الثورة الناقصة" هی الطریق إلى "الثورة المضادة"!

الثورة الناقصة" هی الطریق إلى "الثورة المضادة"!
جواد البشیتی
الثورة الناقصة، غیر المکتملة، والتی تتوقَّف فی منتصف الطریق، أو على بُعْد شبر من هدفها النهائی، أو نصرها النهائی، إنَّما هی ثورة تَحْفُر قبرها بیدیها، وتُمهِّد، وتُقصِّر، الطریق إلى "الثورة المضادة"، التی من الوهم الخاص، والقاتل لصاحبه، أی للثورة المصریة، أنْ یُظَنَّ ویُعْتَقَد أنَّ قواها قد خارت وتلاشت ونفدت؛ فإنَّ لها "أی للثورة المضادة" الآن من قوَّة الدافع والحافز ما یشدِّد الحاجة إلى مزیدٍ من الیقظة الثوریة، والتی یَجْتَمِع فی أصحابها، أی الثوَّار والشعب، حرارة القلب وبرودة العقل.
"الواقع"، بمعطیاته وحقائقه الجدیدة، المتغیِّرة فی استمرار، والسریعة فی تغیُّرها، والذی نشأ مع إعلان "تخلِّی" مبارک "عن منصب رئیس الجمهوریة"، و"تکلیفه" المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة بـ"إدارة شؤون البلاد"، هو الآن، وکما هو دائماً، یؤثِّر تأثیراً مختلفاً فی مشاعر الناس وتفکیرهم؛ وأحسب الآن أنَّ حرارة قلوب ومشاعر الشعب والثوَّار یجب ألاَّ تَحُول بینهم وبین برودة التفکیر، والموضوعیة فی فهم هذا الواقع بوجهیه: واقع الثورة وواقع نظام الحکم.
لشعب مصر، ولسائر الشعوب العربیة، الحق فی الفرح، وفی التعبیر عنه کما یشاؤون، فإنَّها لحظة فرح احتبسوا طاقته فی نفوسهم زمناً طویلاً، منتظِرین تحریرها على أحرٍّ من جَمْر؛ لکنَّ علیهم أنْ یحرسوا هذا الفرح الثوری بشیء من التخوُّف والقلق "الواقعیین" فالوردة تُحْمى وتُحْرَس بشوکها.
وینبغی، على ما أرى، لبعضٍ من بیانات المجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة، أو لبعضٍ من مضامین تلک البیانات، أنْ یُسلِّح فرحهم بشیء من التخوُّف والقلق الواقعیین، وأنْ یشدِّد الحاجة لدى "مجلس أمناء الثورة"، ولدى قیاداتها جمیعاً، إلى أنْ یتوفَّروا على التفکیر فی موضوعیة "لا تفسدها مشاعر الفرح" توصُّلاً إلى إجابة "أسئلة الساعة"، والتی فی مقدَّمها: "ماذا نرید الآن؟"، و"ما هی الأولویات من ثمَّ؟"، أو "کیف نتوصَّل "أو یمکن أن نتوصَّل" إلى ما نرید؟".
هذه ساعة ثوریة، مصیریة، حاسمة، تَحْظر على الثوَّار وقادة الثورة إساءة الفهم والتقدیر، وارتکاب الأخطاء، والمغالاة فی حُسْن الظَّن، وفی إبداء النیِّات الحسنة، وتُلْزِمهم النأی بمواقفهم وأقوالهم وأفعالهم عن الثِّقة المُطْلَقة المجرَّدة العمیاء؛ فإنَّ هذه الثِّقة، وبُحْکم صفاتها تلک، تأتی بالغَفْلة المؤدِّیة حتماً إلى الهلاک.
إنَّنی لا أدعو إلى عدم الثِّقة بالمجلس الأعلى للقوَّات المسلَّحة، وإنْ اسْتَشْعَرت بأهمیة وضرورة أنْ یأتی قول الثورة وفعلها، من الآن وصاعداً، بما یُظْهِر ویؤکِّد أنَّ ثقتها بالجیش، وبالجنود وصغار الضبَّاط، تفوق کثیراً، وکثیراً جدَّاً، ثقتها بهذا المجلس الذی لدى أعضائه من المصالح الشخصیة، أو المشترَکة بینهم جمیعاً، ومن قوَّة الدافع إلى الاحتفاظ بعلاقة قویة ووطیدة مع الولایات المتحدة، ما یُبرِّر الخوف من أنْ یکونوا، فی سعیهم الخفی، قوَّة لإنقاذ نظام الحکم، ولو من خلال التضحیة برأسه، وببعضٍ من کبار ممثِّلیه.
ما أدعو إلیه فحسب إنَّما هو الموضوعیة والواقعیة فی الثِّقة بهذا المجلس، وأنْ یتصرَّف الثوَّار بما یَحْمِل "المجلس الأعلى" على أنْ یتصرَّف بما یجعله یحظى بثقة الشعب والثورة؛ وإنَّ استمرار الضغط الشعبی الثوری هو وحده الذی من شأنه أنْ یجعل هذا المجلس یتصرَّف بما یجعله جدیراً بثقة الشعب والثورة.
إنَّ الشجر نعرفه من ثماره؛ وینبغی للثورة المصریة أنْ تَزِن ثقتها بـ"المجلس الأعلى" بموازین عدة، منها البیانات الصادرة عنه، والتی لأهمیتها فی سَبْر النیِّات لا بدَّ من أنْ تُفْهَم، معنىً ومبنىً، بمنأى عن المشاعر والعواطف الشعبیة، وعن رغبة الشعب والثورة فی الفرح، وفی التعبیر عنه، وفی الاحتفال بالنصر، الذی تحقَّق، والذی یتحدَّى صُنَّاعه أنْ یحافظوا علیه؛ ولیس من وسیلة للحفاظ علیه إلاَّ الاستمرار فی الثورة، وفی الضغط الشعبی الثوری والمنظَّم قدر الإمکان.
لقد تحدَّث "المجلس" فی بیاناته عن وقوفه إلى جانب "المطالب المشروعة" للشعب؛ وإنَّ أخشى ما أخشاه أنْ تتغیَّر الأحوال مستقبلاً، أو عمَّا قریب، بما یَحْمِل المجلس نفسه على أنْ یقول موضِّحاً إنَّ تلک العبارة تعنی أنَّ للشعب مطالب بعضها مشروع، وبعضها غیر مشروع؛ وإنَّ "المجلس"، من ثمَّ، یؤیِّد "المشروع" منها فحسب؛ وهذا "المشروع" لا بدَّ له من أنْ یتضاءل مع تضاؤل الضغط الشعبی الثوری، أو مع تحول المدِّ الثوری إلى جَزْرٍ لأسباب عدة منها "على ما أخشى" إفراط الشعب والثورة فی الثِّقة بـ "المجلس الأعلى" للقوَّات المسلَّحة.
"المجلس" أوْرد هذه العبارة فی بیاناته غیر مرَّة؛ وکان یمکنه لو أراد أنْ یقول إنَّه "یؤیِّد مطالب الشعب التی هی مطالب مشروعة".
"المجلس"، فی بیانه الرابع، أعلن التزامه "کل ما ورد فی بیاناته "الثلاثة" السابقة"؛ وإنَّ کلمة "کل" لا تُطَمْئِن "وینبغی لها ألاَّ تُطَمْئِن" الشعب وثورته؛ فإنَّ المجلس، فی بیانه الثانی، قال إنَّه یضمن إنهاء حالة الطوارئ "عند انتهاء الظروف الحالیة"؛ فما هی تلک "الظروف الحالیة" التی إذا لم تنتهِ لن یفی "المجلس" بعهده ذاک؟!
عندما أُعْلِنَت "حالة الطوارئ" فی مصر لم یَقُلْ مُعْلِنها، وهو نظام الحکم، إنَّها ستستمر إلى الأبد؛ ولقد ضمَّن بیان إعلانها عبارات تشبه کثیراً فی معناها عبارة "إنهاء حالة الطوارئ عند انتهاء الظروف الحالیة".
"المجلس" یمکن أن یقول فی معرض تبریره لاستمرار حالة الطوارئ إنَّ الشوارع والمیادین ما زالت مسرحاً لعمل شعبی ثوری؛ فإذا أراد الشعب إنهاء حالة الطوارئ فإنَّ علیه أنْ یکفَّ عن النزول إلى الشوارع والمیادین، وأنْ ینهی، من ثمَّ، ثورته بیدیه، ویتخلَّى عن سلاحه الوحید ألا وهو الاستمرار فی الضغط الشعبی الثوری المنظَّم.
ینبغی لـ"المجلس الأعلى"، قبل، ومن أجل، أنْ یرفع الشعب منسوب ثقته به، أنْ ینهی فوراً حالة الطوارئ؛ فإنَّ التزام "المجلس" استمرارها حتى "انتهاء الظروف الحالیة" هو بحدِّ ذاته سبب وجیه لاقتناع الثوَّار بأهمیة وضرورة الاستمرار فی الثورة والضغط الشعبی.
إنَّ الشعب لن یطمئِن، ولن یثق بـ"المجلس العسکری الأعلى" ثقةً مبرَّرة واقعیاً، إلاَّ إذا سارع هذا المجلس إلى تلبیة جملة من المطالب الأولیة "غیر القابلة للتأجیل" للثورة، فی مقدَّمها: الإلغاء الفوری لحالة الطوارئ، مع الإفراج عن المعتقلین السیاسیین جمیعاً، وإلغاء الدستور "الذی قرَّر "المجلس" تعطیل العمل به فحسب" وتعدیلاته، وحل کل ما "انْتُخِب" فی العهد البائد من مجالس "تمثیلیة"، وحل الحزب الحاکم، إذا ما جاز لنا أنْ نسمِّیه "حزباً"، ومصادرة کل أمواله الثابتة والمنقولة، وإعادتها إلى الشعب، وحل کل الأجهزة الأمنیة التی أثبتت بالممارَسة "قبل سقوط حکم مبارک، وفی أثناء الثورة" أنَّها معادیة للشعب، وإطلاق حریة تکوین الأحزاب السیاسیة، وحرِّیة الإعلام وتداول المعلومات، وحریة التنظیم النقابی وتکوین منظمات المجتمع المدنی، وحریة التنظیم لذوی المصالح الخاصة، وحریة التجمُّع والتظاهر والاعتصام والإضراب والاحتجاج..، وإلغاء کل المحاکم العسکریة وأشباهها.
ومع تلبیة هذه المطالب الأوَّلیة تکتسب الفترة الانتقالیة محتوى دیمقراطیاً وثوریاً؛ ولا بدَّ لهذه الفترة من أنْ تطول بما یکفی لتحریر المجتمع، وعیاً وشعوراً وإرادةً، ولتمکینه من تنظیم نفسه؛ فالشعب لیس بمَصْدَرٍ للسلطات جمیعاً فحسب؛ وإنَّما الحاکم لنفسه، مباشَرَةً، ومن خلال مجالس منتخَبَة وحکومة تمثیلیة.
ولا بدَّ للفترة الانتقالیة من أنْ تَشْهَد وضع دستور "دیمقراطی عصری" جدید للبلاد، یُقرِّه الشعب فی استفتاء، فتُجرى الانتخابات البرلمانیة والرئاسیة وفق هذا الدستور الجدید، أی وفق ما یشتمل علیه من قوانین انتخابیة.
وأحسب أنَّ نظام الانتخاب النسبی، الذی بموجبه تغدو البلاد دائرة انتخابیة واحدة، هو الذی فی مقدوره شحن المجتمع والنظام السیاسی بأکبر قدر ممکن من الدیمقراطیة والحریة السیاسیة.
وأحسب، أیضاً، أنَّ ترکُّز السلطة التنفیذیة فی حکومة برلمانیة "أی تؤلِّفها الغالبیة البرلمانیة الحزبیة" ولیس فی رئاسة الجمهوریة هو الذی یمکِّن الشعب من أن یکون "بالفعل، وبأکبر قدر ممکن" حاکم نفسه.
"النظام الرئاسی" إنما هو شکل من أشکال عدة لنظام الحکم فی العالم؛ أما فی عالمنا العربی، وعلى ما أثبتت التجربة وأکَّدت، فکانت "حالة الطوارئ" هی شکل "نظام الحکم الرئاسی"؛ فالدستور یُکتب ویُقر لیُعطَّل العمل به على الفور، وکأنه حفل افتتاح لـ"حالة الطوارئ"، التی تستمر ما استمر الرئیس حاکماً، والذی یستمر حاکماً ما استمر على قید الحیاة.
لیس مبارک الشخص، وإنَّما نظام "وخواص نظام" الحکم الرئاسی المعمول به فی الدول العربیة، هو ما جَعَل "سیادة الرئیس محمد حسنی مبارک" فرعوناً، یَشْعُر "ویُشْعِرونه" أنَّه الأکبر والأعظم من مصر، وأنَّه الذی کان ولم تکن مصر، وأنَّه البانی الحقیقی لهرم خوفو، فإذا انتهى انتهت مصر؛ والعالم کله، وعلى رحبه واتِّساعه، یظلُّ أصغر من عالمه هو؛ ولقد نجحت الثورة المصریة فی إدخاله التاریخ بصفة کونه آخر فراعنة مصر.
نظام الحکم الرئاسی کان اللبوس الذی یلبسه الحکم الدکتاتوری الاستبدادی الأوتوقراطی الشمولی؛ ولقد حان له أنْ ینتهی، وإلى الأبد، فلا نظام حکم دیمقراطیاً حقیقیاً فی عالمنا العربی إلاَّ الحکومة البرلمانیة الحزبیة المنتخبة، ولا انتخابات دیمقراطیة حقیقیة إلاَّ التی تُجْرى وفق نظام التمثیل النسبی، والذی بموجبه یغدو الوطن کله دائرة انتخابیة واحدة کبیرة، فنتغلَّب على کل انتماء یُفْسِد الحیاة الدیمقراطیة، منطقاً وواقعاً.
الدستور، ومهما کان دیمقراطیاً، أو ارتفع فیه منسوب الدیمقراطیة، فی بنوده وفقراته، فی نصِّه وروحه، وفی أسلوب وضعه وإقراره، لن یستنفد "الحریة"؛ لأنَّها غیر قابلة للنفاد؛ أو لأنَّها، وعلى ما یقال، لا سقف لها إلاَّ السماء التی لا سقف یعلوها.
وأحسب أنَّ الدستور الدیمقراطی العصری یجب أنْ یتَّسِم بقدر کبیر من "المرونة التاریخیة"، فیخلو، من ثمَّ، من أیِّ قیدٍ على حریة الشعب فی اختیار نُظُم حیاته وعیشه کافَّة، فهذه النُّظُم "أو الطرائق" تشمل أیضاً الاقتصاد والاجتماع.
ثورة أم إصلاح؟ من قبل، أی قبل الثورتین التونسیة والمصریة، کان هذا السؤال وجیهاً، وکان، لجهة إجابته، مدار جدل وخلاف بین دعاة التغییر فی العالم العربی.
أمَّا الآن فانتفت الحاجة إلى السؤال نفسه؛ ویکفی دلیلاً على ذلک أنْ نصوغ من تجربة الصراع بین نظام حکم حسنی مبارک والثورة الشعبیة السؤال الآتی: هل جاءت هذه التجربة بما یقیم الدلیل على أنَّ إصلاح نظام حکم حسنی مبارک لنفسه بنفسه کان أمراً ممکناً أو واقعیاً؟
الجواب الذی لا ریب فیه الآن هو: "کلاَّ، لم یکن أمراً ممکناً أو واقعیاً"؛ فإنَّ الوحشیة التی أظهرها ومارسها نظام الحکم هذا هی خیر دلیل على أنَّ أنظمة الحکم الاستبدادی الأوتوقراطی فی العالم العربی غیر قابلة للإصلاح من داخلها؛ ولا بدَّ للشعوب، من ثمَّ، من أنْ تحرِّر عقولها من هذا الوهم، وتسیر فی طریق الثورتین التونسیة والمصریة إذا ما أرادت ابتناء الدولة المدنیة الدیمقراطیة الحدیثة من هدم الدولة البولیسیة القمعیة الإرهابیة الاستبدادیة الفاسدة المنفصلة عن الشعب بسیاج من الحدید والنار.
ن/25