مناضلون لا مرتزقة!

رشاد أبوشاور

فی شهر أیّار/مایو الماضی أعلنت السلطة أنها ستکون عاجزةً عن صرف رواتب موظفیها، فی حالة واصلت حکومة نتنیاهو تجمید أموال الجمارک والضرائب الفلسطینیّة التی یتّم تقاضیها عن البضائع والسلع المستوردة لمناطق السلطة الفلسطینیّة.

کان نتنیاهو أمر بوضع الید على الأموال فی شهر أیّار/مایو، عقابا للسلطة على توقیع اتفاق المصالحة مع حماس، بالأحرف الأولى، فی القاهرة، برعایة مصریة.

بعد مناشدات، وتدخلات، بخاصة من إدارة أوباما التی لا تملک سوى مناشدة الحلیف القوی باللوبی، والکونغرس، وصنادیق الانتخابات، والإعلام..وکلها یحتاجها أوباما فی معرکته للفوز بفترة رئاسیة ثانیة، أفرجت حکومة نتنیاهو عن حوالى مائة ملیون دولار، فصرفت السلطة رواتب الموظفین!

فی شهر حزیران لم تضع حکومة نتنیاهو یدها على أموال الجمارک الفلسطینیّة، ومع ذلک خرج رئیس وزراء السلطة الدکتور سلام فیّاض یوم الأحد الماضی، فی مؤتمر صحافی شرح فیه، بدون أن یقنع کثیرا من الصحافیین الحاضرین، وکثیرا من الفلسطینیین الذین شاهدوه وسمعوه، أحوال السلطة المالیة، ووعد بصرف نصف راتب فقط عن شهر حزیران.. بسبب الضائقة المالیة!

عندما سئل الدکتور فیّاض عن الدول المانحة التی لم تف بحصتها فی دعم مالیة السلطة، تهرّب من الإجابة، ولفّ ودار، حتى أن صحافیة حاضرة واجهته بالقول: أنت لم تجب على السؤال یا دکتور! ..وواصل الدکتور اللف والدوران، متهربا من تقدیم إجابة مقنعة.

ثمّة أسئلة کثیرة لتطرح على الدکتور فیّاض، وأرکان السلطة، لعلّ أولها: هل أن (المصالحة) المتعثرة التی لم تتم، هی السبب فی (نصف الراتب)، وهو ما یدفع للقبول بالتفسیر القائل بأن الدول المانحة ترفض المصالحة، بخّاصة إذا لم یأت الدکتور سلام فیّاض، من جدید، رئیسا للوزراء؟!

بهذه الحالة، ألا یمکن أن نسأل مع السائلین: هل حقا السلطة مفلسة (مالیا)، وتعیش شهرا بشهر، وکأنها هی نفسها (موظفة)، ولذا فإنها ستبقى مهددة (براتبها) إن هی لم تقم بالأعمال المطلوبة منها خیر قیام، وبنفس الطاقم؟!

وبما أننی من قدامى (المحاربین) أجد أن أسئلة کثیرة تتزاحم فی رأسی وأنا أتأمل الحال الذی تردّت إلیه (حالنا) التی تصعب حتى على بعض من هم لیسوا أصدقاء لنا: أین تبددت، واختفت ملیارات الدولارات التی تدفقت على مالیة السلطة الفلسطینیّة منذ عام 1994 وحتى العام 2011؟!

وسؤال لا بدّ منه: ماذا عن المشاریع، وفی مقدمتها (صامد) ..هل انتهت بالخسارة، وکیف، من حاسب، ومن حوسب؟!

وماذا عن المشاریع الکثیرة التی بقیت خافیة على اللجنة التنفیذیة، والمجلس الوطنی، وحتى المشرفین المالیین على الصندوق الوطنی (المهمّش) کونه من بقایا منظمة التحریر الفلسطینیّة، وعلى مالیة السلطة..وعلى الشعب الفلسطینی بقضه وقضیضه!

المتابعون من شعبنا، یرون تحت أبصارهم، أفرادا بدأوا فقراء متواضعین، وفدوا إلى الثورة بنوایا ثوریة، واستعداد للتضحیة، ولکنهم مع الوقت تغیّروا، وصاروا فی رمشة عین رجال أعمال، وبزانسة، یتنقلون بحقائب سامسونایت، ونظارات سوداء لزوم الغموض والتمیّز وتغیّر الأحوال، وإعلانا عن القطع مع الماضی الکلاشنکوفی، والانتقال إلى طبقة رجال الأعمال 5 نجوم لباسا وفنادق للمترفین المنعمین!.

تعلمنا مبکرا أن المال عصب الثورة، وقرأنا کیف نمّت الثورات أموالها، ومصادر دخلها، ولذا قبلنا فی البدایة ظهور جماعة السامسونایت، والنظارات السوداء، وتسامحنا بالفنادق الباذخة، على اعتبار أن (هم) یلتقون هناک برجال أعمال محترفین لا تهمهم الثورات، فهم فقط یسعون للربح فی الصفقات التی یعقدونها.

ولکن هؤلاء فجأة انسحبوا کالشعرة من العجین، و..ظهرت علیهم النعمة، وأی نعمة..بعد أن انخرطوا فی البزنسة لأنفسهم، وباتوا یملکون شرکات لها سفن تمخر البحار، ومستشفیات درجة أولى یموت الأخ والرفیق ولا یسمح له بعبور أبوابها، لأنه لا یملک المال الکافی للإقامة فی غرف 5 نجوم، والتمتع بعلاج یقدم لمن یدفع!.

مناضلون یبیعون البالة، ویتنقلون بساق واحدة، بعد أن ضحّوا بساق للوطن والقضیة، و..بعین واحدة، وبهامة محنیة من ثقل عبء الأسرة، وبؤس النهایة، من ثائر للتحریر إلى بائع خضار متنقّل فی البرد، وتحت الشمس، وفی الغبار.

هؤلاء الثوّار القدامى المضحون، الذین یعیشون بأنصاف أجساد، ویتابعون أخبار من جاء إلى (الفاکهانی) وهو یمشی بشحاطة فی قدمیه لرثاثة حاله، فإذا به حالیا یتنقل بطائرة خاصة متفقدا مشاریعه، وشرکاته المنتشرة فی العالم شرقا وغربا، ویتردد اسمه فی کازینو البحر المیّت المثیر للجدل فی الأردن، ربما بدیلاً عن فشل مشروع کازینو(الواحة) قرب أریحا، وقبالة مخیّم (عقبة جبر) والذی تعطّل إبان انتفاضة الأقصى.

المناضلون الذین یعیش واحدهم بنصف جسد، مطلوب منهم أن یعیشوا مع أسرهم بنصف راتب، وکذا المناضلون الذین نیّف کثیر منهم على الستین، وتخلّوا عن دراستهم الجامعیة، ووظائفهم، واندفعوا بعد هزیمة حزیران وحملوا السلاح بروح فدائیة حاملین أرواحهم على أکفهم، مضحین بشبابهم کاملاً، ولیس بنصف شباب، وبنصف روح فدائیة مقاومة!

الموظفون الذین ضمتهم السلطة لدوائرها، حلموا أن یسهموا فی بناء( دولة) على جزء من أرض فلسطین، وفی خدمة شعبهم، وأنهم سیسهمون فی دحر الاحتلال بالبناء المؤسسی..فهل یعاقب هؤلاء بمنحهم نصف راتب، ابتزازا، وامتهانا، وإذلالاً؟!

فلتان مالی، وفردیة ضیقة الأفق مدمرة وضعت أموال الشعب الفلسطینی فی أیدی مارقین اکتشفوا سهولة الاستحواذ على الملایین دون حساب وعقاب، ثمّ فی نهایة الأمر، ومع دبیب الشیخوخة فی جسد (الرجل المریض)، یتّم الاستحواذ على مئات الملایین، بصفقة بین مارق ورجال أمن یغطونه ویشارکونه!.

ثمّ نسمع عن دیون قدّمت لدول، منها دولة أندونیسیا، وبمئات الملایین من الدولارات، ثمّ ..نسمع أیضا عن (سرقة) سندات الدین، ودون متابعة وتحقیق جدّی للوصول للحقیقة، والوحید الذی یثیر القضیة هو سفیر فلسطین السابق فی أندونیسیا، والذی اطلعت على مذکراته التی وزع کثیرا من نسخها، وباتت متداولة، ولا من یهتم، أو یتابع، أو یحقق، أو یُسائل حتى نعرف الحقیقة!

ومن الأسئلة ما یتردد بأفواه فلسطینیین مقهورین، یرون التبذیر، والبطر، والبهورة، ومنها: لماذا السیّارات المصفحة، والتی تکلف واحدتها أکثر من ربع ملیون دولار، وخرابها یحتاج لألوف الدولارات ثمنا للقطعة الواحدة فی سیّارة القائد (المحروس)؟!

ما هو مصدر الخطر مثلاً على عضو لجنة تنفیذیة؟ من الاحتلال! الجمیع فی قبضة الاحتلال، فحواجزه تقطع الطرق، ودوریاته تقتحم البیوت فی رام الله عاصمة السلطة!

أتراهم یخافون من الشعب الفلسطینی الذی یعیشون معه تحت الاحتلال؟!

نصف راتب!..هل یعیش الجمیع بنصف راتب؟هل هناک مساواة، وأخوّة، وعدالة، وشفافیة..بحیث یقتنع الشعب الفلسطینی، ویتحمّل، ویسهم فی الخروج من الضائقة المالیة؟

هذه سیاسة، یعرف شعبنا هذا، ومن یعارضون عودة فیاض رئیسا للوزراء أیضا یلعبون سیاسة، فهم موافقون على مواصلة الرئیس عباس لسنة کاملة للجهود السلمیة..ومع ذلک یرفضون سلام فیّاض، ولا یطرحون منهجا مقاوما..وطبعا لا یفصحون عمّا یتدفق إلیهم من أموال..لا نصیب فیها لأحد سوى محازبیهم!

أما آن لشعبنا أن ینفجر فی ثورة تصحیح جذریّة، إنقاذا للقضیّة، ولیس للرواتب کاملةً..رغم أهمیتها؟!

ن/25