qodsna.ir qodsna.ir

کلام لا بد منه فی ثورة مصر

کلام لا بد منه فی ثورة مصر

 

معن بشور

 

فیما أنظار الأمة کلها مشدودة إلى مصر تواکب ثورة شعبها التی یمکن تصنیفها فی موقع الثورات التاریخیة بکل المقاییس، وفیما یتفوق حسنی مبارک ونظامه فی فن الکشف عن الوجه الحقیقی لعهد أمسک بمصیر المصریین لعقود ثلاثة مضیفاً إلى سیاسات التبعیة والخنوع وممارسات الاستبداد والفساد، بعداً إضافیاً هو بعد الإجرام والإرهاب عبر ما شهدناه فی میدان التحریر یوم الأربعاء الماضی، نجد أنه من الضروری أن نقف أمام حصاد أولی للمکاسب الضخمة التی حققتها هذه الثورة حتى الآن.

1. لقد أسقطت هذه الثورة، وقبلها انتفاضة تونس المجیدة، کل محاولات التشکیک بدور الشعوب وقدراتها سواء من قبل حکام استمرأوا الاستبداد والإقصاء، أو حتى على ید "منظری" سلاطین الداخل والخارج ممن احترفوا نهج الاستخفاف والازدراء بالجماهیر.

2. وأسقطت ثورة مصر الشعبیة کذلک منظومة سیاسیة وإعلامیة، وربما فکریة، تمادت على مدى عقود مهمتها التشکیک بدور مصر وشعبها وهویتها وقدرتها، وهو تشکیک ینضوی تحت لواء التشکیک الشامل بالعرب کلهم الذین طالموا جرى وصفهم أنهم "ظاهرة صوتیة" أو أمة "قابلة للاستبداد" فی محاکاة سمجة لنظریة المفکر الجزائری الراحل مالک بن نبی حول "القابلیة للاستعمار".

3. وأسقط شباب مصر عبر ثورتهم الرائعة، وبسالتهم الاستثنائیة، وصمودهم العظیم أیضاً، تلک النظرة الظالمة "الفوقیة والمتعالیة" التی تحکمت بکثیرین فی نظرتهم للشباب، فتوغل فی وصفهم بأنهم شباب غارق فی المیوعة، ومنصرف عن هموم مجتمعه وقضایا أمته، وتقیم حفلات "الندب" على مستقبل الأوطان مع شباب مسکون بملذات الحاضر، فاذا بهؤلاء الشباب ینتفضون، ویقودون مجتمعاتهم، ویبتدعون وسائل تحرکهم وأسالیب صمودهم، ویتجاوزون کل المؤسسات التقلیدیة التی لم تجد مفراً من اللهاث خلفهم.

4. وفی وقت ظن فیه النظام الرسمی العربی عموماً، والنظامان المصری والتونسی خصوصاً، أنه قد نجح فی تدجین القوى السیاسیة، وتجویف الأحزاب وتشتیت الحرکات، وتشویه النقابات، فإذا بالشباب عبر مواقع التواصل فیما بینهم، وعبر المبادرات الخلاقة التی یطلقونها، وعبر اللجان الشعبیة التی یشکلونها، یفاجئون الجمیع بقدراتهم على ملء فراغ أوجده استبداد الأنظمة وترهل التنظیمات، وهو فراغ تأباه الشعوب کما الطبیعة.

5. وفی وقت تباکى کثیرون، لا سیّما على المستوى النظری من غیاب المشروع العربی فی منطقة تتقدم فیها مشاریع أخرى کالمشروع الإیرانی والمشروع الترکی، بل إن البعض حاول أن یعزو ذلک إلى مطامع إیرانیة أو ترکیة دون أن یعتبر أنه نتیجة عجز أنظمتنا ورهن إرادتها للطغاة المستعمرین، تتصاعد الیوم الآمال بأن تقوم مصر الثائرة، ومعها کل مواقع المقاومة والممانعة فی أمتنا العربیة، بإحیاء المشروع العربی المفقود، وهو المشروع المتکامل بالضرورة مع مشاریع الأمم التی تربطنا بها دائرة حضاریة واحدة، کما تشدنا إلیها مصالح ومصائر وتحدیات مشترکة وفی مقدمها التحدی الاستعماری الصهیونی.

6. وفی وقت شکک فیه کثیرون بوحدة العرب ونعوا عروبتهم ومجدوا عصبیات ضیقة، إقلیمیة وطائفیة ومذهبیة، وروجوا لغزائز انقسامیة بالمال والإعلام والتحریض بکل أنواعه، جاءت ثورتا مصر وتونس وما أطلقتاه من تداعیات وتوقعات وتطورات على مستوى الوطن العربی الکبیر لتؤکد مرة جدیدة أن هذه الأمة هی أمة واحدة، وأنها وحدة سیاسیة اجتماعیة تتأثر أجزاؤها کلها بما یواجهه أی جزء منها. فالزلزال الذی ینطلق فی قطر واحد تشمل ارتداداته کل الأقطار، والانتفاضة التی یشعلها شباب بلد ما تصبح انتفاضة الشباب على مستوى الأمة، فکیف إذا کان القطر هو مصر، والانتفاضة هی انتفاضة شباب مصر.

7. لقد روّج منظرو السلاطین "والقوارین"- نسبة إلى قارون- أنه بعد سقوط الأیدیولوجیات، وسقوط الأنظمة الشمولیة، وسقوط الطبقات الإقطاعیة القدیمة، وسقوط الدیکتاتوریة العسکریة، وسقوط الأحزاب والقوى الشعبیة، فإن منطقتنا- حسب هؤلاء- دخلت مرحلة حکم "رجال الأعمال" لأنهم عصریون وناجحون ومتواصلون مع عالم تحکمه منذ نهایة القرن الماضی، اللیبرالیة الجدیدة "النیولیرالیة"، وانعقدت فی ضوء تلک النظریات تحالفات غیر مقدسة بین المال والسلطة، حیث یوصل المال أصحابه إلى السلطة، وحیث تمکن السلطة أصحابها الجدد من أن یغرفوا المزید من الأموال من خزائن الشعوب وعلى حساب عرق المواطنین ودمائهم.

ما حصل فی مصر، وقبله فی تونس، وبعده فی غیر قطر عربی، أظهر أن هذا الحلف غیر المقدس قد بدأ ینهار، وأن خلف أسوار القصور، "ووقار" الحکم وهیبته، تقطن مافیات، "أین منها المافیات المعروفة؟!"، مستعدة لأن تستخدم أبشع الأسالیب والوسائل لکی تبقى حیث هی فی مواقع مص دماء الشعوب وخیراتها. بل تموّل بلطجیة یقتلون الناس بدم بارد فی ما یمکن تسمیته "بفوضى البلطجة الخّلاقة" والتی سماها رئیس الوزراء الفریق أحمد شفیق بأنها "مجرد مشاغبة"، وربما "مداعبة"!!.

فلیس من قبیل الصدف أن یکون مثلا أول "ضحایا" ثورة مصر أحمد عز رمز الفساد والإفساد والتزویر معاً، وأن یضطر مبارک لأن یخرج من "حکومة ما بعد 25 ینایر" وزراء وصلوا إلى مواقعهم عبر مصاعد المال والثروة والفساد، رغم أنهم جیمعاً من "أعز" أصدقاء ابنه ورجاله، والأمر ذاته نراه فی تونس أیضاً رغم محاولات الالتفاف الجاریة حالیاً.

وللمناسبة ینبغی أن نمیّز بین "رجال مال وأعمال" هم أقرب إلى السماسرة وبین رأسمالیین قادوا فی بلادهم نهضة إنتاجیة کطلعت حرب الذی یحتضن میدانه الفسیح فی القاهرة آلاف المتظاهرین الیوم.

8. قبل ثورة مصر وتونس، کان بعض "المعارضین" یبرر الاستقواء بالأجنبی والاستعانة بدبابات الاحتلال لتغییر الأنظمة التی یعارضونها بذریعة عدم قدرتهم على التغییر دون الدعم الخارجی، فإذا بشباب الأمة ومصر وتونس یقدمون نموذجاً للتغییر الصحیح بید الشعوب نفسها، ویسقطون الاستبداد والرهان على الأجنبی. غیر أن المحاولات الأجنبیة، لا سیما الأمریکیة، لرکوب موجة التغییر فی بلادنا "وهی محاولات ندینها ونرفضها لأننا ضد التدخل الأجنبی بکل أشکاله، وأیّاً تکن مبرراته"، هی إقرار بأن الشعوب إذا قررت فإن الأجنبی یلحق بها، فیما کنا نعیش مرحلة یلتحق فیها حکامنا بأذیال الأجنبی ویلهثون وراءه وینصاعون لإملاءاته.

طبعاً لثورة مصر، ومعها ثورة تونس، حتى الآن إیجابیات کثیرة على المستوى السیاسی والشعبی، وقد أشار إلیها العدید من السیاسیین والمحللین، ولا مجال للتذکیر بها الآن، لکن الإیجابیة الأکبر تکمن فی أنها نجحت فی تغییر معادلة جثمت کالکابوس على صدورنا لسنوات، بل لعقود، وهی معادلة "الأنظمة تخیف الشعوب" لتصبح معادلة "الأنظمة تخاف الشعوب".

ن/25

 

 

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 143195