الاحد 13 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

الجاسوس الثائر!

 

صلاح حمیدة

 

یطلق خبراء الأمن فی العالم على الحرب الدّائرة بین أجهزة المخابرات " حرب الأدمغة" وکلمة المخابرات بالعربیة تدور حول مشتقّات الخبر والمخابرة وما یتفرّع عنهما من عملیّات بحث وتفکیر وصراع، أمّا فی اللغة الإنجلیزیّة فتدور حول الذّکاء والأذکیاء، ففی الدّول المتقدّمة والدّول التی تحکمها شعوبها، وتحرّک ساستها مصالح دولهم، لا یعمل فی أجهزة المخابرات إلا أذکى الأذکیاء، حیث یتمّ انتقاؤهم بعنایة من مرحلة المدارس الثّانویة ومن الجامعات، فقد ذکر أحد عملاء المخابرات السّوفیّاتیة أنّه تمّت رعایته وهو طالب فی الثّانویة والجامعة حتّى أتمّ کافّة التّدریبات اللازمة لیصبح ضابطاً محترفاً فی الـ"کی جی بی"، بل ذکر أنّ بعض الضّباط المحترفین کانوا نتاج عمل متواصل منذ الصّبا حتّى بلغوا ما بلغوا من القیام بعملیّات بالغة السّریّة فی العالم.

هذه الرّعایة من قبل الدّول المتقدّمة- ومن ضمنها الدّولة العبریّة- مکّنت تلک الدّول من اختراق صفوف أعدائها، ومن إلحاق الهزائم المتتالیة بهم، بل مکّنتها من إحباط الکثیر من خططهم واستعداداتهم للحرب علیها، وفی حین کانت الحرب الباردة تدور بین معسکرین کبیرین یتحاربان عن طریق المخابرات، فقد کانت حربهما عبارة عن "حرب أدمغة" وکانت الحرب سجالا بین الطّرفین، حتى انتصر المعسکر الغربی.

فی صراع العرب مع الدّولة العبریة، کانت المخابرات العبریّة تتقدّم على نظیراتها العربیّة بالکثیر من الخطوات، وهذا نابع من العدید من العوامل التی یتوجّب ذکر بعضها للأهمّیّة:

 

* الإمکانیّات المفتوحة من الغرب الإستعماری وبعض الشّرق الشّیوعی "سابقاً" لدعمها بالخبرات والإمکانیّات والتّنسیق وتبادل المعلومات والمشارکة فی بعض العملیّات.

 

* اهتمام صنّاع القرار فی الدّولة العبریّة بتجنید ضبّاط وعاملین من النّخب العلمیّة، وأصحاب المهارات المتنوّعة التی تمکّن من تحقیق الأهداف الموضوعة بکل سهولة، بالإضافة للترکیز على النّوع لا الکم فی التّجنید، والإبتعاد عن التّجنید على أسس غیر مهنیّة.

 

* عقیدة هذه الأجهزة تقوم على تحقیق أهداف دولتهم والفتک بأعدائها ومدّها بأسباب الحیاة، ولذلک یعمل عناصر تلک الأجهزة بتوافق تام لتحقیق الأهداف والمهمّات المناط بهم تنفیذها، یتعاون الیساری مع الیمینی بلا حساسیّات، ولا یعملون بأجندة حزبیّة، ولا ضدّ أحزاب منافسة، فالمنافسة فی البرلمان وحلبات السّیاسة، ولا مکان لها فی أجهزة الأمن والعسکر. فعندما تفقد أجهزة مخابرات الدّول بوصلتها، وتبدأ بقمع واستهداف شعبها، تقع تلقائیّاً فی دائرة الفشل الذّریع فی اختیار الأفراد وفی الممارسة والمنهج على أرض الواقع، وتصبح أرضهم مشاعاً لکل أجهزة الاستخبارات المعادیة، وهذا ما یجری فی أغلب الدّول العربیّة، إن لم یکن کلّها.

 

* المحاسبة واستخلاص العبر، من أهم مرتکزات العمل النّاجح، وبالذّات فی العمل الأمنی، فهذه قاعدة أساسیة فی عمل أجهزة استخبارات أعداء العرب. فأی جهاز لا یعتبر من أخطائه، ولا یحاسب مقترفیها، یقع تلقائیّاً فی قاع التاریخ مهشّماً عاجزاً. فکیف إن تمّ ترقیة الفاشل وإبعاد النّاجح؟ فقد ذکر قبل فترة أنّ ضابطاً رفیعاً فی دولة عربیة اکتشف شبکة اتصالات تجسّسیّة إسرائیلیّة متطورة، فتمّ إبعاده من منصبه على الفور، لا أدری هل هذا ثواب أم عقاب؟!.

سنظلم المخابرات العربیّة إن قلنا إنّها عاجزة تماماً عن تحقیق المعاییر التی یتقنها أعداؤها، ولکن من الإنصاف والموضوعیّة کذلک أن نرسم لها صورتها التی تظهر بها، وتمییز الصّالح منها عن الطّالح، ووضع وسام على صدرها لإنجازاتها، وانتقادها وتصویبها لإخفاقاتها.

فالمخابرات العربیة قامت بعملیّات نوعیّة کثیرة خلال الصّراع الطّویل مع الاحتلال، وحقّقت إنجازات ووقعت فی إخفاقات، ولکن من المؤسف القول إنّ قائمة الإنجازات لیست کبیرة، فی مقابل الإخفاقات الکثیرة. فالأولویّة الأولى لغالبیّة أجهزة المخابرات العربیّة هی ملاحقة والقضاء على المعارضة السّیاسیة وخصوم النّظم الحاکمة، ولا مکان تقریباً للصّراع مع الاحتلال فی أجندة وعقیدة تلک الأجهزة.

خلال الفترة الماضیة تمّ الکشف عن الکثیر من الجواسیس فی لبنان ومصر وسوریا والسّودان وقطاع غزة، ولا نکاد نسمع عن الإمساک بشبکة حتّى نسمع عن أخرى، وباعتقادی أنّ القائمة تطول وستطول، وبالرّغم من الحالة الإحتفالیّة التی ترافق هذه الإعلانات إلا أنّها تدلّ على شبه عجز فی قدرات الکثیر من أجهزة المخابرات العربیّة. فالإنجاز الحقیقی لأی جهاز مخابرات یکمن فی تجنیده لعناصر مهمّة فی صفوف أعدائه، وتحقیقه لأهداف مهمّة فی ساحة الصّراع، بالإضافة إلى إحباط العمل التّجسسی والسّیطرة على کافّة خیوطه قبل بدء العمل، ولیس اکتشافه بعد أن تکون "الفأس قد وقعت فی الرّأس".

وما یفسّر حالة الشّعور بالنّقص التی تعیشها الکثیر من أجهزة الأمن العربیّة، ما تقوم به من تقدیم معلومات مجّانیّة للأجهزة المخابراتیة المعادیة، من ذکر تفاصیل عثرات الجواسیس وکیفیة إلقاء القبض علیهم، وهذا یمکّن تلک الأجهزة المعادیة من "استخلاص العبر" وتلافی الأخطاء التی أدت لکشف جواسیسها، فلیس مطلوباً من أجهزة المخابرات العربیّة تقدیم محاضر وتفاصیل تلک االقضایا، وقیمتها تکمن فقط ببقائها سرّیّة.

تستمر قضیّة الضّابط الإسرائیلی الذی ألقی القبض علیه فی مصر فی التّفاعل على الصّعد الأمنیّة والدّبلوماسیّة والإعلامیة والشّعبیّة، وبینما تتهمه السّلطات المصریّة بالتّجسس علیها، مرفقةً ذلک بحملة إعلامیة کبیرة، تعمل دولة الإحتلال على تسفیه القضیّة ونفی التّهم عن جاسوسها، مدّعیةً أنّ عمل جواسیسها أکثر احترافیّةً بکثیر، وتصرّفات هذا "الفتى غریب الأطوار" ترقى لأعمال الهواة، ولا علاقة لها بالعمل المخابراتی الإسرائیلی البتّة.

قد یقتنع المرء بالمنطق الإسرائیلی مؤقّتاً، قبل أن یبدأ بالتّفکیر بالموضوع بجدّیّة وبشمول أکثر من المشهد المعلن، فمن خبر حرص الإسرائیلیین على العمل بدقّة وتمویه متناه، قد یصل لاستنتاج یقترب من الدّفاع الإسرائیلی عن هذا المتّهم بالتّجسّس، ولکن هل أعمال التّجسّس کلها مثل اغتیال المبحوح فی دبی؟ وهل کلّها مثل محاولة اغتیال مشعل؟ أو اختطاف ضرار أبو سیسی؟ أو مثل اغتیال الشّقاقی وأبو جهاد وغیرهم؟ وهل من عادة دولة الإحتلال أن تعترف بجواسیسها المضبوطین فی قضایا مماثلة؟.

یعرف العرب أنّ الدّولة العبریة اخترقتهم عن طریق إیلی کوهین، وبالتّأکید یوجد غیر إیلی کوهین فی العالم العربی، فالکثیر من الجواسیس یتنقّلون فی العالم العربی بهویّات وتغطیة مختلفة، یتقنون اللغة العربیة والشّعائر الإسلامیة بدقّة، یتحدّثون بلهجات النّاس ویعرفون عاداتهم وتقالیدهم، فقد ذکر رئیس جهاز المخابرات الإسرئیلی السّابق یعقوب بیری أنّه تلقّى تدریبه العملی الأول فی بیت أحد بیوت عملاء الإحتلال فی قریة عربیّة، وأنّه عاش معهم فترة طویلة کقریب للعائلة أتى من الخارج، وتشرّب العادات العربیّة منهم، حتّى أنّ قائداً عسکریاً شاهده وهو یعیش فی بیت تلک العائلة، تفاجأ عندما رآه بعد فترة فی اجتماع أمنی، وتساءل: "ماذا یفعل هذا العربی هنا؟"..

ضابط مخابرات إسرائیلی آخر ذکر فی مذکّراته أنّ الجزء العملی من تدریبه کان بخروجه لمدّة أربعین یوماً مع جماعة الدّعوة والتّبلیغ، مدّعیاً أنّه مسلم أجنبی ویرید تعلّم الإسلام، وقال إنّ هذه التّجربة أعطته فرصة کبیرة لتعلّم الکثیر عن العرب والمسلمین، ولم ینس أن یرفق کلامه بصور له فی العدید من المراکز الدّعویة فی العدید من الدّول العربیّة والإسلامیّة، بل أصبح یرسل زملاءه من "المسلمین الجدد" لتعلّم الإسلام، بدخول کل بیت وکل مسجد وکل شارع وکل دولة إسلامیّة وغیر إسلامیّة.

ضابط الموساد الّذی ألّف کتابه "بطریق الخداع" قال: إنّ ضابط مخابرات کان یدّعی أنّه تاجر لییبی مقیم فی دولة أوروبیّة فی السّبعینیات من القرن الماضی، ومنح عناصر من منظّمة التّحریر الفلسطینیة بیتاً کهدیّة للثّورة والثّوار، وتبیّن فیما بعد أنّ کل نشاطاتهم واجتماعاتهم کانت تحت عینی المخابرات الإسرائیلیة. وغیره من الضّباط وعملائهم منحوا سیاّرات وخلافها من الهدایا، کانت کلّها تحتوی على مَقاتل آخذیها من عناصر الثّورة الفلسطینیّة.

کل ضبّاط المخابرات الإسرائیلیة یجتازون ما یعرف بالتّجنید العسکری الإجباری، وبعدها یبدأون بدراسة تاریخ الشّرق الأوسط، والعادات والتّقالید العربیّة، والإسلامیّات، ویقومون بتمارین عملیّة فی الأسواق والمؤسّسات والجامعات تحت غطاء یناسب کل موقع، ویتمرّنون على لبس الألبسة التّقلیدیّة العربیّة وغناء الأغانی العربیّة وأکل الأکلات وشرب المشروبات العربیّة، بل ذکر أحدهم فی کتابه أنّه تلقّى أوّل هدیّة له عبارة عن کتاب عن الأمثال العربیّة.

بعض العملاء أقرّوا فی مقابلات صحفیّة وتلفزیونیّة أنّهم کانوا یشکّلون غطاءً لضبّاط وضابطات فی المخابرات الإسرائیلیّة، لتنفیذ مهام واختراق مجتمعات وتجنید عملاء فی دول عربیّة من شمال أفریقیا والخلیج الفارسی وإیران وترکیا ومصر وغیرها.

عمل المخابرات الإسرائیلیة واسع جداً، ولا یقتصر فقط على مهمّات تقلیدیّة معیّنة، وکل مواصفات الضّابط المخابراتی موجودة فی هذا المقبوض علیه فی مصر، فقد أدّى الخدمة العسکریة بعد قدومه مباشرةً للدّولة العبریّة من الولایات المتّحدة، التی یحمل جنسیّتها، ثمّ تحوّل مباشرةّ لتعلّم اللغة العربیة بشکل مکثّف حتّى أتقنها بامتیاز، ثمّ انتقل لتعلّم الإسلامیّات حتّى "خطب فی الأزهر" ثمّ تعلّم العادات والتّقالید والشّعبویّة والحالة الثّوریّة العربیّة، وتعلّم عن کیفیّة التّواصل مع الشّباب الثّائر بکل سلاسة وسهولة، کل هذا تعلّمه خلال فترة قصیرة وبشکل مکثّف، حتّى ذهب إلى مصر فی مهمّة قد تکون أکبر مما أعلن عنه، فهل من یتعلّم کل هذا فی فترة زمنیّة قصیرة عبارة عن شاب هاوٍ غریب الأطوار؟ أم أنّه دفع لتعلّم درس عملی فی ظل قناعة من رؤسائه بأنّ حالة الفوضى التی تعیشها مصر ستمکّنه من إتمام ما ذهب من أجله؟.

ومن حقّ العرب أن یتساءلوا، إذا کان جواسیس الدّولة العبریة یطلّون علیهم على هیئة المتضامن الأجنبی، وعلى هیئة المسلم الجدید، وعلى هیئة مؤسسات استطلاع، أو مؤسسات خیریة، أو مرکز ثقافی، أو مؤسسات منح دراسیّة، أو صحافة دولیة، أو قریب عائد للوطن، أو مستثمر أو سائح أو دبلوماسی أو خلافه، فلم العجب أن یطلّ علینا فی عصر الثّورات العربیّة، ما یمکن أن یطلق علیه "الجاسوس الثّائر"؟!.

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 143233







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)