qodsna.ir qodsna.ir

مفارقات الاعتراف بدولة فلسطینیة

 

مفارقات الاعتراف بدولة فلسطینیة

 

نقولا ناصر

 

لقد انحاز الحلیف الأجنبی الأمیرکی الرئیسی لمفاوض منظمة التحریر الفلسطینیة إلى دولة الاحتلال الإسرائیلی وتخلى عنه، بینما أرکان ظهیره العربی فی "عملیة السلام" قد حاصرها الرفض الشعبی لسیاساتها الداخلیة والخارجیة على حد سواء فسقط أحدها فی تونس فیما یترنح بعضها الآخر وبالکاد یحافظ على بقائه تحت ضغط المطالبة الشعبیة بالتغییر، بحیث لم تعد "عملیة السلام" أولویة على جدول الأعمال الدولی وأصبحت الأولویة فی الدول العربیة الداعمة لهذه العملیة هی الحفاظ على "الاستقرار الوطنی" فی الداخل، بعد أن انهارت مقولة أن القضیة الفلسطینیة هی القضیة المرکزیة للأمة العربیة، وإن أطلت برأسها بین وقت وآخر من وراء شعار "الدولة القطریة أولا" الذی یزین المعابر الدولیة الجویة والبریة والبحریة لهذه الدولة.

فی هذا الإطار، لم یجد مفاوض المنظمة أمامه غیر أن "یلعب" فی الوقت الضائع، فوجد فی شن حملة دبلوماسیة لانتزاع "اعتراف" دولی بدویلة فلسطینیة ملهاة خارجیة، وها هو یسعى الیوم إلى ملهاة داخلیة فی انتخابات محلیة بلدیة أعلن عزمه على إجرائها "فی اقرب وقت ممکن" تشغل، کما یأمل، مواطنیه لصرف أنظارهم بعیدا عن فشله التفاوضی وبعیدا عن التفاعل مع الانتفاضة الشعبیة التی أیقظت الملایین من أشقائهم العرب کی یخرجوا إلى الشوارع متمردین على واقعهم الراهن.

والدرس الأهم للانتفاضة الشعبیة العربیة، بخاصة فی تونس ومصر، هو أن الدعم الأجنبی والاعتماد على الأجهزة الأمنیة التی یمولها ویدربها هذا الدعم لا یمنح شرعیة لأصحابه ولیس ضمانة کافیة لاحتکار السلطة والقرار الوطنی ولیس بدیلا عن الشرعیة الوطنیة المستمدة من الوحدة الوطنیة والدعم الشعبی فی الداخل، مهما بلغ السخاء المالی الأجنبی ومهما بلغت سطوة أجهزة الأمن. والانقسام الوطنی الفلسطینی الراهن دلیل دامغ على صحة العبرة من هذا الدرس دون حاجة إلى انتفاضة شعبیة تؤکده.

والمفارقة الدبلوماسیة أن مفاوض المنظمة الذی یستجدی اعترافا دولیا بدولة له یجد نفسه مؤهلا دبلوماسیا کی یتبرع متطوعا بأنه سوف "یعترف" بدولة تقوم على أساس عرقی ودینی فی الجنوب السودانی، کما فعل وزیر خارجیة سلطة الحکم الذاتی الإداری المحدود فی الضفة الغربیة المحتلة لنهر الأردن د. ریاض المالکی، فی الیوم الأول لاستفتاء ستظهر نتائجه بعد شهر، دون مراعاة لمطالبة دولة الاحتلال الإسرائیلی له للاعتراف بها کدولة دینیة، أو مراعاة لعلاقات المنظمة مع السودان أو لمیثاق الاتحاد الإفریقی الذی یعارض الحرکات الانفصالیة.

والمفارقة الإستراتیجیة أن مفاوض المنظمة قد منح دولة الاحتلال اعترافا مجانیا بشرعیتها مبدئیا عندما تبنى حل الدولتین عام 1988 ورسمیا بتوقیعه على هذا الاعتراف عام 1993، لیقید نفسه باتفاقیات وقع علیها معها تلزمه بعدم إعلان دولة له من جانب واحد وباشتراط موافقة دولة الاحتلال عبر التفاوض الثنائی فقط على أی دولة کهذه، متنازلا بذلک عن حق دولی له بإقامة دولته منحته له شرعیة الأمم المتحدة بقرار التقسیم رقم 181 لسنة 1947، ومتنازلا کذلک طوعا ومجانا عن حقه فی الأراضی التی منحتها الأمم المتحدة لشعبه بموجب ذلک القرار والتی اکتسبتها دولة الاحتلال بالقوة العدوانیة المسلحة خلافا لمیثاق الأمم المتحدة والقانون الدولی.

والمفارقة السیاسیة أن مفاوض المنظمة قد اعترف بدولة الاحتلال وهی الدولة الوحیدة فی العالم التی لا یوجد لها دستور ینص على حدودها وهی تشترک فی ذلک مع الولایات المتحدة الأمیرکیة باستثناء أن للأخیرة دستور لا ینص على حدودها، وقد تبرع مفاوض المنظمة بتحدید خطوط وقف إطلاق النار بین دولة الاحتلال وبین الدول العربیة عام 1967 حدودا لها لکن المأساة أن دولة الاحتلال ترفض تبرعه وقد أفشلت مفاوضاتها معه لأنها تصر على مفاوضته على هذه الحدود أیضا.

والمفارقة الوطنیة أن مفاوض المنظمة یخاطر الیوم بانقسام وطنی طویل الأمد لأنه یصر على أن یفرض قسرا على شعبه القبول بکل هذه المفارقات وغیرها کشرط مسبق للوحدة الوطنیة، مستقویا على شعبه ومقاومته للاحتلال وللمفارقات التفاوضیة التی تمخض عنها بکل القوى الدولیة التی ورطته فی هذه المعادلة المستحیلة للسلام، وهی قوى حریصة أولا وأخیرا على انتزاع اعتراف فلسطینی وعربی بشرعیة الاحتلال ودولته وأمنها ولا یعنیها السلام إلا على هذا الأساس، وفی رأس هذه القوى الولایات المتحدة.

فی الثامن والعشرین من تشرین الأول/أکتوبر الماضی قال "الرئیس" محمود عباس إنه فی حال فشلت المفاوضات فإنه سیطلب من الولایات المتحدة الاعتراف بدولة فلسطینیة على حدود 1967. وقد فشلت المفاوضات. وردت واشنطن على طلب عباس بالرفض. فاعلن کبیر مفاوضیه د. صائب عریقات فی نهایة العام الماضی مؤکدا بأن مشروع قرار بشأن الاعتراف بهذه الدولة کان سیعرض على مجلس أمن الأمم المتحدة مطلع العام الجدید. وحتى الآن لم یعرض لأن الولایات المتحدة هددت باستخدام حق النقض "الفیتو" ضده.

والمفارقة التکتیکیة لمفاوض المنظمة أنه یسعى الآن لانتزاع اعترافات دولیة مسبقة منفردة بدولته قبل قیامها أو بإعلان تجدید اعترافات سابقة لها بهذه الدولة کلا على حدة، بدل أن یلجأ إلى الجمعیة العامة للأمم المتحدة بطلب تأکید قرارها رقم 181 لسنة 1947 وهو المصدر الوحید الذی تستمد منه دولة الاحتلال شرعیة وجودها مشروطة بقیام دولة عربیة فلسطینیة إلى جانبها وبعودة اللاجئین الفلسطینیین، أو فی الأقل بتأکید قرار لها صدر عام 1988 بإجماع "108" دول یعترف بدولة فلسطینیة.

والمفارقة المأساویة أن مفاوض المنظمة یسعى إلى هذه الاعترافات الدولیة المنفردة بدولته قبل قیامها وهو یجد نفسه مقیدا بالاتفاقیات التی وقعها مع دولة الاحتلال التی تجعله عاجزا حتى عن إعلان هذه الدولة التی یطلب الاعتراف بها من جانب واحد، بحیث یبدو موقفه مثیرا للسخریة عندما یطالب الآخرین باعتراف بها وهو نفسه عاجز عن إعلان اعترافه بقیامها، فی الأقل اقتداء بشریکه "الإسرائیلی فی عملیة السلام" الذی أعلن استقلال دولته من جانب واحد، دون أی اتفاق للسلام، وبینما النزاع کان ما زال قائما بشأن حدودها.

أما المفارقة- الخدیعة فتکمن فی حقیقة أن مفاوض المنظمة یسعى وراء هذه الاعترافات المنفردة لیس من أجل تعزیز إمکانیات إقامة هذه الدولة على الأرض بل من أجل تعزیز موقفه التفاوضی، کما یعلن هو نفسه، لإجبار دولة الاحتلال، کما یتوهم، على استئناف التفاوض على إقامتها طبقا لمرجعیات مؤتمر مدرید عام 1991 ومرجعیات اتفاقیات أوسلو التی بدأ توقیعها بعد عامین وهی نفسها المرجعیات التی نسفها رئیس وزراء حکومة دولة الاحتلال بنیامین نتنیاهو فی ولایته الأولى عام 1995 قبل ان یدفنها فی ولایته الثانیة الحالیة.

والمفارقة الإعلامیة أن مفاوض المنظمة یستخدم اعتراف حوالی "12" دولة فی أمیرکیة اللاتینیة بدولة فلسطینیة ورفع مستوى التمثیل الدبلوماسی للمنظمة فی ست دول أوروبیة وسماح الإدارة الأمیرکیة برفع العلم الفلسطینی على مکتبها، باعتبارها انتصارات دبلوماسیة، ویستخدم المآخذ الوطنیة على هذه "الانتصارات" أداة لتعمیق الانقسام الفلسطینی بین المفاوض وبین المقاومة الوطنیة.

إن تجدید قبرص کأول دولة عضو فی الاتحاد الأوروبی ثم روسیا اثناء زیارة الرئیس مدفیدیف الأخیرة لأریحا لاعتراف البلدین بالدولة الفلسطینیة، وهو اعتراف انتزعته المقاومة الفلسطینیة للاحتلال قبل وقت طویل من بدء ما یسمى "عملیة السلام"، مما یذکر بأن المقاومة انتزعت اعتراف عدد من الدول بمنظمة التحریر الفلسطینیة عام 1974 یفوق عدد الدولة التی کانت تعترف بدولة الاحتلال، وانتزعت اعتراف "108" دول بدولة فلسطینیة بقرار للجمعیة العامة للأمم المتحدة عام 1988، بینما قاد اعتراف المنظمة بدولة الاحتلال فی عهد التفاوض إلى سیل من الاعتراف الدولی بها وتبادل العلاقات الدبلوماسیة معها لم تکن تحلم به فی عهد المقاومة.

إن تصویر الاعترافات المنفردة الأخیرة بأنها انتصارات للمفاوض منظمة التحریر ینطوی على تضلیل إعلامی، فتشیلی وبیرو على سبیل المثال اعترفتا بدولة فلسطینیة بلا حدود، بینما اعترفت الدول الأخرى بها ضمن حدود عام 1967، لکنها جمیعا نصت فی بیانات ورسائل اعترافها على "الأهمیة القصوى لاستئناف المحادثات بین الطرفین فی أقرب وقت ممکن"، کما أکد بیان الحکومة القبرصیة، مما یؤکد بأن الهدف من هذه الاعترافات هو تسهیل "عملیة السلام" للاتفاق الثنائی مع دولة الاحتلال على دولة ولیس إقامة دولة فلسطینیة، أی أنها اعترافات بـ"دولة فیسبوک"، أو "دولة میکی ماوس"، وهی بمثابة "شیکات بلا رصید" و"خطوة غیر کافیة" لأنها لا تساهم بقیام الدولة عملیا على الأرض کما قالت حماس، ولأن جهود مفاوض المنظمة فی هذا السیاق تندرج فی باب "رفع العتب السیاسی" طالما لم یترافق مع "رفض الاملاءات الأمیرکیة والإسرائیلیة" ورفض الدخول مجددا فی "متاهة المفاوضات العبثیة" ومع "إعلان رسمی عن وقف المفاوضات" کما قال د. جمال زحالقة رئیس حزب بلد وکتلة التجمع الوطنی الدیمقراطی فی دولة الاحتلال. ویبقى أن "یعترف" مفاوض المنظمة بفشله وخطایاه وأخطائه عسى أن یشفع له اعتراف کهذا لدى شعبه.

ن/25

 

 


| رمز الموضوع: 143197