن إسرائیل سیکون أمامها متسع من الوقت لتعزیز احتلالها واستعمارها للمناطق الفلسطینیة‏ کاملة.

ن/25

 

 

 


| رمز الموضوع: 143238







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)