إسرائیل فی قبضة الحاخامات
إسرائیل فی قبضة الحاخامات
عبد اللطیف الحناشی
أثارت الفتوى الدینیة التی أصدرها الحاخامات الیهود فی صفد، مؤخرا، والتی تضمنت تحریم بیع أو تأجیر مساکن أو شقق فی المدینة للعرب، من جدید، إشکالیة دور رجال الدین فی المجتمع وحدود سلطتهم فی إسرائیل.
وما یلفت النظر فی ذلک أن تلک الفتوى قد وجدت مساندة شعبیة واسعة، إذ أظهر استطلاع للرأی العام أجراه موقع "یدیعوت أحرونوت" أن 55 فی المائة من أوساط الیهود فی إسرائیل یؤیدون الفتوى، تلک الفتوى ذات المضمون العنصری خاصة بعد أن وقّع علیها نحو 300 من الحاخامات أغلبهم ممن یوصفون بـ"المتدینین القومیین المستنیرین" ومن خریجی المؤسسة العسکریة، وبعضهم من زعماء الصهیونیة الدینیة وقسم کبیر منهم من موظفی الدولة الذین یتقاضون رواتبهم من الخزینة العامة الأمر الذی یشیر إلى أن ظاهرة التطرف قد أصبحت مکونا أساسیا من مکونات المجتمع الإسرائیلی الیهودی تجاه الأغیار "من غیر الیهود".
وتحتل فتاوى الحاخامات، حسب الدکتور منصور عبد الوهاب، مکانة هامة فی المجتمع الیهودی، وتمثل مرجعا وعقیدة لأفراد الجماعات الیهودیة، وتشکل سلوکهم تجاه القضایا الکبرى. فالحاخامات المتطرفون یسیطرون على تراتیب الزواج وعلى تغییر الانتماء الدینی والدفن، مما یعنی أنهم یتحکمون بتفاصیل الحیاة الخاصة للمجتمع الیهودی سواء کانت قضایا تشریعیة، تتعلق بالحیاة الیومیة للیهودی أو الإسرائیلی، أو تلک التی تتعلق بأمور العبادات أو علاقة الیهود بکل من حولهم من أفراد، سواء کانوا یهودًا من داخل مجتمعهم أو عربًا ومسلمین أو جنسیات غربیة مختلفة. کما یفرض هؤلاء آراءهم عن طریق فرض الرقابة على الأفلام والإعلانات، وتنظیم حملات مقاطعة البضائع، ومضایقة الیهود العلمانیین الذین ینتهکون طقوس یوم السبت.
وترتبط هذه الفتوى، فی الواقع، ارتباطا جدلیا بالقوانین والتشریعات الأساسیة التی أقرها الکنیست الذی یشکل فیه الیمین القومی والدینی المتطرف أغلبیة مریحة، من ذلک منع العرب من إحیاء ذکرى النکبة و"عبرنة" اللغة وفرض التدریس الإلزامی للنشید الإسرائیلی فی المدارس الفلسطینیة وإطلاق أسماء عبریة، بدل العربیة، على المدن والبلدات الفلسطینیة، وأداء قسم الولاء لإسرائیل بوصفها "دولة یهودیة".
کما تمثل تلک الفتوى امتدادا لقرار حکومی أعطى ما یسمى بـ"لجنة القبول" التابعة للقرى الجماهیریة حق القرار بشأن قبول أو رفض من یطلب السکن فی هذه التجمعات، ما یعنی أن الحکومة الإسرائیلیة هی صاحبة القرار النهائی فی الأمر.. وتجسّد الفتوى أیضا العظة الدینیة التی تفوّه بها عوفادیا یوسیف "الزعیم الروحی لحزب شاس للیهود المتدینین الشرقیین" عند افتتاح کنیس "الخراب" الذی صرح "فی القدس، لا یسکن سوى شعب إسرائیل، وکل الأغیار جمیعا سیأتی المسیح ویحرقهم کلهم، هکذا دفعة واحدة ویلعن أباهم". وهو القائل أیضا إن "الأغیار ولدوا لخدمة الیهود تماما مثل الحمیر". ولکن کیف تمکنت هذه الأطراف الدینیة المتطرّفة من التحول إلى قوة ذات نفوذ اجتماعی وسیاسی واسع تتحکّم فی مستقبل إسرائیل بل المنطقة ککل؟
یشیر المرحوم عبد الوهاب المسیری إلى أن الحرکة الصهیونیة کانت حرکة غیر متدینة، منذ بدایتها، بل أنها کانت فی الأصل معادیة للدین، غیر أنه ومع تراجع الصهیونیة الدینیة تصاعدت قوة الاتجاه الدینی غیر الصهیونی الذی نجح فی اجتذاب أعداد کبیرة من المتدینین، وهو أمر طبیعی فی دولة تستند إلى "الیهودیة" فی تشریعاتها وهویتها بل فی تبریر وجودها...
وبالإضافة إلى هذا البعد الأیدیولوجی، لعب العامل السیاسی دورا محددا فی ذلک. فتاریخیا کانت الأحزاب الدینیة الإسرائیلیة تشارک عادة فی أی ائتلاف حکومی، وذلک منذ الکنیست الأول سنة 1949، وهو ما یبدو، حسب أحد الباحثین، نوعا من التفاهم والتوافق بین الحزبین الأکبر فی إسرائیل والأحزاب الدینیة بصفة عامة على النحو الذی یضمن مشارکة ممثلین عن هذه الأحزاب فی أی حکومة إسرائیلیة سواء شکّلها حزب العمل "الیساری" أو حزب اللیکود الیمینی. وعادة ما کانت تناط بتلک الأحزاب الصغیرة، آنذاک، مهمة إدارة تفاصیل الشؤون الدینیة، ثم وفی مرحلة لاحقة، ونتیجة لاحتدام الصراع العربی الصهیونی بأشکاله المختلفة أخذ مدار اهتمام تلک القوى یتوسع وذلک بالتوازی مع تزاید نفوذها السیاسی خاصة بعد أن فتح لها بنیامین نتنیاهو المجال فی عهد حکومته الأولى 1996 والثانیة 1999 وخاصة فی ظل حکومته الحالیة حیث لم یقتصر اهتمام تلک التیارات بالمجال الدینی بل بتولی البعض منهم مناصب بارزة فی الکنیست وفی الحکومة...
وتهدف الإستراتیجیة السیاسیة لتلک القوى الدینیة المتطرفة، على ما یبدو، إلى الاستحواذ على المجتمع والدولة وذلک من خلال السیطرة على مرفقین أساسیین فی الدولة والمجتمع وهما:
قطاع التعلیم: فمنذ حکومة بنیامین نتنیاهو الأولى تم إسناد وزارة التعلیم بکل فروعه إلى احد الأحزاب الدینیة المتطرفة. ویظهر أن اختیار قطاع التعلیم من قبل هذه القوى الدینیة کان محسوبا بدقة نظرا لأهمیته فی تشکیل عقلیات وأفکار المجتمع. ویرى جون لافین، أحد أهم المحللین السیاسیین فی کتابه "العقلیة الإسرائیلیة"، أن أهم نصر حققه المتطرفون الدینیون الیهود هو افتتاح أکثر من مدرسة دینیة متطرفة، وهی المدارس التی یصفها بالـ"قنابل الموقوتة" التی من شأنها أن تنفجر فی أیة لحظة، باعتبار أن المسؤولین عن هذه المدارس یُبیحون للطلاب استخدام الأسلحة ضد "الأغیار والعلمانیین".
ومن أشهر تلک المدارس، التی یذکرها هذا المحلل مدرسة "میشیفان هشارون" الواقعة فی القدس، والتی تضم أکثر من ألف طالب، وجمیعهم یتبعون تقالید دینیة صارمة. کما تمکن "الحریدیم" من السیطرة على شبکات تعلیمیة کبیرة فی حین أن الحزب القومی الدینی، وذراعه الاستیطانیة غوش إیمونیم، أسس جامعة بار إیلان التی تدرّس إضافة إلى التعلیم الدینی التخصصات الأکادیمیة الأخرى... ومؤخرا تمکنت القوى الدینیة من الضغط على الحکومة للمصادقة على قرار تُسند بموجبه أموال جدیدة من میزانیة الدولة للعامین القادمین للمعاهد الدینیة الخاصة والمتطرفة جداً.. ومنح الدارسین فی هذه المعاهد امتیازات مالیة.
وتحت ضغط العملیة الانتخابیة خصصت حکومات اللیکود المتعاقبة، مبالغ طائلة للمتدینین الذین قرروا تعزیز تواجدهم السیاسی فی الدولة من أجل تحقیق مطالبهم الخاصة، وبالذات فی مجال التعلیم. وکانت وزارة التعلیم من نصیب الحزب القومی الدینی، مما أدى إلى اتباع الوزارة سیاسة تقوم على إعطاء الأولویة للمدارس الدینیة على حساب التعلیم العام، الأمر الذی ساعد على ارتفاع عدد تلامیذ هذه المدارس وإضعاف القیم العلمانیة لدى الأجیال الشابة.
وفی مرحلة لاحقة أخذت هذه القوى تعاکس قوانین الدولة والکنیست والحکومة والمحاکم وسلطات فرض القانون، وقد وصل الأمر بالحاخام عوفادیا یوسیف إلى حد اعتبار أن "..کل من یتقاضى أمام الأجهزة القضائیة ویترک القضاء الیهودی إنما یتحدى توراة موسى ویغدو مجرما، محظورا ضمه إلى عداد المصلین.".
القطاع الثانی: هو مؤسسة الجیش، وفی هذا المجال لا یُخفی أکثر من حاخام من المنتمین إلى التیارات الدینیة المتطرفة توجه تلک القوى لإحکام السیطرة على المؤسسة العسکریة باعتبار أن ذلک یشکل مدخلا هاما یضمن لها التأثیر على دائرة صنع القرار فی الدولة. ویشیر أحد البحوث إلى أن نسبة المتدینین الیهود المتطرفین فی الهیئات القیادیة فی الجیش کانت أقل من نسبة تمثیلهم فی المجتمع، قبل أوائل الثمانینات من القرن الماضی. إذ کان أبناء القرى التعاونیة "الکیبوتسات" التی تمثل قلاع العلمانیة فی إسرائیل، ینفردون بالسیطرة على المواقع القیادیة فی الجیش لدرجة أن الانتماء للکیبوتس کان یعنی الانتماء للوحدات المختارة، فموشیه دیان وإسحاق رابین وموشیه یعلون وأمنون لیبکن شاحاک وغیرهم، هم من الجنرالات الذین قدموا من الکیبوتسات إلى المناصب العلیا فی الدولة.
وحسب نفس البحث تغیرت الترکیبة السیاسیة لتلک المجموعات، منذ أواسط الثمانینات من القرن الماضی، إذ قلّت نسبة خریجی الکیبوتسات الذین یلتحقون بالوحدات المقاتلة فی الوقت الذی أخذت فیه المرجعیات الروحیة للتیار الدینی توجه أتباعها للانخراط فی الألویة المختارة والوحدات الخاصة فی الجیش، وبالنتیجة أخذ الجیل الثانی والثالث من أبناء الاستیطان یزحف إلى المؤسسة العسکریة والمخابراتیة لدرجة أن 40 إلى 60 فی المائة من ضباط الأرکان والمیدان ینتمون إلى أسر استیطانیة أو مشرقیة دینیة متزمتة، الأمر الذی أدى إلى خشیة بعض المحللین الإسرائیلیین من تمرد الضباط المتدینین باعتبار أن طاعة هؤلاء تخضع لمرجعیاتهم الدینیة قبل العسکریة.
ویستند هؤلاء لتأکید وجهة نظرهم تلک على حادثة تمرد عدد من الجنود والضباط المتدینین على أوامر قادتهم ورفضهم المشارکة فی إخلاء المستوطنین بالقوة عندما تم اعتماد تطبیق خطة الانسحاب من قطاع غزة وبعض أجزاء شمال الضفة الغربیة. کما یستشهدون بإحدى الدراسات المیدانیة التی قام بها الجیش والتی بینت أن أکثر من 90 فی المائة ممن یصفون أنفسهم بأنهم متدینون یرون أنه لو تعارضت الخطوات التی تتخذها الحکومة الإسرائیلیة مع رأی الحاخامات فإنهم سینصاعون إلى أوامر الحاخامات دون غیرهم، کما أکد أکثر من 95 فی المائة من الجنود المتدینین أنه لا یمکنهم الانصیاع لأوامر عسکریة تصدر لهم دون أن تکون متسقة مع الفتاوى الدینیة التی یصدرها الحاخامات والسلطات الدینیة.
والحاصل أن العنصریة لیست شأنا یهم طبقة أو حزبا أو منطقة من مناطق فلسطین المحتلة بل إنها تحولت إلى شأن عام لهذا المجتمع الیهودی الذی اختطفه الحاخامات بعد أن أخذت الأیدیولوجیة الصهیونیة تتراجع وتنکسر لصالح رجال الدین وشعار "یهودیة الدولة".
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS