"اسرائیل"! وداعا
"اسرائیل"! وداعا
دکتور شامیل سلطانوف
مدیر مرکز الدراسات الاستراتیجیة روسیا والعالم الإسلامی
نشر فی صحیفة زافترا الروسیة بتاریخ 29/6/2011
ستالین وترومان
ظهرت دولة "اسرائیل" فی مایو 1948 وفقا لقرار الجمعیة العامة للامم المتحدة فی تشرین الثانی (1947)، وکان هذا قرارا شکلیا للغایة، لأن إقامة دولة یهودیة مصطنعة فی قلب العالم العربی أصبح ممکنا فقط بفضل النوایا الاستراتیجیة لزعماء الولایات المتحدة والاتحاد السوفیاتی -- أقوى الدول فی فترة ما بعد الحرب.
لعبت العوامل المعنویة والعاطفیة المرتبطة بمصیر الیهود فی أوروبا بعد الاحتلال النازی دورا هامشیا لدى کل من ستالین وترومان. الهدف الأهم کان مختلفا. کل من الاتحاد السوفیاتی والولایات المتحدة نظروا إلى دولة الیهود القادمة بوصفها أداة فعالة لتنفیذ مصالحهم طویلة الأجل فی الشرق الأوسط.
انتهت الحرب العالمیة الثانیة، وبدأ تقسیم مناطق النفوذ بین القوتین العظمیین الجدیدتین فی کل رکن من أرکان هذا الکوکب. والأهمیة الخاصة لمنطقة الشرق الأوسط الکبیر کانت واضحة بالفعل فی أذهان جمیع السیاسیین ذوی التفکیر الاستراتیجی. فلیس من قبیل الصدفة أن یسعى ستالین فی ذلک الوقت للحصول على لیبیا تحت حمایة الاتحاد السوفیاتی.
لکن المنطقة کانت لا تزال تحت سیطرة الدول الاستعماریة الکبرى آنذاک - بریطانیا وفرنسا. رغم أن باریس ولندن خرجتا من الحرب العالمیة الثانیة فی حالة ضعف شدید، إلا أن التخلی طوعا عن هیمنتهما فی منطقة الشرق الأوسط الغنیة بالنفط، لم یکن حسبانهما.
کان من المقرر ان تصبح "إسرائیل" بلدوزرا تحت السیطرة، من شأنه أن یساعد على تمهید الطریق الى المنطقة سواء للاتحاد السوفیاتی (کما رغب ستالین) أو للولایات المتحدة (کما أراد ترومان). ولکن الخطأ فی الحسابات کان من نصیب ستالین. فقد أرسل الى فلسطین (التی کانت لا تزال تحت الانتداب البریطانی) الالاف من ضباط الجیش والمخابرات الذین اعتقد أنهم على درجة کبیرة من الثقة من الیهود الشیوعیین کی یقیم بمعونتهم "إسرائیل" الاشتراکیة، ولکن ثبت أن نداء الدم أقوى من المعتقدات الشیوعیة. واتضح سریعا أن ستالین "ألقی خارجا" .
ربما أصبحت هذه المحاولة الفاشلة مع "إسرائیل" وإن لم تکن وحدها، من أسباب کراهیة ستالین العمیقة، فی فترة مبکرة من حیاته السیاسیة ، للیهود. (ذات مرة قبل عام 1917، اقترح الزعیم المستقبلی إلى "حملة تنظیف" واسعة فی صفوف الحزب لتخلیصه من "سیطرة العناصر الیهودیة" علیه، وربما کانت مجرد مزحة، ولکنها معبرة للغایة.) على أی حال قضیة "الأطباء الیهود" او حملة " العالمیون بلا جذور" (حملة أیدیولوجیة أجریت فی الاتحاد السوفییتی فی الأعوام 1948-1953، واستهدفت شریحة من المثقفین الحزبیین الیهود - المترجم) کانت هذه الحملات تحمل فی طیاتها أصداء فشل العملیة الستالینیة فی الشرق الأوسط ذات الاسم الرمزی "إسرائیل".. فی نهایة المطاف قتل ستالین، ولکن "النزعة المعادیة لإسرائیل" بقیت بین خلفائه حتى غورباتشوف.
