qodsna.ir qodsna.ir

الهرولة العربیة نحو دیمقراطیة الشکل

الهرولة العربیة نحو دیمقراطیة الشکل

فایز رشید

 

بعد التغییرات الجذریة فی کل من تونس ومصر، سارعت الانظمة الرسمیة فی بعض الدول العربیة إلى اتخاذ تدابیر فی اعتقادها أنها قادرة على منع انتقال (فیروس التغییر) إلیها، فیؤکد هذا الرئیس بأنه لا یرید الترشح لولایة أخرى، ولا یرید توریث ابنه، کذلک فإن أحد رؤساء الوزارات العربیة أکد بالمطلق أنه لن یترشح لولایة جدیدة، وقام بتخفیض راتبه، وربما فی المستقبل القریب سنشهد خطوات من هذا النوع فی هذه الدولة العربیة أو تلک. کما أن الکثیر من الدول العربیة ومنذ طرح العولمة، بادرت إلى اتخاذ بعض القرارات التی فی اعتقادها، هی تعبیر جوهری عن التطبیق الدیمقراطی فیها مثل: إعطاء حق الانتخاب للمرأة، وانتخاب نصف عدد أعضاء مجلس النواب، وهکذا دوالیک.

من ناحیة ثانیة، فإنه وبعد أحداث مصر وتونس، والتصریحات الأمریکیة حول الثورتین بدت الإدارة الأمریکیة خاصة، والدول الغربیة عامةً، وکأنها معنیة بالتطبیق الدیمقراطی فی الدول العربیة، وحریصة على هذا کحرص الشعوب العربیة.... لکن من زاویة ثانیة: فإن هذه وفور نجاح التغییرات، بادرت إلى دعوة المجلس الأعلى للقوات المسلحة فی مصر (الذی یتسلم مسؤولیة الحکم الانتقالی) لاحترام اتفاقیة کامب دیفید، فی الوقت الذی تدرک فیه هذه الدول أن من قام بتوقیع هذه الاتفاقیة عن الجانب المصری هو أبعد ما یکون عن الدیمقراطیة، وهو رمز للدکتاتوریة، ونقصد الرئیس السادات، ولو کانت هذه الدول حریصة بالفعل على التطبیق الدیمقراطی فی الوطن العربی، لأخضعت مصیر هذه الاتفاقیة للشعب المصری، لیقرر فیها ما یشاء، خاصة أن المصریین فی غالبیتهم وقفوا ضد توقیع هذه الاتفاقیة، بالتالی کیف تستقیم الدعوة إلى نشر الدیمقراطیة، فی الوقت نفسه تقیید وربط النظام المصری القادم، باحترام هذه الاتفاقیة؟

ولکن عن أیة دیمقراطیة تتحدث الولایات المتحدة؟ وهی الدولة التی تحتل بلداً عربیاً وتُحالف استراتیجیاً، إسرائیل، وتتبنى وجهات نظرها بالکامل؟ عن أیة دیمقراطیة تتحدث الإدارة الأمریکیة وهی تقوم بالتهدید لدول عربیة أخرى؟ أیة دیمقراطیة هذه، التی لا تنسجم مع تاریخ حافل بالوقوف إلى جانب الأنظمة العنصریة والدکتاتوریات، مثل نظام بینوشیت فی تشیلی قبل خلعه، وإعطاء المشروعیة لقصف یلتسین للبرلمان الروسی، الولایات المتحدة ترید إنتاج دیمقراطیة فی العالم العربی تخدم مصالحها وعموم المصالح الغربیة والإسرائیلیة، وهذا لا نقوله نحن فقط، وإنما کثیرون أیضاً من الباحثین، من بینهم دیفید سموک مدیر معهد الولایات المتحدة للسلام، الذی کتب فی مقالة له فی 'نیوزویک' أیلول/سبتمبر 2004 قائلاً: 'العرب والمسلمون یعتبرون الصراع مع إسرائیل هو حجر الزاویة، وهم یراقبون مواقفنا، ما إذا کنا نقف إلى جانب اللیبرالیة والعدالة أم لا؟ وهو ما یتوجب علینا فعله حتى یثقوا بحقیقة ما نطرح من أهداف وبما نمارسه من سیاسات'.

الولایات المتحدة ترید نمطاً من الدیمقراطیة فی العالم العربی یخدم مصالحها وحلفاءها، وهو أیضاً أشبه باسنفجة قابلة لامتصاص النقمة الجماهیریة تجاه سیاساتها من جهة، وتجاه الإخفاقات الکبیرة وصولاً إلى حد العجز فی السیاسات العربیة الحاکمة وبرامجها لتطویر البنى الداخلیة.

لیس المقصود من کل ما سبق الإیحاء بالوقوف ضد الدعوة إلى تحقیق الدیمقراطیة فی الوطن العربی، ذلک أن اللبس فی هذا الموضوع یقع فیه الکثیرون، فدیمقراطیة الإملاء من الخارج هی غیر دیمقراطیة الاستجابة للعصر ولحقوق الإنسان، الدیمقراطیة المطبقة من خلال قوانین تصدرها السلطات الحاکمة من أجل ذر الرماد فی العیون باعتبارها (هبة) منها للشعوب، وهی قادرة على تغییرها وممارسة نقیضها عندما ترید، هذه غیر الدیمقراطیة النابعة من صمیم الشعوب الملازمة لمکونات الشعب الأساسیة، وعیاً وسلوکاً فردیاً ومجتمعیاً، وسمة عامة (ظاهرة) تتبلور منهجاً فی البنیة المجتمعیة الداخلیة، وکوسیلة حقیقیة تحقق الفصل بین سلطات الدولة الثلاث، وتحدد شکل العلاقة بین السلطة والشعب، باعتباره العامل الثانی، وهو من یفرز المسألة الأولى من بین صفوفه، مع امتلاک القدرة على المحاسبة والتغییر فی کل صفوف السلطة، من دون ان یکون أحد فوق الدستور، الذی یصیغ الشعب مواده من ألفه إلى یائه، باعتباره المصدر الحقیقی للسلطات. مثل هذه الدیمقراطیة تطمح الجماهیر العربیة من المحیط إلى الخلیج فی الوصول إلیها.

الاقتراب الرسمی العربی من الموضوع الدیمقراطی، هو نتیجة للتفاعلات الجماهیریة الکبیرة حول التطبیق الدیمقراطی، ومن خلال شعور المواطن العربی بأهمیة الدیمقراطیة کمنهج حیاتی یعید له حقوقه المحروم من غالبیتها تاریخیاً، خاصة عندما یقارن بین نماذج مختلفة، یراها من خلال الفضائیات، أو یقرأها فی الصحف أو الکتب، وبین واقعه المؤلم فی الاستحقاقات الدیمقراطیة. الثورة المعرفیة مضموناً ووسائل، لعبت دورها أیضاً فی انتشار ثقافة الدیمقراطیة فی الأوساط الجماهیریة العربیة.

على الرغم من الأهمیة النسبیة لضرورة الاقتراب الرسمی العربی من الموضوع الدیمقراطی، لکنه اقتراب خجول واستحیائی، وتبلور حتى اللحظة فی ممارسات أولیة، تتخذ شکل القیام بانتخابات بلدیة، وانتخاب نصف مجالس الشورى (باعتبار النصف الآخر یجری تعیینه من قبل الحاکم)، والتفکیر فی إمکانیة إعطاء المرأة حق الانتخاب، والإفراج عن بعض المعتقلین السیاسیین، وربما مظاهر أخرى غیرها. لکنها بقیت فی إطار بعید عن فهم حقیقی لمضمون وجوهر الدیمقراطیة.

ذلک أنها ما زالت غیر مؤهلة بطبیعتها (اعتماداً على عوامل کثیرة) للسیر فی نهج دیمقراطی حقیقی، أو أنها لیست مؤهلة من الأساس لطرح هذا النهج، الذی یتعارض بالضرورة مع مواقعها وعموم مصالحها. الإخفاق أو التقصیرات فی طرح وتبنی شعارات النهج الدیمقراطی، یطال الجماهیر فی بعض الدول العربیة، بانعدام تشکل حالة وعی بالدیمقراطیة، تمتد أفقیاً بین صفوفها، لإدراک حقوقها الحیاتیة الأساسیة، وذلک من خلال تقصیرات أحزابها وقواها الوطنیة بمختلف اتجاهاتها التی تعانی فی معظمها من غیاب أو تغییب للدیمقراطیة الحقیقیة، کأسلوب تعاط فی صفوفها (والقاعدة تقول بأن فاقد الشیء لا یعطیه). ولذلک نجحت الخطط التی استهدفت إغراق المواطن العربی فی همومه والعمل طوال ساعات النهار ومعظم اللیل، من أجل تدبر قوته وعائلته، على قاعدة فهم استهلاکی، متدرج متطور باستمرار ومخطط له جیداً.. فی ظل تغییب قسری لمفاهیم حیاتیة أساسیة: کأهمیة تطبیق الدیمقراطیة کمنهج حیاتی کفیل بانتصار هذا المواطن على الجزء الأعظم من مشاکله (وهذا على سبیل المثال لا الحصر بالطبع)، فالعلاقات فی الحالة الدیمقراطیة، متداخلة ومتشابکة، وحل أحد المعضلات الاقتصادیة، سینفذ بالضرورة إلى طریق حل الإشکالات الاجتماعیة، من ثم السیاسیة فی دائرة العلاقات المجتمعیة الدیمقراطیة بالطبع.

حالة العجز والتردی کسمة عامة فی المرحلة العربیة الراهنة، هی احد إفرازات غیاب الدیمقراطیة، وتطویر الرؤیة فی أحد جوانبها تقتضی تغییر الأسالیب وآلیات الفعل، على قاعدة من الإدراک الحسی والموضوعی، فی إطار من الوعی، على طریق تشکیل حالة جماهیریة قویة وضاغطة، لإجبار الآخر على الاستجابة لهذه الحالة، أو ما یمکن تسمیته بانتزاع الحقوق انتزاعاً... والوصول إلى ذلک یقتضی جهداً کبیراً من الأحزاب والقوى الوطنیة العربیة، والمنظمات النقابیة الجماهیریة التی تهدف الى جانبین، خلق الثقافة الدیمقراطیة وعیاً ومسلکاً، والنضال فی خطة مبرمجة اعتماداً على الجماهیر فی قوننة هذه الثقافة فی البلد المعنی، ومن ثم فی الحالة العامة العربیة، وهذا غالبا ما یقود أیضاً إلى ضرورة الربط ما بین الوطنی والقومی، فی إطار دقیق من الجمع بین المصالح الوطنیة والقومیة العامة على قاعدة أجزاء السلسلة وتکاملها.

بالتالی، فإن الذی نراه من هرولة للنظام الرسمی العربی نحو الدیمقراطیة، هو طریق للهروب إلى الشکل، دون المضمون.

ن/25

 


| رمز الموضوع: 143209