هموم عمالیة فلسطینیة!
هموم عمالیة فلسطینیة!
نقولا ناصر
فی تعلیقه على أنباء حول عقد لقاء قیادی بین الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطین ونظیره فی دولة الاحتلال الإسرائیلی "الهستدروت" لمدة أربعة أیام فی برلین بألمانیا أوائل الشهر الجاری، لم ینف الاتحاد الفلسطینی الخبر فی بیان له، بل أکد أنه "على علم باقتراحات" الاتحاد الدولی لنقابات العمال وأن "قیادة" الاتحاد "تدرسها بکل جدیة وبروح مسؤولة"، بالرغم من ردود الفعل النقابیة الوطنیة الرافضة التی تجاوزت الأطر النقابیة لتتوجها الهیئة العامة "للجنة الوطنیة لمقاطعة إسرائیل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات علیها" بقرار تجمید عضویة الاتحاد الذی یرأسه السید شاهر سعد فی اللجنة "حتى یتراجع عن جمیع المشاریع التطبیعیة التی تربطه بالهستدروت ویصدر موقفا واضحا "باللغتین العربیة والانکلیزیة" یعید التأکید على تبنیه للمقاطعة ویطالب النقابات العالمیة بتأیید نداء المقاطعة" الصادر فی التاسع من الشهر السابع عام 2005.
والجدل الوطنی الذی أثاره وینبغی أن یثیره "تطبیع" أهم المنظمات الشعبیة الفلسطینیة المفترض أنه یمثل قرابة "300" ألف نقابی لا یقتصر وینبغی ألا یقتصر على التطبیع، بل إنه فعلا یسلط الأضواء على وضع الاتحاد الداخلی، ودوره النقابی والسیاسی، وطنیا ودولیا.
فالتطبیع مع دولة الاحتلال کان وما زال جزءا لا یتجزأ من دور الاتحاد منذ توقیع اتفاق أوسلو الأول عام 1993، وهو تطبیع استحق إشادة من منظمة العمل الدولیة التابعة للأمم المتحدة فی آخر تقریرین سنویین لها، فتقریر المنظمة للعام الحالی أشاد بـ"التعاون" بین الاتحاد وبین الهستدروت باعتباره "تعاونا فریدا من نوعه یوفر أساسا لشراکة تجدد تنشیطها" بینما أشاد تقریر العام الماضی ب"الخطوات التاریخیة" المتخذة بین الجانبین لتعزیز "الأخوة والتعایش بین الشعبین".
وکان اتفاق الجانبین عام 1995 على أن یوفر الهستدروت "التمثیل القانونی" للعمال الفلسطینیین فی دولة الاحتلال مقابل تقاسم الاتحادین لعائدات الرسوم النقابیة مناصفة قد تجمد بعد انفجار انتفاضة الأقصى عام ألفین ثم أعید العمل به مؤخرا بعد أن وقع الاتحادان اتفاقیة جدیدة فی آب/ أغسطس عام 2008 تؤسس للعلاقات الثنائیة فی المستقبل على أساس التفاوض والحوار والمبادرات المشترکة من أجل تعزیز "الأخوة والتعایش"، ناهیک عن رعایة الاتحاد الفلسطینی لاتفاقیات "تعاون" موقعة بین النقابات الأعضاء فی الاتحادین مثل تلک التی وقعتها نقابتا عمال النقل فی حزیران/ یونیو عام 2007.
وفی هذا السیاق، کان قرار محکمة العدل العلیا فی دولة الاحتلال فی تشرین الأول / أکتوبر عام 2007 بالموافقة على تطبیق قانون العمل الإسرائیلی فی الأراضی الفلسطینیة المحتلة عام 1967 بطلب من الهستدروت "انجازا" لـ"التعاون" بین الاتحادین.
لکن إذا کان یحق لقادة الهستدروت التباهی به فإن قادة الاتحاد الفلسطینی الذین سارعوا إلى الترحیب بالقرار الذی أیده تسعة قضاة فی محکمة دولة الاحتلال باعتباره حقق مکسبا نقابیا للعمال الفلسطینیین العاملین فی بناء المستعمرات الاستیطانیة فی الضفة الغربیة لنهر الأردن کان یجب أن یتریثوا لیدرکوا الخطورة السیاسیة للقرار الذی منح هؤلاء العمال "حافزا" جدیدا للمساهمة تحت ضغط الحاجة الاقتصادیة فی مشروع الاستیطان الصهیونی.
وهذا القرار بقدر ما یکشف قصر النظر السیاسی لـ"قیادة" الاتحاد الفلسطینی التی أیدت مبادرة الهستدروت بقدر ما ینطوی على مفارقة صارخة بین هذا التأیید وبین التوجه الرسمی المعلن لحکومة سلطة الحکم الذاتی الفلسطینی فی الضفة العربیة نحو مقاطعة المستوطنات ومنتجاتها والعمل الفلسطینی فیها وبین التوجه الرسمی المعلن للقیادة المفاوضة لمنظمة التحریر الفلسطینیة التی حولت قضیة الاستیطان إلى مفتاح یفتح باب التفاوض أو یغلقه، وبقدر ما یکشف أیضا عن الفوضى القیادیة التی تصنع القرار فی منظمة التحریر وفی حرکة فتح المفترض أنها تقودها نظرا لکون هذه الحکومة وکذلک الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطین بقیادته الحالیة محسوبتان على المنظمة وعلى فتح.
والأمر الغریب المستهجن أن وزیر العمل فی حکومة سلطة الحکم الذاتی برام الله، د. احمد مجدلانی، الذی رافقه الأسبوع الماضی شاهر سعد ونائبه السید راسم البیاری إلى المغرب للمشارکة فی أعمال المؤتمر الإقلیمی حول الحوار الاجتماعی، وکذلک مسؤول ملف المنظمات الشعبیة فی اللجنة التنفیذیة لمنظمة التحریر، السید محمود اسماعیل، یبدوان غیر معنیین، إذ لم یسمع لهما أی صوت فی الجدل الوطنی الدائر حول الاتحاد العام ودوره ونشاطاته.
وإذا کانت مثل هذه الجهات المسؤولة عن المنظمات الشعبیة منشغلة بالشأن "الوطنی العام" عن الاهتمام بالأوضاع الداخلیة لهذه المنظمات وعن مراقبة مدى الخدمة التی تقدمها لأعضائها، فإن وضعا شاذا یعزز فیه الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطین التطبیع مع دولة الاحتلال بینما یتخذ مؤتمر اتحاد النقابات البریطانی فی أیلول/ سبتمبر الماضی قرارا بمقاطعة جزئیة لها تضامنا مع الشعب الفلسطینی، على سبیل المثال، أو یجد الاتحاد الفلسطینی نفسه، کمثال آخر، عاجزا عن دعم مشروع قرار قدمه مؤتمر نقابات عمال جنوب إفریقیا إلى المؤتمر الثانی للاتحاد الدولی للنقابات بکندا فی حزیران / یونیو الماضی یطالب بمقاطعة دولة الاحتلال وبإنهاء احتلالها وبدعم تقریر القاضی غولدستون حول العدوان الشامل على قطاع غزة قبل عامین وبمحاکمة مجرمی الحرب الذین شارکوا فیه، لیبدو الاتحاد الافریقی فلسطینیا أکثر من الاتحاد الفلسطینی...
إن وضعا شاذا کهذا یحول وضع الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطین إلى شأن وطنی عام، وبخاصة بعد أن تبجح رئیس الهستدروت عوفر عینی بـ"نجاحاته" فی مؤتمر کندا، الذی أعاد انتخابه نائبا للرئیس وعضوا فی لجنتی التوجیه والتنفیذیة، لأنه نجح کما قال فی إجهاض المشروع جنوب إفریقی بفضل تعاون الاتحاد الفلسطینی "بصفة خاصة" وغیره "بصفة عامة" لأن المشروع لو تبناه المؤتمر لکانت له "مضاعفات خطیرة على الاقتصاد والمجتمع الإسرائیلی" ولأن "لا أحد یرید أن یفکر ما کان سیحدث لو أن عمال الموانئ فقط، مثلا، رفضوا تحمیل السلع من إسرائیل أو تفریغها"!
وهذا الوضع الشاذ الذی وضعت "قیادة" الاتحاد اتحادها فیه یثیر مسألة شرعیة تمثیلها للاتحاد، لیس لأن الهستدروت فی بیان له تعلیقا على مجزرة أسطول الحریة لغزة قال إنه ونظیره الفلسطینی "یتعاونان الآن لیس على مستوى اتحادی فقط، بل وعلى مستوى النقابات أیضا، ویجتمع ممثلو الجانبین على أساس منتظم"، ولیس لأن أحد القواسم الرئیسیة المشترکة لهذا التعاون اعتبار قطاع غزة "رهینة لنظام حماس الإرهابی" کما جاء فی البیان الذی حمل المسؤولیة عن المجزرة وضحایاها الأتراک ل"منظمی الأسطول وأسالیبهم فی العمل"، ولیس لأن وضع الاتحاد الداخلی قاد إلى انشقاق "اتحاد النقابات المستقلة – فلسطین" عنه، ولیس لأن رجل الأعمال ووزیر الاقتصاد السابق فی حکومة رام الله، باسم خوری، سبق له أن تحدث عن فشل الاتحاد فی تمثیل عمال فلسطین، بل لأن الاتحاد، مثله مثل کل المؤسسات الوطنیة الفلسطینیة التی تم تعطیلها فانتهت ولایاتها القانونیة کشرط مسبق لتمریر اتفاقیات أوسلو والاتفاقیات الموقعة مع دولة الاحتلال، لم یجر ای انتخابات منذ عام 1981 بحیث تحول إلى اقطاعیة خاصة لقیاته المستمرة دون تغییر منذ تلک السنة.
غیر ان شرعیة تمثیل الاتحاد لعمال فلسطین تصبح على المحک فعلا عندما یلاحظ أی مراقب محاید الانفصال بین الاتحاد وبین کل قضیة هامة لقاعدته العمالیة، فقیادة الاتحاد المنشغلة بعدم تفویت فرصة حضور أی مناسبة عربیة أو دولیة تدعى إلیها بصفتها ممثلة لعمال فلسطین، سواء کانت نقابیة وعمالیة أم غیر ذلک، لم تعد تجد وقتا للدفاع عن هؤلاء العمال التی تنطق باسمهم فی مواجهة الآثار الاقتصادیة للاحتلال على حیاتهم وحیاة أسرهم، ومضاعفات الأزمة الاقتصادیة العالمیة على معیشتهم، ناهیک عن انفلات السوق الحرة وتغول القطاع الخاص دون رقیب أو حسیب فی نهش ما یتوفر لهم من دخل متدن بالأسعار التی لا تعرف إلا التحلیق عالیا بتسارع لا مثیل له، وإصرار حکومة سلطة الحکم الذاتی فی رام الله على تمویل حصة متنامیة من میزانیتها من جیوبهم بکل الخبرة التی راکمها رئیسها، د. سلام فیاض، فی مدرسة البنک الدولی لتعلیم کیفیة امتصاص الحیاة من الشعوب حتى الرمق الأخیر حد أن یقرر مؤخرا اقتطاع نسبة مئویة عالیة من مکافأة نهایة الخدمة للعاملین بموجب قانون العمل فی القطاع الخاص مما قاد إلى إضراب محدود للعاملین فی بعض جامعات الضفة الغربیة وهو إضراب کان یجب أن یأخذ مداه کاملا لیمتد إلى خارج الجامعات، لکنه لم یأخذ مداه لأن النقابات تقودها قیادات مثل "قیادة" الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطین.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS