احتضار حزب العمل الصهیونی
عبد اللطیف الحناشی
فجّر وزیر الدفاع الإسرائیلی أیهود باراک، بدایة هذا الأسبوع قنبلة مدوّیة فی الوسط السیاسی الإسرائیلی، وذلک بعدما أعلن فی ندوة صحفیة استقالته من حزب العمل الذی یرأسه، معلناً تشکیل حزب جدید تحت اسم "الاستقلال"، بمساندة أربعة من أعضاء الحزب ممثلین فی الکنیست، وتلى ذلک استقالة ثلاثة وزراء من نفس الحزب من حکومة بنیامین نتنیاهو الائتلافیة، وبذلک أصبح الحزب بلا زعیم وبلا روح ولا برنامج .
ویظهر، حسب بعض الملاحظین، أن باراک قد شعر بنهایة دوره فی الحزب وفی الحکومة فأقدم على هذه الخطوة الاستباقیة دون أن یتحول إلى فریسة یعبث بها منافسوه کما یرغبون.
ویرى بعض المراقبین أن هذه الخطوة ستسهم فی دفع باقی أعضاء الحزب للبحث عن أحزاب أخرى أو تشکیل کتل برلمانیة جدیدة مما یعنی بدایة اختفاء الحزب من الحلبة السیاسیة الإسرائیلیة. أما الأمین العام السابق للحزب ایتان کابل فاعتبر أن "حزب العمل ضلّ طریقه منذ سنوات ولیس باراک سوى حفّار القبر"؛ فی حین یرى آخرون أن الحزب لیس مبنیا على شخص واحد، و بالتالی فإن الأزمة الحالیة ظرفیة وستوفر فرصة لإعادة بناء الحزب على أسس جدیدة..
وبغض النظر عن کل ذلک تمثل هذه الخطوة التی أقدم علیها باراک وجماعته استمرارا للأزمة المزمنة داخل حزب العمل، إذ اتهم باراک قبل فترة أعضاء کتلة حزبه البرلمانیة، بالعمل بکافة الطرق لعزله عن رئاسة الحزب واستطرادا من منصبه الحکومی کوزیر للدفاع، کما وجه اتهامه إلى الوزیر یتسحاق هرتسوغ، بالتخطیط لهذه "المؤامرة" للاستیلاء على منصبه، وذلک عن طریق جمع التوقیعات الحزبیة للتعجیل بموعد انتخابات الحزب بعد الإعلان عن تنافسه على المنصب.
وقد مثل انضمام زعیم نقابات العمال "هستدروت" فی إسرائیل عوفر عینی ووزیر الصناعة والتجارة بنیامین "فؤاد" بن الیعیزر إلى قائمة الشخصیات القیادیة فی حزب "العمل" التی تنادی بعزل وزیر الدفاع أیهود باراک عن زعامة الحزب، سقوطا آخر معاقل التأیید لباراک داخل الحزب وهو ما وصفه البعض "بالزلزال" الذی ینذر ببدایة نهایة طریق باراک السیاسیة".
وکان المئات من الناشطین الشباب فی الحزب قد عبروا منذ أواخر شهر دیسمبر 2010 عن دعمهم لحزب "کادیما". وقدّموا بالفعل نماذج انتساب إلى "کادیما"، وخلال هذا الأسبوع انسحب أیضا عضو الکنیست الإسرائیلی دانیئیل بن سیمون من الحزب وشکّل کتلة مستقلة بعد أن فشل فی إقناع رئیس الحزب الانسحاب من الائتلاف الحکومی بسبب جمود عملیة السلام والبرنامج الاقتصادی للحکومة.
وتجدر الإشارة إلى أن العدید من قادة حزب العمل طالبوا باراک بالانسحاب من الائتلاف الحکومی، برئاسة زعیم "لیکود" الیمینی بنیامین نتنیاهو، وبمشارکة غلاة المتطرفین من أحزاب الیمین المتشدد والمتدینین.
وتمثل خطوة بن سیمون الخطوة الأولى فی صیرورة تفکّک الحزب خاصة بعد انسحاب اثنین من النواب "المتمردین" من الحیاة السیاسیة مع تعثر العملیة السیاسیة مع الفلسطینیین وذلک لقناعتهما بأن باراک لن ینسحب من الحکومة. ومع مرور الوقت أخذ الوزراء الموالون لباراک بالاحتجاج على سلوکه داخل مؤسسات الحزب واتهامه بالدکتاتوریة لکنهم لم یحاولوا توسیع لأسباب مختلفة قد یکون تمسکهم بمناصبهم إحداها...
والواقع أن أزمة حزب العمل قدیمة تراکمت أسبابها منذ سنین طویلة وتحولت إلى أزمة حادة ذات طبیعة مرکبة تنظیمیة وهیکلیة وتعود فی جذورها إلى أواخر السبعینات من القرن الماضی وتجسدت سیاسیا منذ سنة 2001، وذلک بعد تراجع وزن الحزب فی الانتخابات العامة والإطاحة بباراک من رئاسة الحکومة الأمر الذی انعکس على هیاکل الحزب واستقرار القیادات داخله، من ذلک تغییر ستة زعماء للحزب فی غضون ثمانی سنوات کما غادره عدد من رموزه التاریخیین "زعیمه السابق شمعون بیریز وحاییم رامون ودالیة ایتسیک" وانضمام البعض منهم إلى حزب "کدیما" واعتزال آخرین للحیاة السیاسیة، فی الوقت الذی تراجع التمثیل البرلمانی للحزب بعد حصوله على 13 مقعداً لیصبح الحزب الرابع فی إسرائیل، بالرغم من أنه أعرق الأحزاب الإسرائیلیة ومؤسس الدولة العبریة التی حکمها لنحو أربعة قرون...
ویفسر بعض الباحثین المختصین هذا التراجع الدراماتیکی للیسار عامة وحزب العمل خاصة بعدة عوامل نذکر منها:
* المیل الواسع لقطاعات اجتماعیة عدیدة نحو الیمین المتشدد الذی بات ممثلوه یحظون بغالبیة تکاد تکون مطلقة فی الکنیست بتأثیر الانتفاضة الثانیة.
* التغییرات الجذریة التی طرأت على المفاهیم والمواقف الاجتماعیة والاقتصادیة والسیاسیة لحزب العمل، وخاصة مواقف زعمائه الذین تبنوا فی معظمهم وجهات نظر ومواقف سیاسیة یمینیة، وتواطؤ الحزب مع الیمین وذلک بتبنیه مواقف لیبرالیة جدیدة، أی الخصخصة على الصعید الاجتماعی والاقتصادی من أجل أن یضمن مقاعد لقادته فی الحکومة، الأمر الذی أفقده قاعدته الاجتماعیة العریضة وخاصة، جماعات الکیبوتزات التی فقدت مخصصات الرفاه الاجتماعی، وهو ما ساهم بصعود الیمین والیمین المتطرف وساعد على ازدیاد شعور الناس بعدم الأمن الاقتصادی.
* حدوث تغییرات دیمغرافیة کبیرة فی إسرائیل أدت إلى تعاظم وزن القطاعات الجماهیریة التی یفتقد فیها الیسار للمؤیدین، مثل المتدینین والمهاجرین الجدد...
* کما یعتقد البعض أن جمود المسیرة السیاسیة التفاوضیة بین حکومة بنیامین نتنیاهو وحکومة رام الله، قد ساهمت، فی حدود معینة، فی تفکک حزب العمل وذلک بإحداث فجوة بین المواقف التی ادّعى الحزب تمثیلها، وسیاسة الحکومة التی شارک فیها. إذ فضّل أیهود باراک الارتباط السیاسی مع بنیامین نتنیاهو، حتى وإن کان "بمکانة شریک ائتلافی صغیر، على أن یتمکن من الاحتفاظ بحقیبة الدفاع..".
وبالرجوع إلى استقالة باراک وتأسیسه لحزب "الاستقلال" وتداعیاتها یشیر بعض الملاحظین إلى أن الساحة البرلمانیة الإسرائیلیة ستعرف خریطة جدیدة ستعزز بالتأکید موقع معسکر الیمین والیمین المتطرف فی الحکومة، الأمر الذی سینعکس بالضرورة على مستقبل العملیة التفاوضیة أکثر من ذی قبل. کما سیساهم ذلک فی اتساع المخططات الاستیطانیة وانفلاتها. وبالنتیجة، یقول المراقبون، إن باراک قد تمکن بحرکته تلک من إنقاذ حکومة الیمین والیمین المتطرف، وهو أمر یبدو طبیعیا فی السیاسة الإسرائیلیة. فحزب العمل الإسرائیلی الذی یعتبر أو یوصف فی الأوساط الاشتراکیة العالمیة بأنه حزب "الیسار الصهیونی"، بالتوصیف التقلیدی الأوروبی للکلمة، نظرا لعضویته فی منظومة "الاشتراکیة الدولیة" هو غیر ذلک فی الواقع، ولا یؤشر سلوکه السیاسی ولا برنامجه على أنه حزب یساریّ بالمعنى المتعارف علیه عالمیا.
فالیسار بقیمه الحقیقیه الملتزم بالنضال ضد الاحتلال مثلا یکاد یکون مفقودا على المستوى التنظیمی والأیدیولوجی فی إسرائیل. ففی ظل حکم حزب العمل مثلا خاضت الدولة الصهیونیة کافة الحروب العدوانیة ضد العرب، وهی الحروب التی احتلت فیها إسرائیل أراضی من الدول العربیة وما تبقى من فلسطین، باستثناء الحرب على لبنان فی العام 1982، التی تمت فی فترة حکم "اللیکود"، ولکن بدعم حزب "العمل" المعارض فی حینه. کما أصبحت أغلب الاتجاهات والأحزاب السیاسیة الصهیونیة الآن بما فی ذلک الیمین الإسرائیلی تؤید قیام دولة فلسطینیة حتى وإن کان هذا المفهوم مشوها وفاقدا للسیادة والاستقلال، وبذلک لم یعد "مطلب" الدولة ثنائیة القومیة حکرا على الیسار کما کان علیه الحال من قبل.
کما أن حزب العمل لم یعارض التوسع الاستیطانی ولم یمارس أی ضغوطات باتجاه تقلیصه بل ازداد الاستیطان أکثر فأکثر أثناء فترة رئاسة أیهود باراک للحکومة. کما یلتقی حزب العمل مع الیمین والیمین المتطرف فی عدة ثوابت إستراتیجیة من ذلک تقدیس الجیش واعتباره أداة حرب وبناء الأمة والتمسک بالعلاقات الأمریکیة الإسرائیلیة کرکیزة إستراتیجیة، على الصعیدین الإقلیمی والعالمی، والتأکید على یهودیة الدولة، بما یعنی الحفاظ على أکثریة یهودیة وتشجیع الهجرة الیهودیة والحفاظ على العلاقة الجوهریة مع "یهود الشتات" ورفض حق العودة للفلسطینیین.. وعدم الانسحاب من القدس الشرقیة وخصوصا من منطقة البلدة القدیمة وعدم الانسحاب إلى حدود الرابع من حزیران العام 1967..
والواقع أن باراک کان صادقا وصریحا، فی ندوته الصحفیة الأخیرة، وذلک بعد أن کشف عن هویته السیاسیة والأیدیولوجیة الحقیقیة التی تستر علیها طویلا وذلک عندما صرح أن انحراف حزبه نحو الیسار، وما بعد الصهیونیة کانت سببا لاستقالته من الحزب وأنه یرغب فی العودة إلى تقالید حزب "المبای"، الحزب الذی هجّر الفلسطینیین واقتلعهم من أرضهم وخاض جمیع الحروب ضد العرب، ونحن لا نشک لحظة فی أن ما تبقى من حزب العمل وسیلتحق أعضائه بحزب باراک موت حزب العمل واندثاره أصبح مسألة وقت خاصة وأن انزیاح المجتمع الإسرائیلی إلى الیمین السیاسی بکل أطیافه أصبحت بدورها حقیقة ملموسة لا جدال فیها فی دولة الشعب المختار...
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS