هل من أسباب للشکّ فی استقلال المحکمة الخاصة بلبنان؟
داود خیرالله أستاذ مادة القانون الدولی فی جامعة جورجتاون – واشنطن
(مداخلتان فی مؤتمر لاهای حول المحکمة الدولیة بشأن لبنان- 2 /2/2011)
لثقة باستقلال المحکمة، أیّة محکمة، هی من أسس شرعیتها والقوّة المعنویة التی تفرض طاعة واحترام قراراتها. ویسری ذلک بشکل خاص على المحکمة الدولیة الخاصة بلبنان.
انّ رغبة أصحاب قرار اقامة المحکمة فی بلوغ العدالة ومدى تجرّدهم من المآرب الخاصة، سیاسیة أو سواها، اللذین ینعکسان فی الاجراءات التی تعتمد فی انشاء المحکمة، یلعبان دورا مهمّا فی تکوین النظرة الى استقلالیة المحکمة وکفاءة أعضائها ونزاهتهم، وبخاصة لدى المجتمع المعنی بالدرجة الأولى باستقلال المحکمة وقدرتها على بلوغ العدالة. ولکن أهمّ العوامل التی تعزّز الثقة باستقلالیة المحکمة ونزاهتها، أو تضعفها، تکمن فی سلوک القیمین على أعمال المحکمة.
نبدأ بالاتهامات والأحکام التی کان یطلقها مسؤولون رسمیون فی الدول التی لا مشیئة لمجلس الأمن خارج مشیئتها، والتی کان لها الید الطولى فی اقامة لجنة التحقیق أوّلا ثم المحکمة الخاصة بلبنان، تلک الاتهامات التی سیقت بحقّ أطراف معیّنة منذ اللحظة الأولى لاغتیال الرئیس الحریری وقبل اجراء أی تحقیق أو الحصول على أیّة أدلّة. واذا أضفنا التصریحات التی کانوا یدلون بها بشأن المتوقع من المحکمة بعد انشائها، نرى أنّ فی ذلک ما یثیر الشکوک بانّ وراء الاجراءات القضائیة التی اتخذت اثر اغتیال الرئیس الحریری، بما فیها المحکمة الخاصة بلبنان، مآرب تتعدّى الرغبة فی بلوغ العدالة.
تتعزّز هذه الشکوک عندما نلاحظ أنّ جهود الدول صاحبة القرار فی مجلس الأمن تنصبّ على اقامة محکمة دولیة هدفها محاکمة مسؤلین عن جریمة لا تعریف لها ولا عقوبة فی القانون الدولی، ویطبّق بشأنها القانون الوطنی حصرا، فی وضعنا القانون الللبنانی، وذلک استثناء لجمیع الحالات السابقة لجهة المحاکم الخاصة التی أنشأها مجلس الأمن فی الماضی. ونلفت هنا أنّ مجلس الأمن لو أحال جریمة اغتیال الرئیس الحریری على محکمة الجنایات الدولیة لردّتها لعدم الاختصاص، لأنّ الجریمة موضوع المحاکمة لیست من الجرائم الدولیة الواردة فی النظام الأساسی للمحکمة. فی حین نرى أن مجلس الأمن یتجاهل مجرّد التحقیق فی جرائم حرب وجرائم ضدّ الانسانیة موثّقة، والتی تقع بطبیعتها فی صلب القانون الدولی الجنائی وهی مبرر اقامة جمیع المحاکم الدولیة التی سبقت المحکمة الخاصة بلبنان، هذه الجرائم ارتکبتها اسرائیل بحقّ ألاف اللبنانیین فی فترة تلت اغتیال الرئیس الحریری وسبقت انشاء المحکمة الخاصة بلبنان، أی فی عام 2006.
لأول مرّة، (ومن المستبعد جدّا أن تتکرّر)، یلجأ مجلس الأمن الى الفصل السابع من المیثاق الأممی لانشاء محکمة أساسها القانونی اتفاقیة غیر مستوفیة الشروط الدستوریة لابرامها، ان لجانب الجهة الصالحة للتفاوض بشانها، أو لجهة الموافقة علیها من قبل السلطة التشریعیة، کما ینصّ علیه الدستور للدولة التی هی الطرف الأساسی فی هذه الاتفاقیة. ولأوّل مرّة یقیم مجلس الأمن محکمة دولیة بموجب الفصل السابع لا تنظر بجرائم حرب وجرائم ضدّ الانسانیة. جرائم دأب مجلس الأمن، وکذلک فقهاء القانون الدولی، على اعتبارها المبرّر الأساسی لصلاحیة مجلس الأمن فی اقامة محاکم جنائیة دولیة بموجب الفصل السابع من المیثاق.
ولأوّل مرّة یلجأ مجلس الأمن الى الفصل السابع من المیثاق فی اقامة محکمة دولیة لا تموّل من الموازنة العامة للأمم المتحدة بل تتولّى تمویلها، بالاضافة الى لبنان طبعا، دول متطوّعة فی طلیعتها الدول صاحبة الجهد الأکبر فی انشاء المحکمة، ما یطرح علامة استفهام اضافیة حول استقلال المحکمة ودیمومتها.
کیف لعاقل أن یفوته التساؤل حول مبرّر الجهود الاستثنائیة من قبل بعض الدول، وفی طلیعتها الولایات المتحدة، والتی دفعت مجلس الأمن الىّ الخروج عن قواعد التزمها طوال عقود من الزمن فی انشاء المحاکم الدولیة الخاصة، وکذلک الى خروج عن قواعد ثابتة فی القانون الدولی العام.
فالجریمة هی بالدرجة الأولى ضدّ الشعب اللبنانی ولا تعنی المجتمع الدولی الا بصورة ثانویة. ولا یمکن القول أنّ ضغوطا شعبیة على الصعید الوطنی لهذه الدول أوعلى الصعید العالمی، هی التی حتّمت اتّخاذ الاجراءات القضائیة التی اتخذت بشأن اغتیال الرئیس الحریری، کما حصل أثناء المجازر التی امتدّت فی الزمان والمکان فی یوغسلافیا سابقا وروندا وسواها من الدول التی أقیمت من أجلها محاکم دولیة خاصة.
أوجه الشبه عدیدة بین اغتیال الرئیس الحریری وبنازیر بوتو، رئیسة وزراء باکستان سابقا، ولکنّ اغتیالها لم یلق اهتماما مماثلا من قبل مجلس الأمن الدولی.
لیس الهدف هنا الاسترسال فی تقدیم الأدلّة على أنّ الدوافع الأساسیة وراء انشاء المحکمة الخاصة بلبنان هی سیاسیة. فما جاء ذکره أعلاه هو غیض من فیض، لکنّه لا یسمح لذی عقل سلیم بأن یتصوّر أنّ بلوغ العدالة هو هدف جهود الدول صاحبة القرار فی مجلس الأمن، بالنسبة الى کلّ الاجراءات القانونیة التی اتخذت بشأن اغتیال الرئیس الحریری وجمیع الذین سقطوا معه أو اغتیلو من بعده.
اذا کان ما تقدّم یشکّل مادة للاقتناع بأنّ الدوافع وراء انشاء المحکمة هی سیاسیة بامتیاز، الاّ أنّه لا یقدّم الدلیل القطعی على عدم استقلالیة المحکمة، فذلک یستدعی امعان النظر فی سلوک القیّمین على أعمال المحکمة.
هنا أودّ بدایة التفریق بین مرحلتین فی عمل المحکمة: مرحلة التحقیق، ومرحلة المحاکمة. ففی المحاکمة العلنیة ضمانات غیر متوافرة فی مرحلة التحقیق، السرّی بطبیعته. واذا کنّا نعرف، أو نستطیع أن نستقی المعلومات، عن السیرة الذاتیة لقضاة الحکم، بما فی ذلک الخبرة والکفاءة والسمعة الحسنة، وأن نراقب عملهم، فاننا، باستثناء المدّعی العام ربّما، فی ظلمة تامة فی ما یتعلّق بالذین یتولّون التحقیق، وبخاصة لجهة انتماء وولاء عشرات المتعاقدین مع المدّعی العام الّذین یتولّون عملیّات التحقیق المیدانی، وما اذا کان لهم ارتباطات بحکومات أو مؤسسات ذات مصلحة فی توسّل اغتیال الرئیس الحریری لمآرب سیاسیة معیّنة. ما نعلم هو أنّ جمیع هئولاء یعملون تحت ستار السرّیة ویتمتّعون بحصانة من أیّة مراجعة قضائیة.
وبما أنّ المحکمة أعلنت مرارا عن استقلال المحکمة بما هی محاکمة وقضاة حکم عن التحقیق ومن یتولّونه، وبما أنّ المحاکمة لم تبدأ بعد، وسوف ینصبّ عملها على نتائج التحقیق، نرى أنّ النظر فی استقلال ونزاهة الاجراءات القضائیة فیما یتعلّق باغتیال الرئیس الحریری یجب أن ینحصر الآن فی مرحلة التحقیق. وبما أنّ عمل المحکمة فی مجال التحقیق هو امتداد لعمل لجنة التحقیق الدولیة التی أنشأها مجلس الأمن بقراره رقم 1595 وأنّ المدّعی العام لدى المحکمة الذی یشرف الآن على التحقیق کان آخر رئیس للجنة التحقیق الدولیة، فلا بدّ من أن نمعن النظر فی مدى مهنیة ونزاهة واستقلال المسؤولین عن التحقیق منذ بدایته.
التجاوزات الهادفة التی ارتکبتها لجنة التحقیق الدولیة، بقیادة دیتلیف میلیس، أوّل رؤسائها، بما فی ذلک مخالفة معظم قواعد التحقیق الجنائی، ان لجهة انتهاک سرّیة التحقیق، أو لجهة بلوغ استنتاجات قطعیة فی اوّل تقاریرها دون الاستناد الى أیّة أدلّة مقبولة قانونیّا، وکذلک اتخاذ اجراءات لا مبرّر قانونیا لها مثل الأمر باعتقال الضبّاط المسؤولین عن الوضع الأمنی فی لبنان. کلّ ذلک بهدف تعبئة الرای العام وتوجیهه نحو الظنّ بأطراف معیّنة واستصدار قرارات من مجلس الأمن الهدف منها سیاسی بامتیاز. وعندما ندرک أن ذلک کان یجری بتناغم مع تصریحات ذات مآرب سیاسیة واضحة لمسؤلین فی الدول الأکثر اهتماما بالاجراءات القانونیة التی أعقبت اغتیال الرئیس الحریری، فهل فی ذلک ما یدفع الى الاطمئنان الى استقلال التحقیق عن الارادات السیاسیة التی هی سبب وجود المحکمة؟
التسریبات التی صدرت بشأن ما زعم أنّه تهم ووقائع بلغها المحقّقون منذ بدایة عمل لجنة التحقیق الدولیة، واستمرّت بعد أن استبعدت السیادة اللبنانیة عن کل ما یتعلّق باغتیال الرئیس الحریری، وأصبح التحقیق جزءا من عمل المحکمة وتحت سلطتها الکاملة، هذه التسریبات تمّ استغلالها اعلامیّا من قبل مسؤلین فی دول ذات مصالح سیاسیة معروفة . فهل فی ذلک ما یعزّز الثقة بمهنیّة المحققین ونزاهتهم واستقلالهم عن الارادة السیاسیة لبعض الدول.
وبالاضافة الى فرادة المحکمة الخاصة بلبنان، مقارنة بالمحاکم الجنائیة الأخرى لجهة تشکیلها واختصاصها والقانون الذی یطبّق فی عملها، فانّ هناک فرادة فی القواعد الاجرائیة التی اعتمدتها خاصة لجهة التستّر على مصادر المعلومات بشأن الأدلّة التی یمکن ان تساق ضدّ المتّهمین اذا لم یشأ المصدر الکشف عن هویّته .
ثمّ ألیس فی تستّر المدّعی العام لدى المحکمة، السیّد بلمار، ومعارضته کشف معلومات محددّة بشأن شهود الزور، أقلّه فی حدود ما أمر به قاضی ما قبل المحاکمة، ما یثیر الشبهات؟ لکنّ جمیع الشکوک تتبدّد ویحلّ محلّها الیقین عندما نقرأ فی وثائق ومستندات نشرتها وکیکلیکس، ولم یجر تکذیبها، عن علاقة بین السید بلمار ومسؤلین أمیرکیین ولبنانیین. فانّ فی هذه المستندات ما من شأنه أن یقضی على کلّ ادّعاء باستقلالیة التحقیق فی المحکمة الخاصة بلبنان. فی احدى هذه الوثائق یطلب السید بلمار من مسؤلین أمیرکیین توجیهات وأسئلة محددة یودّون أن یطرحها على مسؤلین سوریین أثناء قیامه بعمله فی التحقیق مع هؤلاء المسؤلین.
انّ مثل هذا السلوک ینفی کلّ ادّعاء باستقلالیة ومهنیة ونزاهة التحقیق فی المحکمة ویسخر من توصیات مجلس الأمن بأن تلتزم المحکمة أعلى معاییر السلوک المهنی. واذا کان من حرص على استقلالیة المحکمة، فیجب أن یعبّرعنه بالمطالبة بکفّ ید المدّعی العام لدى المحکمة الدولیة الخاصة بلبنان وجمیع الّذین ارتکبوا تجاوزات یحرّمها القانون وابطال نتائج التحقیق الذی قاموا به.
***
المساواة فی تطبیق القانون من أهمّ مقاییس المحاکمة العادلة
لعلّ التزام مبدأ المساواة فی تطبیق القانون وتجنّب الکیفیة فی تفسیره من أهمّ المقاییس الضامنة لمحاکمة عادلة. فازدواجیة المعاییر فی تطبیق القانون ربّما کانت من أهمّ الأسباب التی قضت على ثقة العالم العربی بالعدالة الدولیة. انّ مدى التزام المحکمة الخاصة بلبنان مبدأ المساواة فی تطبیق القانون سوف یکون له أثر هام جدّا فی تقریر مدى نزاهة قضاتها ومهنیّتهم واستقلالهم.
واجب التزام المقاییس التی تضمن بلوغ العدالة لا یبدأ بالمحاکمة، فالمحاکمة تقتصر على النظر فی نتائج التحقیق وما یوضع أمام قاضی الحکم من تهم ووقائع تؤکّدها أو تنفیها. لکن سوف أقتصر فی مداخلتی هنا على مبدأ المساواة فی تطبیق القانون فی معرض معالجة المحکمة لما أتوقّع أن یکون أوّل الدفوع التی سوف تنظر بها، ألا وهو الدفع بعدم قانونیة المحکمة.
أستبعد جدّا أن لا یکون الدفع بعدم قانونیة المحکمة هو أوّل الدفوع التی سوف یدلی بها متّهم یمثل أمام المحکمة، کائنا من کان هذا المتّهم. فغیاب الأساس القانونی للمحکمة لعلّة تجاوز مجلس الأمن صلاحیاته فی انشائها، وبخاصة لجوؤه الى الفصل السابع من المیثاق، انّما هو اعتبار یتمتّع بحظوظ کبرى فی النجاح خاصة اذا توافّر عنصر الاستقامة والثبات على مبدأ المساواة فی تطبیق القانون لدى قضاة الحکم.
ربّ قائل انّ مجلس الأمن بالتحدید، هو جهاز من منظمة دولیة سیاسیة بجوهرها، یتمتّع بصلاحیات واسعة جدّا ولا یخضع فی قراراته لرقابة قضائیة من أیّة سلطة.
الواقع أن عدم وجود آلیة قضائیة نصّ عنها فی میثاق الأمم المتحدة، وتشکّل مرجعیة للطعن بقانونیة قرارات مجلس الأمن، قد شجّع مجلس الأمن، وبخاصة فی اطار الامتیاز الذی تتمتّع به الدول الخمس الدائمة العضویة، أی حق النقض، (الفیتو)، على الکیل بمکیالین فی قراراته وبخاصة المتعلّق منها بالشرق الأوسط.
لا بل انّ غیاب هذه الآلیة قد مکّن مجلس الأمن، فی بعض الحالات، من تجاوز القانون الدولی وبعض نصوص المیثاق المنشئ لمجلس الأمن، ما دفع ببعض الحقوقیین وأساتذة العلوم السیاسیة الى اعتبار مجلس الأمن لا یخضع فی قراراته لأیّة ضوابط قانونیة اللهمّ سوى ما تملیه مشیئة الدول الصانعة لقراراته.
لکنّ المحاکم التی واجهت مهمّة تفسیر قرارات أجهزة الأمم المتحدة وتطبیقها فی حدود ما یجیزه المیثاق، وفی طلیعتها محکمة العدل الدولیة، اعتبرت أنّ الطبیعة السیاسیة الغالبة على قرارات أجهزة الأمم المتحدة لا تمنع المحکمة من ممارسة صلاحیاتها فی تقدیر طبیعة المواضیع التی تطرح علیها والاجابة على الاسئلة التی تحتمل الاجابة القانونیة. وسوف أقصر الکلام على قرار واحد لاحدى محاکم الجنایات الدولیة الخاصة لشدّة ملائمته للموضوع الذی نحن بصدده.
محکمة الجنایات الدولیة الخاصة بیوغوسلافیا سابقا هی أولى المحاکم الخاصة التی انشأها مجلس الأمن (1993 ) معتمدا الفصل السابع من المیثاق کأساس لصلاحیاته فی انشاء تلک المحکمة. أوّل الدفوع التی أدلى بها أحد المتهمین ویدعى داسکو تادجیک، کان الطعن بالأساس القانونی للمحکمة بحجّة أنّ المیثاق لا یمنح مجلس الأمن صلاحیة اقامة مثل هذه المحاکم.
غرفة البدایة لدى المحکمة ردّت الدفع بفقدان الأساس القانونی للمحکمة بحجّة أن لا صلاحیة لها للنظر بقانونیة قرارات مجلس الأمن. ولکن غرفة الاستئناف نقضت قرار غرفة البدایة فی الثانی من تشرین الأوّل عام 1995 واعتبرت أنّ لها اختصاص للنظر فی قانونیة انشاء المحکمة من قبل مجلس الأمن.
الجدیر بالاهتمام هنا هو التعلیل القانونی الذی اعتمدته المحکمة فی قرارها والذی یشکّل سابقة مفیدة جدّا وهدایة للمحکمة الخاصة بلبنان، هذا اذا لم تمارس ازدواجیة فی تفسیر القانون وتطبیقه.
نظرت المحکمة أوّلا فی الحدود القانونیة لصلاحیة مجلس الأمن، فاعتبرت أنّ المیثاق یعطی مجلس الأمن صلاحیّات واسعة جدّا، لکن لا یمکن اعتبارها صلاحیات غیر مقیّدة بحدود. "فمجلس الأمن هو أحد أجهزة منظّمة دولیة أقیمت بموجب اتفاقیة تشکّل الاطار القانونی لها. ومجلس الأمن یخضع للقیود التی حددّتها الاتفاقیة التأسیسیة مهما اتسعت صلاحیاته. ولا یمکن لهذه الصلاحیّات أن تتعدّى حدود الصلاحیات العامة للمنظمة".
ثمّ تعود المحکمة الى المادة 24 من المیثاق التی تفرض على مجلس الأمن القیام بواجباته المنصوص عنها فی المیثاق "وفقا لمقاصد الأمم المتحدة ومبادئها والسلطات الخاصة المخوّلة لمجلس الأمن لتمکینه القیام بهذه الواجبات......" لتؤکّد أنّ المیثاق یتحدّث بلغة الصلاحیات المحدّدة ولیس السلطة المطلقة.
ثمّ تنکبّ المحکمة على تحدید صلاحیّات مجلس الأمن بموجب الفصل السابع الذی اعتمده المجلس لاقامة المحکمة الخاصة بیوغسلافیا سابقا فتقول: أنّ اللجوء الى الفصل السابع یفترض تهدیدا أو اخلالا بالسلم العالمی أوفی حال وقوع عمل من أعمال العدوان. ولئن کان من السهل تحدید أعمال العدوان من الوجهة القانونیة، فانّ تقدیر تهدید السلم العالمی هو أقرب الى کونه مفهوما سیاسیا. "لکنّ تقدیر وجود هکذا تهدید لا یعنی استنسابا مطلقا، اذ یبقى فی ألحدّ الأدنى، فی حدود المقاصد والمبادئ الواردة فی المیثاق."
لکنّ المحکمة استنادا الى هذه المقاییس، اعتبرت أنّ مجلس الأمن لم یتجاوز صلاحیاته فی انشاء المحکمة لأنّ حالة النزاع المسلّح التی سادت فی یوغسلافیا لمدّة طویلة من الزمن کانت تشکّل بالفعل تهدیدا للسلم العالمی یبرّر لجوء مجلس الأمن الى الفصل السابع. وقد ردّت المحکمة حجّة المتّهم بأنّ النزاع المسلّح الذی کان سائدا کان بمثابة ثورة داخلیة ولم یکن نزاعا مسلّحا، واعتبرت انّ بعض الحروب الأهلیة یمکن أن تشکّل تهدیدا للسلم العالمی.
لقد جاء استنتاج المحکمة بهذا الصدد استنتاجا منطقیّا لأنّ جرائم الحرب والجرائم ضدّ الانسانیة التی ارتکبت فی بعض الاقالیم التی کانت تشکّل جزءا من یوغوسلافیا سابقا، وکذلک فی رواندا، وهما الحالتان اللّتان لجأ فیهما مجلس الامن الى الفصل السابع لاقامة محاکم دولیة خاصة، تشکّل بذاتها تهدیدا للسلم العالمی وهذا ما یسلّم به معظم فقهاء القانون الدولی.
لقد اعتمدت المحکمة حالة النزاع المسلّح الذی کان سائدا فی یوغوسلافیا کمعیار لشرعیة لجوء مجلس الأمن الى الفصل السابع فی انشاء المحکمة وردّ جمیع الحجج التی أدلى بها المتّهم تادجیک لجهة غیاب أی دلیل فی المیثاق على صلاحیة المجلس فی اقامة جهاز قضائی.
مهما بلغت بنا الرغبة فی شرعنة قرارات مجلس الأمن فیما یتعلّق بالمحکمة الخاصة بلبنان، وکلّ الاجراءات القانونیة التی سبقتها، فلا یمکن القول أنّ الحالة التی سبقت، أو رافقت أوتبعت اغتیال الرئیس الحریری ترقى الى حالة نزاع مسلّح ارتکبت خلاله جرائم حرب وجرائم ضدّ الانسانیة التی کانت المبرر الأساسی وموضوع عمل جمیع المحاکم الدولیة التی أنشأها مجلس الأمن.
واذا أخذنا أیضا بعین الاعتبار ردود الفعل الشعبیة على الصعید العالمی حیال الفظائع التی ارتکبت أثناء النزاع المسلّح فی یوغوسلافیا سابقا، والتی امتدّت فی المکان والزمان، وکذلک العدید من القرارات العدیدة التی اتخذها المجلس لوقف المجازر التی ارتکبت وجمیع الأسباب الأخرى التی دفعت بمجلس الأمن اللجوء الى الفصل السابع فی انشاء المحکمة الدولیة الخاصة بیوغوسلافیا، نرى أن لا مجال للمقارنة على الاطلاق بین جمیع الحالات التی لجأ فیها مجلس الأمن الى الفصل السابع لانشاء محاکم جنایات دولیة والحالة اللبنانیة التی نحن بصددها.
ولا غرابة فی أنّ خمسة من أعضاء مجلس الأمن، بما فی ذلک اثنتان من الدول الدائمة العضویة فی مجلس الأمن هما روسیا والصین، قد عارضوا أو امتنعوا عن التصویت على القرار الذی انشأ المحکمة الخاصة بلبنان بحجّة أن لا مسوّغ للّجوء الى الفصل السابع من المیثاق.
وهکذا فاذا احترمت المحکمة الخاصة بلبنان، التی یرأسها القاضی أنطونیو کاسیزی الذی کان یرأس کذلک المحکمة الخاصة بیوغسلافیا، مبدأ المساواة فی تطبیق القانون واعتمدت المعاییر التی اعتمدتها تلک المحکمة، فانّه سیکون من الصعب جدّا على المحکمة الخاصة بلبنان ردّ الدفع بانتفاء الأساس القانونی للمحکمة.
واذا اعتبرنا، من وجهة أخرى، أنّ مجلس الأمن لم یکن بحاجة الى اللجوء للفصل السابع من المیثاق فی اقامة المحکمة الخاصة بلبنان لأنّ أساسها القانونی هو اتفاقیة بین لبنان والأمم المتحدة، أو هکذا کان یجب أن یکون، وبالتالی فهی لا تقارن بالمحاکم الجنائیة الخاصة التی أنشأها مجلس الأمن بارادة منفردة وبموجب الفصل السابع، یبقى أنّ الأساس القانونی للمحکمة الخاصة بلبنان هو اتفاقیة غیر مستوفیة الشروط الدستوریة لصحتها ونفاذها.
عاملان أساسیان شکّل غیابهما سببا أساسا لعدم استیفاء الاتفاقیة المنشئة للمحکمة الخاصة بلبنان الشروط الدستوریة: الأوّل تمثّل باستبعاد السلطة اللبنانیة المولجة دستوریّا التفاوض بشأن الاتفاقات الدولیة عن هذا التفاوض، وهذه السلطة هی رئیس الجمهوریة الذی لم تأحذ الجهة الممثلة للأمم المتحدة بأی من ملاحظاته واقتراحاته الخطّیة. والثانی کون الاتفاقیة لم تحظ بموافقة السلطة التشریعیة بحسب الأصول البرلمانیة المتّبعة کما یقضی الدستور اللبنانی، وذلک بسبب خلاف لبنانی داخلی حول الاتفاقیة.
وعلى الرغم من عدم ارتکاب جرائم یعاقب علیها القانون الدولی فی الوضع اللبنانی، کجرائم الحرب والجرائم ضدّ الانسانیة، ما استلزم تطبیق القانون اللبنانی حصرا، وذلک خلافا لجمیع المحاکم الجنائیة الخاصة التی أنشأها مجلس الأمن، فقد لجأ المجلس الى الفصل السابع من المیثاق لاعطاء الصیغة التنفیذیة لاتفاقیة غیر مستوفیة الشروط الدستوریة لصحّتها ونفاذها، مخالفا بذلک قواعد راسخة فی القانون الدولی لجهة صحّة الاتفاقات الدولیة ونفاذها.
انّ المحکمة الخاصة بیوغسلافیا، أثناء النظر فی الحدود القانونیة التی على مجلس الأمن التقیّد بها، اعتبرت، بمنتهى الوضوح، أنّ على مجلس الأمن، بالحدّ الأدنى، فی قراراته التقیّد بالمقاصد والمبادئ الواردة فی المیثاق، أی المادتین الأولى والثانیة من المیثاق.
ویبدو أنّ مجلس الأمن، من خلال لجوئه الى الفصل السابع، أراد أن یمنح نفسه رخصة لمخالفة مبدأ أساسی من المبادئ المنصوص عنها فی المادة الثانیة من المیثاق ( المادة2 (7 الذی یحرّم على الأمم المتحدة التدخّل فی الشؤون الداخلیة للدول "على أنّ هذا المبدأ لا یخلّ بتطبیق تدابیر القمع الواردة فی الفصل السابع". تصرّف مجلس الأمن وکأنّ التقیّد بأحکام الدستور اللبنانی فی ابرام الاتفاقیات الدولیة یشکّل تهدیدا خطیرا للسلم العالمی یقتضی اتخاذ تدبیر قمعی وهو اعطاء الصیغة التنفیذیة لاتفاقیة فاقدة الشروط الدستوریة لصحّتها ونفاذها. من الصعب أن نتصوّر اساءة لاستعمال السلطة وخروجا على الصلاحیات أکثر امعانا من هذه الاساءة وهذا الخروج على الصلاحیات اللذین قام بهما مجلس الأمن.
فلو اعتمدت المحکمة الخاصة بلبنان، بقیادة رئیسها أنطونیو کاسیزی، الاستقامة فی اعتماد مبدا المساواة فی تطبیق القانون وتجنّبت ازدواجیة المعاییر فی النظر بالدفع بعدم قانونیة المحکمة، لخلصت الى أنّ المحکمة تفتقر الى الأساس القانونی فی اقامتها، ولضمنت بذلک لنفسها النزاهة والکفاءة والاستقلال عن القوى والمآرب السیاسیة التی کانت وراء انشائها، ولأعادت الى العدالة الدولیة سمعة باتت بأمسّ الحاجة الیها، ولشارکت بشکل فعلی فی انهاء الازمة اللبنانیة وضمان السلم الأهلی الذی لعبت قرارات مجلس الأمن، بما فیها قرار انشاء المحکمة الخاصة بلبنان، دورا أساسیا فی تهدیده وما جرى ویجری على الأرض یشهد بذلک.
ن/25