لکن الوضع فی ذلک الوقت لم یکن صفوا کذلک فی العلاقات بین الولایات المتحدة والدولة الیهودیة المشکلة حدیثا. الحکام "الإسرائیلیون الأوائل" فضلوا الاعتماد أکثر على علاقاتهم التقلیدیة مع أوروبا ، حیث استقرت مراکز الصهیونیة العالمیة. لا سیما أنه منذ ما قبل الحرب العالمیة الثانیة، کانت أمیرکا إحدى البلدان العدیدة التی تزدهر فیها معاداة السامیة لیس فقط على مستوى شعبی بسیط، بل وعلى مستوى النخبة، والدوائر السیاسیة.
لذلک ، شارکت "إسرائیل" ، جنبا إلى جنب مع بریطانیا وفرنسا فی حرب "العدوان الثلاثی" على مصر عام 1956 ، بعد أن أمم جمال عبد الناصر قناة السویس. کانت هذه هی المرة الوحیدة فی تاریخ "الدولة" العبریة، التی تشارک فیها "إسرائیل" فی الحرب ضد جیرانها العرب، دون أن تتلقى موافقة مسبقة من واشنطن.
وقفت موسکو التی کان لها آنذاک علاقات وطیدة مع مصر الثوریة بحزم ضد هذا العدوان. القیادة السوفیاتیة صرحت انه إن لم توقف هذه الحرب فورا، فإن ثلاثمائة ألف من المسلمین السوفیات سوف یهرعون لنجدة إخوانهم فی الدین المصریین. وعندما هرعت لندن وباریس المذعورتین طلبا لمساعدة الأمریکان صارحهم ایزنهاور، بأن التزامات حلف شمال الاطلسی للمساعدة المتبادلة لا تنسحب على المنطقة. نتیجة لذلک اضطر التحالف الثلاثی للخروج من المولد بلا حمص، وأصبح جمال عبد الناصر بطل القومیة العربیة ، وأخیرا أدرکت تل أبیب والصهیونیة العالمیة الراعیة لها على من یجب الترکیز"وبعد ذلک أجبرناهم على الرکوع على رکبهم (رکّعناهم)..."
بدأ بناء ترکیبات دقیقة ومعقدة جدا من أجل تکوین تحالف طویل الأمد بین الولایات المتحدة و"إسرائیل" لیس من أجل مصالح النخبة الأمریکیة فقط، بل وکذلک من أجل مصالح تشکیلات الصهیونیة العالمیة المتنامیة بسرعة کبیرة.
الیمین الأمریکی المتطرف یرون أن العملیة التی أدت فی النهایة إلى تشکیل "نظام احتلال صهیونی مؤقت" فی الولایات المتحدة، قد تعززت بشدة خلال النصف الثانی من الخمسینات ، وبالدرجة الأولى من خلال "احتلال" الحزب الدیمقراطی. ومع ذلک، فی الواقع، لم یجر شیء غیر عادی. جزء من النخبة الأمریکیة المؤیدة للصهیونیة بشکل خلاق للغایة استخدمت بمهارة ظاهرة "اسرائیل" من أجل توحید المجتمعات الیهودیة ورأس المال الیهودی لتعزیز موقفها السیاسی فی الولایات المتحدة.بشکل کبیر
لهذا بالذات تم تطویر سلاح تنظیمی خاص واستخدامه بشکل موجه: تم تأسیس مئات بل آلاف المنظمات الداعمة تعبویا لإسرائیل على جمیع المستویات – سواء المستوى الوطنی العام أوعلى مستویات حکومات الولایات والبلدیات، والتی تم لاحقا توحیدها وترتیبها بتراتبیة معینة، تم تشکیل نظام لوبی خاص، وتصمیم وتنفیذ سیاسات الموارد البشریة على الصعد المالیة والإعلامیة، وتقدیم الدعم المتنوع لصانعی السیاسة الأمیرکیة، المؤیدین "لاسرائیل" دون تحفظ، وجمعت موارد إعلامیة وسیاسیة لتوسیع وتعزیز التحالف الأمریکی "الإسرائیلی"، ونفذت حملات أیدیولوجیة ودعائیة خاصة.
فی الواقع، تحت غطاء الحاجة لدعم کامل "لإسرائیل" تم تنفیذ مشروع استراتیجی ضخم لتشکیل آلیة واسعة الأبعاد للسیطرة على آلة السلطة الامیرکیة من قبل المنظمات الصهیونیة العالمیة. ونتیجة لذلک، فإن فی الولایات المتحدة الیوم ینشط مثلث سیاسی "الولایات المتحدة - اللوبی المؤید لإسرائیل (الذی یعتبر من ناحیة المکون الصهیونی فی المؤسسة الامیرکیة، ومن ناحیة أخرى -- هو عنصر إداری أساسی فی التشکیلات الصهیونیة العالمیة) -- و" اسرائیل".
فی الفترة 1967-2006. جاء عصر الازدهار فی التحالف الأمریکی "الإسرائیلی". فقد غدت الدولة الصهیونیة الحلیف الرئیسی للولایات المتحدة فی الشرق الأوسط، مخلفة وراءها إیران الشاهنشاهیة وترکیا، العضو فی الناتو.
نسقت "إسرائیل" جمیع عملیاتها العسکریة ضد العرب، بشکل وثیق مع البنتاغون. وصلت الأمور إلى درجة أن واشنطن زودت "إسرائیل" بالسلاح النووی، الذی، مع ذلک، لا یزال تحت سیطرة الولایات المتحدة. ازداد نفوذ الولایات المتحدة السیاسی فی المنطقة بشکل کبیر، وأصبح المهیمن فی التسعینات، بعد انهیار الاتحاد السوفیاتی. ولکن فی نفس الوقت تعزز نفوذ التشکیلات الصهیونیة العالمیة فوق الوطنیة، فی السیاسة الامیرکیة الداخلیة والخارجیة.
بلغ کل من هذین المسارین المترابطین قمة الذروة، فی الفترة الرئاسیة الأولى لجورج بوش الأصغر. فقد تشکل داخل الولایات المتحدة تحالف اجتماعی وسیاسی واسع النطاق من الیهود الصهاینة والصهاینة البروتستانت، والذی تجسد فی طروحات "المحافظین الجدد"..التی یمکن التعبیر عن جوهرها بعبارة واحدة : "ما هو جید بالنسبة للولایات المتحدة هو جید " لإسرائیل " کذلک، والعکس بالعکس." جزء من النخبة الأمیرکیة نظم عملیات 11 سبتمبر الاستفزازیة، والتی أصبحت ذریعة لاعلان الحرب على العالم الإسلامی - المنافس الرئیسی ل "اسرائیل" من وجهة نظر المنظمات الصهیونیة العالمیة.
دیالکتیک (جدلیة)
لکن التاریخ، کما نعلم، أشبه بسیدة متقلبة المزاج، میالة لتصرفات غیر قابلة للتنبؤ من قبل الناس.
من ناحیة أصبح "إسرائیل" فعلا أداة هامة للسیاسة الخارجیة الأمیرکیة فی الشرق الأوسط. ولکن من ناحیة أخرى، تحولت الدولة الصهیونیة بالذات إلى عامل أساسی مؤجج للرادیکالیة والتطرف فی الشرق العربی.
من جهة أصبحت "إسرائیل" قاعدة انطلاق قویة للحضارة الغربیة فی المنطقة، واجهة عرض للدیمقراطیة الغربیة والعلمانیة الغربیة. ولکن من جهة أخرى ، فإن وجود "إسرائیل" بالذات أصبح واحدا من الإرهاصات الأساسیة لنهضة اسلامیة قویة فی العالم. وعلاوة على ذلک، فلو لم تکن "إسرائیل" لما جرى ذلک التدهور السریع فی السنوات الأخیرة للأیدیولوجیات اللیبرالیة والعلمانیة وأحزابها فی العالم العربی.
من ناحیة ، ثنائی "إسرائیل" والولایات المتحدة الأمریکیة " أصبح لمئات الملایین من المسلمین فی جمیع أنحاء العالم رمزا للظلم المطلق، شکلا لاأخلاقیا للعدوان الاستعماری، للعدو فاقد الرحمة، الذی لا یفهم سوى لغة القوة.." اسرائیل " احتلت الأراضی التی کانت موطنا للفلسطینیین خلال آلاف السنین، تحت مبررات غبیة للغایة، أن الیهود عاشوا یوما ما على هذه الأرض وطردوا منها، وفقط لهذا السبب فإنهم یملکون الحق التاریخی للسیطرة على هذه الأرض، ولکن الیوم حتى أشهر العلماء الإسرائیلیین یثبتون أن الیهود فی الحقیقة لم یطردوا یوما من قبل الرومان من یهودا ذلک العهد.
تخیل للحظة أنک فلسطینی. تعیش فی شقتک التی تملکها بشکل قانونی ، والتی خلفها لک والداک..وفجأة ودون مقدمات یقتحم عدد من الرجال المسلحین شقتک، وبکل وقاحة یطالبونک بالرحیل فورا..وردا على سؤالک بلهفة المنصعق "لماذا؟" تتلقى نقریبا الجواب التالی: "قبل ألفی سنة کان هذا المکان أحد محطات قبیلتنا الیهودیة، ولهذا السبب بالذات فإن لنا مطلق الحق القانونی فی شقتک، وإن لم توافق أیها الوغد على وجهة نظرنا، فإننا سنقضی علیک وجمیع أفراد عائلتک، فانصرف خارجا! ". کان هذا هو مبرر الصهاینة "التاریخی" من أجل حرمان أبناء الشعب الفلسطینی من أرضهم ومنازلهم وأملاکهم، وآثارهم التاریخیة ، ومقابرهم التی تحوی عظام أسلافهم.
غیر أن الحسم بطبیعة الحال، کان لطموحات ستالین وترومان السیاسیة.
ولکن ، من ناحیة أخرى ، فإن النضال لأکثر من سبعة عقود ضد "اسرائیل" ساهم فی نمو وتشکل الوعی الوطنی والاجتماعی والسیاسی للشعب الفلسطینی. فالفلسطینیون الیوم – هم أحد أکثر شعوب العالم تقدما وشجاعة. فعلى سبیل المثال ، فحسب عدد الطلاب لکل ألف نسمة من السکان فإن الفلسطینیین یتفوقون بالفعل حتى على روسیا. وحسب عدد الشهداء الأبطال ، الذین یذکرهم الفلسطینیون دوما بکل اعتزاز وفخر، فأعتقد أنلا نظیر لهم على وجه البسیطة. وبالمناسبة فإن "إسرائیل" تفتقر لهذا التقدیس للأبطال، کما فی روسیا الحدیثة "الدیمقراطیة" کذلک.
لو لم یوجد العامل الصهیونی، لربما کان قطاع غزة قد ضم الى مصر ولتحول سکانه من فلسطینیین إلى مصریین ولأصبح سکان الضفة الغربیة أردنیین.
ضرورة النضال ضد "اسرائیل" أصبحت إحدى أقوى الدوافع للثورة الایرانیة فی الأعوام 1978-1979. وکما هو معلوم، فإن الشاه کان صدیقا حمیما للدولة للصهیونیة. الوجود الصهیونی فی الشرق الأوسط أصبح أحد الأسباب المهمة لوصول القوى الإسلامیة الأصولیة المعتدلة الى السلطة فی کل من إیران وترکیا، ، ونتیجة لذلک بدأ یتغیر جذریا میزان القوى فی سائر منطقة الشرق الأوسط. بدأت أخیرا ولیس ثانویا الدور الذی لعبته المشاعر المعادیة لإسرائیل فی الثورة العربیة الحالیة. غیر أن هذا العامل سیتعزز مع الوقت. سیاسة الدولةالصهیونیة ستؤدی بشکل طبیعی إلى تزاید موجات العداء السامیة عالمیا، والتی لاحظتها، بالمناسبة، حتى المراکز الصهیونیة نفسها، بما فی ذلک المؤتمر الیهودی الروسی
العسکر أم الصهاینة... من یفوز؟
مباشرة بعد سنة ونصف من الغزو الامریکی للعراق فی عام 2003 ، أصبحت "إسرائیل" سببا لمواجهة جدیدة أوسع داخل المؤسسة السیاسیة العلیا فی الولایات المتحدة. وطفى على السطح الصراع بین أکثر فریقین قدرة داخل النخبة الأمیرکیة – فریق العسکر والفریق الموالی "لإسرائیل".
حتى بدایات العام 2005 خلصت وزارة الدفاع الامریکیة إلى ان هزیمة "المتمردین" وفرض رقابة فعالة على العراق یکاد یکون ضربا من المستحیل. غزو العراق أصبح ، فی جوهره ، شرکا جیوسیاسیا للولایات المتحدة، لأن العراق المحتل اصبح نقطة زعزعة استقرار لکامل منطقة الشرق الأوسط الکبیر، التی تکتسی أهمیة خاصة بالنسبة لمصالح الولایات المتحدة الحیویة. غزو العراق أدى موضوعیا إلى زیادة اعتماد الولایات المتحدة على ایران التی تمتلک أدوات للتأثیر على الوضع العراقی الداخلی أکثر من واشنطن بکثیر.
بطبیعة الحال، اندلعت داخل النخبة الأمیرکیة، مناقشات حامیة حول "من هو المسؤول عن إیقاع الأمیرکیین کالخراف فی هذه المغامرة الخاسرة؟" عقدت عشرات الجلسات للعصف الذهنی وورش عمل خاصة، ودبجت المئات من المقالات ونشرت العدید من الکتب.
ذلک الجزء من المؤسسة السیاسیة الأمیرکیة، الذی هاجم سیاسة المحافظین الجدد وإدارة بوش الأصغر متهما إیاهم بالطیش والحماقة لإهدارهم الرصید الاستراتیجی للولایات المتحدة بوصفها القوة العظمى الوحیدة فی معارک أفغانستان والعراق، فی الختام، جاءت الخلاصة أن الدور الرئیسی فی إشعال الحرب وتوجیهها ضد صدام حسین قامت به المؤسسة "الإسرائیلیة" واللوبی الأمریکی المؤید "لإسرائیل".. وتبع ذلک بالتالی استنتاجات تنظیمیة.
فی دیسمبر 2006م، عین وزیر حرب جدید فی الولایات المتحدة هو روبرت غیتس، أحد کبار ممثلی النخبة الأمیرکیة ورئیس اللوبی العسکری الأمریکی، الذی کان من المقرر أن یجری تعدیلات کبیرة فی السیاسة الخارجیة. عارض تعیینه فی هذا المنصب آنذاک نائب الرئیس دیک تشینی – القائد الفعلی لفکر المحافظین الجدد.
فی العام 2008 ، فی مدینة فیلادلفیا فی شهر یونیو عقدت جلسة سریة لکبار ممثلی النخبة الأمیرکیة مع باراک أوباما وهیلاری کلینتون. وتحت إلحاح اللوبی العسکری توصلوا إلى اتفاق تسویة على أن یکون الرئیس القادم باراک أوباما، ولکن هیلاری کلینتون، التی راهنت علیها الصهیونیة العالمیة ینبغی أن تتلقى تعویضا کوزیرة للخارجیة.
بعد الانتخابات الرئاسیة الصراع فی المستویات العلیا للنخبة الامیرکیة لم یتوقف. فلم یمکن اللوبی الإسرائیلی، أوباما ومن یقف خلفه من النخبة العسکریة الأمریکیة من تعیین مرشحیهم لبعض المناصب الحکومیة، متهمما إیاهم بحمل وجهات النظر معادیة "لإسرائیل".
تصاعدت المواجهة داخل النخب فی الولایات المتحدة تبعا لتطور البرنامج النووی الایرانی. فقد اشتبه العسکر الامیرکی ان "اسرائیل"، جنبا إلى جنب مع رعاتها من المنظمات الصهیونیة العالمیة ، تسعى لاثارة حرب مباشرة بین الولایات المتحدة إیران. أی عسکری ذی عقل سوی یدرک أن مثل هذه الحرب ستصبح على الفور خارج السیطرة، وتشمل فی أتونها المنطقة بأسرها، ومن ثم ستکتسب طابعا عالمیا. وبالمناسبة تسببت هذه المشکلة بزیادة حادة فی الخلافات حتى بین حکومة نتنیاهو والعسکر "الإسرائیلیین" واسعی النفوذ.
سؤال مهم: لماذا تحتاج النخبة "الإسرائیلیة" المهیمنة الآن، والأهم من ذلک الحرکة الصهیونیة العالمیة إلى هذه الحرب بین ایران والولایات المتحدة، والتی یمکن أن تؤدی إلى عواقب وخیمة للغایة، وخصوصا بالنسبة "للشعب الیهودی" نفسه؟
تصاعدت الأمور إلى حد أنه حتى زبیغنیو بریجنسکی الشهیر اضطر إلى أن یعلن أنه إذا حلقت الطائرات "إسرائیلیة" لقصف الأراضی الإیرانیة، فإن الأمیرکیین سیضطرون لاعتراضها فوق العراق کی تجبر "الإسرائیلیین" على العودة الى مطاراتهم.
للمرة الاولى فی تاریخها، نشرت الاستخبارات الامیرکیة تنبؤاتها التقدیریة، التی شککت فیها للغایة بشأن فرص "إسرائیل" فی البقاء بعد العام 2025.
أعقب ذلک بیان علنی صادر عن الجنرال دیفید باتریوس، الذی کان قائد القیادة المرکزیة الأمریکیة، ومن ثم القائد الاعلى للقوات الامیرکیة فی افغانستان. هذا التصریح أصبح مؤشراعلى تزاید التوتر فی العلاقات بین النخبة العسکریة الامریکیة واللوبی الموالی "لإسرائیل".
خلف الصیغة الدبلوماسیة فی الواقع اختبأت رسالة قاسیة للقیادة "الإسرائیلیة" ملخصها التالی. سیاسة "اسرائیل" تؤدی إلى افتعال مشاکل جدیدة لأمریکا فی العالم الإسلامی. والولایات المتحدة أن تدفع ثمن اللاعقلانیة المتزایدة للقیادة "الاسرائیلیة" من دماء جنودها، وتتکبد خسائر مالیة ضخمة، وإضعاف موقفها فی الشرق الأوسط. وهذا یحدث فی الوقت الذی تتراجع القدرات السیاسیة والاقتصادیة للولایات المتحدة فی جمیع أنحاء العالم، فیما تتحول الصین بالنسبة لواشنطن إلى تحد استراتیجی رئیسی.
وخلافا لمواقف أمریکا وأوروبا ، فإن غالبیة النخبة "الاسرائیلیة" الحالیة لا ترید ای اتفاق حقیقی مع الفلسطینیین، ولن توافق تحت أی ظرف من الظروف على اقامة دولة فلسطینیة مستقلة. "الدولة العبریة الحالیة" قامت على أساس أنها لایمکن أن تعیش إلا فی حالة "لا حرب ولا سلام، ولن تتخلى عن الأراضی المحتلة".
خلاصة القول هو أن "إسرائیل" لم تتمکن (ولم ترغب) بالدخول فی النظام الإقلیمی للشرق الأوسط، بینما یظهر التاریخ أن الدول، التی لم تتمکن من الاندماج فی المنطقة (على سبیل المثال الإمارات الصلیبیة) حتما ستختفی عن الخریطة.
وأدت المواجهة بین العسکر الأمریکی واللوبی المناصر "لإسرائیل" إلى تفاقم الخلافات داخل الحرکة الصهیونیة العالمیة، ویمکن القول أن تیارین تشکلا داخل الآلیة الصهیونیة
الأول - وهو ما یسمى " للصهیونیة القومیة" أنصار الدعم التقلیدی غیر المشروط لاسرائیل "کدولة یهودیة قومیة" مهما کان الثمن. "الصهیونیة القومیة" لا تزال هی المسیطرة داخل الحرکة الصهیونیة العالمیة، ولکن مواقفهم فی تراجع تدریجی. وأسباب ذلک کثیرة، ولکن یمکن أن نذکر عاملین اثنین فقط متعلقین مباشرة "بإسرائیل". بالدرجة الأولى، جاذبیة صورة "اسرائیل" کوطن قومی "لجمیع الیهود فی العالم" قد تشوهت بشدة. وحقیقة أن المجتمع الإسرائیلی والنخبة الإسرائیلیة تتحلل، لم تعد سرا. مثال واحد فقط. یتعلق بوزیر الخارجیة الاسرائیلی الحالی افیغدور لیبرمان الذی رفعت ضده بالفعل ست أو سبع قضایا جنائیة متعلقة بالفساد وغسیل الأموال والنصب والاحتیال المالی.. الخ. والذی بمجرد ان یترک منصبه الوزاری ، فعلى الارجح سیلقى وراء القضبان. هذا بالنسبة للسؤال عن منظر النخبة الإسرائیلیة الحالیة!
عملیة التدهور الأخلاقی والاجتماعی والسیاسی للمجتمع الاسرائیلی ککل، تعززت بشکل خاص فی السنوات العشرین الماضیة. من المفهوم لماذا عدد من الیهود المغادرین "لأرض المیعاد" أکبر من عدد القادمین إلیها. بالإضافة إلى ذلک ، فإن إسرائیل لم تصبح دولة الیهود بل دولة الشعب الاسرائیلی (ما هذا -- عدد ضئیل من الناس یعرفون).
والاتجاه الثانی فی الحرکة الصهیونیة العالمیة -- هو ما یسمى "الصهیونیة الإمبراطوریة" الذین یرون مستقبل الصهیونیة، لیس فی "اسرائیل" ولکن فی تعزیز التحالف الاستراتیجی مع أحد مراکز القوة العالمیة. ولذا فإنهم یعتبرون أنه لایجب التضحیة بمستقبل المجتمعات الیهویدیة ورأس المال الیهودی فی الولایات المتحدة من أجل "إسرائیل".. وحسب رأیهم فإنه لا الصین ولا أوروبا لأسباب مختلفة ، یمکن أن تکون ذلک الحلیف الاستراتیجی طویل الأجل للصهیونیة العالمیة. ویتبقى فقط خیاران : الولایات المتحدة وروسیا. وبالمناسبة، فلیس من قبیل الصدفة أن نتنیاهو، لیبرمان، وقادة المنظمات الصهیونیة الروسیة یتحدثون بشکل متزاید عن أهمیة تحالف استراتیجی على المدى الطویل بین "إسرائیل" وروسیا.
***
تاریخ اسرائیل، فی الشکل کما هو موجود حالیا، موضوعیا فی طریقه للأفول. والمسألة لیست فی أن الجیوش العربیة سیطرت بشکل مفاجأ على الأراضی الإسرائیلیة أو أن بعض المتطرفین الفلسطینیین تمکنوا فجأة من شل الحیاة الاقتصادیة والسیاسیة تماما فی الدولة الیهودیة. فهذا لن یحدث.
"إسرائیل" -- دولة مصطنعة اختلقتها قوى خارجیة من أجل حل بعض المشاکل. هذه المهام لم تعد "إسرائیل" قادرة على القیام بها، لذا، تنتفی الحاجة إلیها، عدا عن أنها ، بدأت موضوعیا تعیق، بما فی ذلک الشعب الیهودی نفسه.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS