الاحد 13 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

مفاوضات السلام أم على فلسطین السلام؟

مفاوضات السلام أم على فلسطین السلام؟

 لبیب قمحاوی

 

 مفاوضات السلام الهائمة فی أزقةِ وحواری ما تبقى من القضیة الفلسطینیة تدور بین طرفین ضمن معادلة لا تقبل القسمة. فإسرائیل تتفاوض مع السلطة الفلسطینیة على حجم الخسائر الفلسطینیة، والسلطة الفلسطینیة تتفاوض مع إسرائیل على حجم الخسائر الفلسطینیة أیضاً. فهذه المفاوضات المبهمة تقوم على انتزاع تنازلات سیاسیة وتاریخیة ومبدئیة فلسطینیة، وهی استمرار لعملیة مفاوضات استنزافیة شکلت، منذ مدرید، بدایة لحقبة من التنازلات هدفت إلى تقلیص الثوابت الفلسطینیة وتحویلها من جدار منیع لحمایة الحقوق الفلسطینیة إلى سلعة یتم تجاذبها فی سوق المفاوضات. وما کان من المحظورات، أصبح، بالتالی، مباحاً وخاضعاً للمساومة.

یفاوض الإسرائیلیون منذ البدایة وحتى الآن، على إنقاص الحقوق الفلسطینیة وتقلیصها تدریجیاً ومن ثم إذابتها، وذلک ثمناً لقبولهم بالولوج فی عملیة التفاوض ولیس مقابل إتمام عملیة السلام. ففی کل جولة مفاوضات خسر العرب شیئاً وخسر الفلسطینیون أشیاء، وفی المقابل أعطى الإسرائیلیون وعوداً وفُتاتاً لا معنى ولا طعم لها، وکسبوا ما خططوا للفوز به فی کل مرحلة تفاوضیة. وأبرز المکاسب المبکرة للإسرائیلیین یتمثل بتوفیر غطاء فلسطینی یرفع عنهم صفة العدو المحتل المستوطن والمقتلع للبشر والحجر إلى صفة الشریک المفاوض. وإذا شاء أحدٌ أن یعترض على کل ذلک بإعتباره إفتراء على الحقیقة فلیتفضل بتعداد المکاسب الفلسطینیة والخسائر الإسرائیلیة.

لقد زرعت عملیات المفاوضات السابقة والمتکررة الآمال والتوقعات الواهمة لدى بعض أفراد الشعب الفلسطینی البسطاء والمنهکین والمتعبین من جبروت الاحتلال وقسوته وغطرسته. وزحف الأمل الکاذب إلى قلوب البعض، ولکن دون جدوى. وانکسر الفؤاد الفلسطینی عندما رأى خیمته النضالیة تُهدم بأیدٍ فلسطینیة، وتُختزل من منظمة التحریر الفلسطینیة المؤتمنة على النضال من أجل تحریر کل فلسطین، إلى سلطة فلسطینیة تفاوض من أجل حکم ذاتی على أجزاء مبعثرة من فلسطین، وتسعى إلى اختطاف حرکة فتح المناضلة واختزالها من قائدة للمقاومة الفلسطینیة إلى خیمة سیاسیة تقبع على هرمها بعض الأوراق المتساقطة من شجرة النضال الفلسطینی لتقود الشعب الفلسطینی نحو الهاویة. ومع ذلک لم یکف الجانب السلطوی الفلسطینی عن تمسکه المعلن بحبال مفاوضات السلام المتعثرة حیناً والمقطوعة أحیاناً أخرى، وحرق کل سفنه دون جدوى أو عائد. فالسلطة الفلسطینیة أوقفت المقاومة المسلحة ومن ثم أدانت تلک المقاومة دون جدوى أو عائد، واعتقلت المقاومین دون جدوى أو عائد، وألغت برنامج منظمة التحریر الفلسطینیة دون جدوى أو عائد، ونطقت بالعیب السیاسی قبل أن ترتکبه دون جدوى أو عائد.

ولکن، هل فلسطین وحدها فی الهاویة؟ وهل ما جرى ویجری لفلسطین لا أثر أو علاقة له بالمنطقة؟

یحلو للبعض أن یعتقد بأن ما جرى ویجری فی فلسطین هو أمر یخص الفلسطینیین وحدهم وأن على الفلسطینیین، بالتالی، أن یقتلعوا شوکهم بأیدیهم. هذا الکلام، وهو فی ضمیر المستتر للتفکیر الرسمی للعدید من الأنظمة العربیة، یعکس قصر نظر تلک الأنظمة، والتی تعتبر أن التخلص من الهم الفلسطینی سیجعلها فی مأمن من الأخطار المحیطة بهذه القضیة. فإسرائیل لم تعد تنظر إلى نفسها کقوة احتلال غاصبة وطارئة على المنطقة، بل کقوة إقلیمیة لها الحق فی تعزیز نفوذها والدفاع عن مصالحها، بغض النظر عن حیثیات القانون الدولی وعن التوازن الإقلیمی للقوى التقلیدیة فی المنطقة. فالتعامل الإسرائیلی بمنطق القوة الإقلیمیة مع دول المنطقة فرض نمطاً جدیداً من العلاقات ومن التعامل على تلک الدول. وانتقلت إسرائیل من موقع الطرف فی النزاع المحلی إلى موقع القیادة فی النزاع الإقلیمی، وأصبح بالتالی بعض أعداء الأمس لإسرائیل أصدقاء الیوم وبعض أصدقاء الأمس أعداء الیوم فی ترجمة واقعیة لدینامیکیة العلاقات الإقلیمیة المتغیرة والمتحرکة دائماً بفعل عوامل محلیة وإقلیمیة ودولیة. وانتقل الإسرائیلیون، بالتالی، من مرحلة احتلال الأرض وإنشاء الدولة، إلى مرحلة فرض شرعیة الدولة وحقها التاریخی من خلال إرغام الفلسطینیین على التنازل عن حقهم التاریخی، ومن ثم إلى مرحلة یهودیة الدولة باعتبارها دولة للیهود فقط بکل ما یحمله ذلک من آثارٍ خطیرة على القضیة الفلسطینیة وعلى الفلسطینیین أنفسهم، خصوصاً المقیمین منهم ضمن إطار تلک الدولة. وأخذ الإسرائیلیون تدریجیاً بسیاسة ربط مصیر سکان فلسطین العرب فی المناطق المحتلة عام 1948 بمصیر سکان الضفة وقطاع غزة المحتلین عام 1967 فی محاولة واضحة لتحویل الأمر من قضیة احتلال وحقوق مغتصبة إلى قضیة دیموغرافیا.

لم یکن الفلسطینیون ببعیدین عن ما یجری وعن فشل المفاوضات فی تحقیق أی إنجاز. وبدأ الحراک داخل فلسطین واضحاً، وسقط هذا النمط من السلام کخیار شعبی فلسطینی وبقی محصوراً بطبقة من المتکسبین والمستفیدین وبأقلیة تتربع على هرم السلطة الفلسطینیة. وترجم الفلسطینیون ذلک بإنجاح حرکة المقاومة الإسلامیة (حماس) فی الانتخابات التشریعیة الفلسطینیة، مما أدى بالنتیجة إلى استیلاء حرکة حماس، ببعدیها الفلسطینی والإسلامی، على قطاع غزة، فی صراع واضح على السلطة ضمن برنامج مضاد یرفض الفساد المالی والسیاسی ویربط مصیر القضیة الفلسطینیة باستمرار المقاومة من داخل فلسطین. واتحدت قوى دولیة وعربیة وفلسطینیة مع العدو الإسرائیلی فی محاولة مستمیتة ودمویة للقضاء على سیطرة حرکة حماس على قطاع غزة، حیث اعتبر البعض بأنّ استیلاء حماس على السلطة فی قطاع غزة سوف یرجح کفة التوازن الإقلیمی لصالح المعسکر المضاد لإسرائیل وللسلام، فی حین اعتبر الإسرائیلیون نجاح حرکة حماس بأنه تهدید من الداخل لدور إسرائیل الإقلیمی فی الخارج. ولم یکن ما حدث فی غزة بمعزل عن ما یجری فی الخارج. فقد تزامن ذلک مع تبلور حرکات شعبیة أخرى فی المحیطین العربی والإسلامی مثل حزب الله فی لبنان وتنظیمات مسلحة أخرى بأشکالها المختلفة ومواقعها المختلفة، بالإضافة إلى تبلور تفاهم ما بین دول بعینها وهی إیران وسوریة وترکیا، وهی دول ذات ثقل فی الإقلیم الشرق أوسطی ولها مصالح تاریخیة ضاربة الجذور، ولا تسمح لکیان دخیل وغریب وجدید مثل الکیان الإسرائیلی بأن یهدد تلک المصالح. وقد ترافق کل ذلک مع محاولات دولیة جادة لإضعاف دول الإقلیم العربیة الرئیسة لصالح إسرائیل. فتم احتلال العراق وتمزیقه کما تم تحیید دول الإقلیم الکبرى من خلال إشغالها بقضایا داخلیة وأمنیة.

وهکذا، یخطئ العرب خطأً کبیراً فی ترک العنان للسلطة الفلسطینیة لإجراء أی تسویة تشاء للقضیة الفلسطینیة انطلاقاً من أنّ ذلک أمر فلسطینی ویخص الفلسطینیین وحدهم. فالنتائج المتوقعة لمثل هذه التسویة سوف تفاقم حالة الاحتقان الفلسطینی والعربی والإسلامی، وستؤدی إلى تعزیز قوة إسرائیل ودورها الإقلیمی بما یتناقض بالضرورة مع مصالح الفلسطینیین والأمتین العربیة والإسلامیة. إنّ اختباء الأنظمة العربیة خلف السلطة الفلسطینیة انطلاقاً من المقولة الکاذبة بأنّ ما یرضی الفلسطینیین، ممثلین بالسلطة الفلسطینیة، یرضی العرب، أو أنّ العرب لن یزایدوا على الأخوة الفلسطینیین، إلى غیر ذلک من أعذار محزنة، کل هذا لن یجلب السلام، بل سوف یؤجج الغضب ویدفع بالمنطقة إلى أتون یحرق الداخل العربی والإسلامی مُـطـَهِّـراً ومُـکَفـِّراً قبل أن یصل لهیبه إلى قلب العدو الإسرائیلی وحلفائه وأصدقائه المعلنین وغیر المعلنین.

إنّ عدم السماح بحل القضیة الفلسطینیة خارج إطار الثوابت الوطنیة الفلسطینیة کما جسدها المیثاق الوطنی الفلسطینی، هو الضمان لبقاء القضیة الفلسطینیة حیة، ولحمایة الحقوق الوطنیة للشعب العربی الفلسطینی، ولتجنیب بعض الأقطار العربیة، مثل الأردن، العواقب الوخیمة المدمرة فیما لو سمح لإسرائیل بفرض التسویة التی تریدها على الفلسطینیین وعلى دول الجوار والمنطقة بشکل عام. وهکذا، یصبح مطلب وقف ما یسمى بمفاوضات السلام وإلغاء هذا المسار، مطلباً وطنیاً فلسطینیاً یصب فی المصلحة الفلسطینیة والعربیة ویجنب الفلسطینیین أولاً والعرب ثانیاً الآثار المدمرة لعقد معاهدة سلام مع العدو الإسرائیلی على أساس الشروط الإسرائیلیة وتحت مظلة الضعف الفلسطینی والعربی الکامل. وانطلاقاً من ذلک، فإنّ الأنظمة العربیة الداعمة لمسیرة المفاوضات کما تدیرها السلطة الفلسطینیة هی مسؤولة أیضاً عن العواقب الوخیمة لمثل تلک المسیرة وتتحمل المسؤولیة کاملة عن النتائج المترتبة عنها فیما لو استمرت بدعمها لتلک المسیرة وللسلطة الفلسطینیة. إنّ المصلحة الوطنیة والقومیة لکافة الدول العربیة تتطلب رفع الغطاء العربی الساتر والحامی لتلک المسیرة باعتبارها لن تؤدی إلا إلى مزید من الخراب وعدم السماح للسلطة الفلسطینیة للاستمرار بالقفز بین غطاء الإجماع العربی واستقلالیة القرار الفلسطینی کیفما شاءت وکلما ارتأت ذلک مناسباً لتمریر سیاسات لا تحظى بالشعبیة أو القبول بین أوساط الشعب الفلسطینی.

إنّ سرقة الوقت الإضافی من خلال اجترار أفکار قدیمة بلغة جدیدة هو فن أجادته وتجیده السلطة الفلسطینیة. فمحاولة اکتساب المزید من الوقت من خلال جولات مفاوضات جدیدة یعنی، بالنسبة للسلطة الفلسطینیة، حیاة جدیدة، فی ظل غیاب أی نوایا إسرائیلیة لإعطاء أی تنازلات حقیقیة للفلسطینیین، وفی ظل عدم قدرة الفلسطینیین على فرض أی تنازلات على الإسرائیلیین. وانطلاقاً من ذلک، فإنّ المصلحة الوطنیة الفلسطینیة تستدعی اختفاء السلطة الفلسطینیة عن المسرح السیاسی الفلسطینی، وإجبار العدو الإسرائیلی على لعب دوره المباشر کقوة احتلال، وعدم السماح لهذا العــــــدو بالاستمرار فی الاختباء خلف السلطة الفلسطینیة وممارسة الاحتــــلال الفعلی من خلالها. إن مثل هذا الإجراء ســـیؤدی إلى کشف المستور أمام الفلسطینیین حتى لا یبقوا تحت وهم أنهم مستقــــلون ولدیهم دولة، وأمام العالم حتى لا یظن هذا العالم أنّ الاحتلال قد انتهى من خـــــلال وجود رئیس لدولة فلسطین دون وجود دولة فلسطـــینیة. فالمعظم، حتى الآن، یلعب الدور المناط به ولکن دائماً على أرض الملعب الإسرائیلی وضمن حدوده. وقد آن الأوان لوضع حد لهذه المهزلة السوداء.

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 143210







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
  1. أسير إسرائيلي: إذا أردتم أن تعرفوا عدد الأسرى إسألوا سارة نتنياهو
  2. إصابة 9 جنود إسرائيليين بينهم نائب قائد فرقة وقائد كتيبة في الشجاعية بغزة
  3. في إطار جمعات الغضب.. مدن إيرانية تنظم وقفات تضامنية مع غزة
  4. صنعاء تستهدف "بن غوريون" بصاروخ باليستي فرط صوتي.. وتُهاجم هدفاً في يافا المحتلة
  5. كتائب القسام توقع قوة إسرائيلية في حقل ألغام.. وجنود الاحتلال بين قتيل وجريح
  6. المشّاط للإسرائيليين: لا تراجع عن إسناد غزّة.. الزموا الملاجئ ردّنا سيكون مزلزلاً
  7. الإدارة الأميركية ترضخ.. القوات اليمنية تستفرد بالعدو الصهيوني
  8. انصار الله: إعلان ترامب فشل لنتنياهو
  9. سرايا القدس تسيطر على مُسيرة إسرائيلية شرق مدينة غزة
  10. العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء الدولي.. هجوم استعراضي موجه للداخل الصهيوني
  11. عدوان أمريكي إسرائيلي غاشم على اليمن بعشرات الطائرات
  12. وزير الخارجية الإيراني: الدعم القاتل لإبادة نتنياهو الجماعية في غزة، وشن الحرب نيابةً عنه في اليمن، لم يُحققا شيئاً للشعب الأميركي
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)