حق العودة وحق کسر السیاج
بقلم: الدکتور محسن صالح مدیر عام مرکز الزیتونة للدراسات والاستشارات
تساءل الفتى عماد (12 عاماً) مستغرباً، عندما رأى أمه تجهز بعض الشطائر لتناولها أثناء المسیرة التی تزمع العائلة المشارکة فیها یوم 15/5/2011، إلى حدود فلسطین المحتلة مع جنوب لبنان "لماذا الطعام؟ لن یکون لدینا وقت لتناوله، ألسنا ذاهبین الیوم لنستشهد فی فلسطین؟"
الرسالة التی حملها هذا الفتى وأمثاله، أعطت لذلک الحدث طعماً مختلفاً، فقد شکلت مسیرات العودة الحاشدة التی اتجهت إلى حدود فلسطین المحتلة سنة 1948 (أو ما صار یُعرف بـ"إسرائیل") علامة فارقة فی التعامل الفلسطینی مع ملف حق عودة اللاجئین الفلسطینیین إلى أرضهم.
مسیرات العودة نقطة تحول
الجموع التی خرجت فی وقت واحد فی لبنان وسوریا والأردن والضفة الغربیة وقطاع غزة، والشهداء الذین ارتقوا وهم یحاولون اختراق السیاج الحدودی، عبروا عملیاً عن ثلاثة مؤشرات مهمة:
الأول: تحویل قضیة حق العودة من قضیة نظریة إلى برنامج عملی، والانتقال من التحدث عنه بطریقة عاطفیة أو قانونیة إلى سلاح یفرض نفسه على الأرض. وربما أعطى ذلک رسالة طمأنة للدول المضیفة القلقة من موضوع التوطین، أن اللاجئ الفلسطینی متمسک بأرضه، وأن بقاءه مرهون فقط بإمکانیة عودته.
الثانی: انتقال قضیة العودة إلى الجیل الثالث من اللاجئین، بشکل قوی وحیوی، یؤکد أن هذه القضیة لم ینسها أصحابها، بل إنهم باتوا أکثر استعداداً للموت فی سبیلها، وفی استخدام وسائل وأدوات جدیدة مؤثرة، وإن کانت مُکلّفة، لم یستخدمها حتى آباؤهم وأجدادهم. کانت الأعداد الکبیرة المشارکة من فئة الشباب العمریة رسالة قویة وحاسمة، فقد مثلت الأغلبیة الواسعة للمشارکین، وقدَّمت کل الشهداء والجرحى تقریباً. لم یحصل ما تمناه قادة الکیان الصهیونی أن "الکبار سیموتون، وأن الصغار سینسون". وبقدر ما أنعشت هذه الرسالة آمال المعنیین بحق العودة، بقدر ما أصابت الجانب الإسرائیلی بالقلق والإحباط.
الثالث: أن مرکز الثقل فی العمل الوطنی الفلسطینی تحوَّل منذ سنة 1987 (منذ بدء الانتفاضة المبارکة) إلى الداخل الفلسطینی، واستمر کذلک حتى الآن؛ بعد أن کان مترکزاً بشکل أکبر خارج فلسطین.
غیر أن المسیرات الأخیرة تعطی مؤشرات جدیدة على إمکانیة عودة الحیویة لدور فلسطینیی الخارج، فی تبنی برامج والقیام بأعمال کانت فی نطاق ما هو محظور ومستبعد طوال الأعوام الخمسة والعشرین الماضیة.
ولعل ما یعین على ذلک، حالة التحول التی یشهدها العالم العربی، والتی قد تفتح آفاقاً إما لتوفیر فضاءات إستراتیجیة مؤیدة للمقاومة أو مؤیدة لتفعیل برامج حق العودة؛ کما قد ترتخی قبضات الأنظمة على الحدود مع الکیان الإسرائیلی (راغبة أو راغمة) بسبب سیاساتها الجدیدة أو بسبب مشاکلها الداخلیة.
حق العودة
أن یعیش الإنسان فی بیته وعلى أرضه وبحریة وکرامة، هو إحدى البدیهیات والمسلمات التی یُجمع علیها البشر على کافة أدیانهم وأجناسهم، کما تجمع علیها الشرائع والقوانین الدولیة. وهو حق تتم ممارسته بشکل طبیعی لا یقبل النقاش فی کل مکان فی الکرة الأرضیة. ویشکل حرمان الفلسطینیین من حقهم فی العودة إلى بیوتهم وأرضهم الوضع الشاذ الوحید فی العالم.
ومشکلة اللاجئین الفلسطینیین هی الأقدم من ناحیة قضایا اللاجئین التی لم تُحل حتى الآن، فهی تعود إلى سنة 1948. وفی الوقت الذی یستطیع فیه الرواندیون والأرمن والأفغان والبوسنیون العودة إلى منازلهم، فلیس بإمکان اللاجئ الفلسطینی العودة بعد مرور نحو 63 عاماً على تشریده.
وقضیة اللاجئین الفلسطینیین هی الأکبر من ناحیة عدد اللاجئین قیاساً بمجموع الشعب؛ إذ یقیم خارج فلسطین التاریخیة نحو خمسة ملایین و750 ألف لاجئ، کما یقیم فی الضفة الغربیة وقطاع غزة نحو ملیون و800 ألف لاجئ من فلسطینیی 1948، أی نحو سبعة ملایین و550 ألفاً من أصل 11 ملیوناً و 100 ألف هم مجموع الشعب الفلسطینی فی مطلع سنة 2011، أی أن أکثر من ثلثی الشعب الفلسطینی هم من اللاجئین. ومأساة اللاجئین من جهة ثالثة هی الأکثر، من بین کل القضایا، التی حصدت قرارات دولیة من الأمم المتحدة تؤید حقهم فی العودة. فمنذ صدور قرار رقم 194 وحتى الآن، تم تأکید هذا القرار بقرارات متجددة وبأشکال مختلفة أکثر من 120 مرة. وهو حق العودة لفلسطین المحتلة سنة 1948، ولیس متعلقاً بالضفة والقطاع فقط.
هذا الحق بکل ما فیه من قوة وبساطة ووضوح وإجماع هو حق مُعطَّل بسبب غطرسة القوة التی یمارسها الإسرائیلیون، وبسبب الدعم الأمیرکی والغربی للموقف الإسرائیلی، ولأنه یتم التعامل معهم کدولة فوق القانون. لم تهتز شعرة لدى الإدارة الأمیرکیة عندما نفذت العصابات الصهیونیة 34 مذبحة وقامت بتهجیر أکثر من 800 ألف فلسطینی (من أصل ملیون و390 ألف فلسطینی) سنة 1948 قسراً من أرضهم. ولم تنشغل أمیرکا وحلفاؤها طوال الفترة الماضیة بتطبیق أی من شعاراتها وقیمها المرتبطة بحقوق اللاجئین، ولم تکن معنیة بحل مشکلة اللاجئین الفلسطینیین، بقدر ما کانت معنیة بحل مشکلة الإسرائیلیین فی مواجهة استحقاق حق العودة.
المنطق الإسرائیلی یتحدث عن أن تطبیق حق العودة سیعنی نهایة المشروع الصهیونی وفقدان "إسرائیل" صفتها الیهودیة، وأنه لا معنى لتنفیذ مشروع تسویة سلمیة إذا أصرّ الفلسطینیون على هذا الحق. ولکن هل کان هناک أی منطق عندما کان یأتی مهاجرون یهود من أشتات الأرض تحت حمایة البنادق البریطانیة، لیقیموا فی فلسطین غصباً عن أهلها ولیتضاعف عددهم 13 مرة (من 50 ألفاً سنة 1918 إلى 650 ألفاً سنة 1948). وهل کان هناک منطق فی اقتلاع شعب فلسطین وتهجیره من أرضه التی عاش فیها أکثر من 4500 عام، لیحصل الیهود على غالبیة مزورة ممهورة بدماء وأشلاء الفلسطینیین. وهل المنطق أن یحرم الفلسطینیون من مجرد حق العودة (کأی مدنیین یعودون لمساکنهم بعد انتهاء الحرب) لمجرد أن المشروع الصهیونی فشل فی توفیر أغلبیة یهودیة، هذا إذا سلمنا جدلاً "بحق" هؤلاء الیهود فی الهجرة والإقامة فی فلسطین؟
السیاج وما بعد السیاج
المسیرات التی حدثت فی 15/5/2011 لم تتمیز فقط بمشارکة شبابیة واسعة، وإنما بمشارکة کافة الفئات العمریة، وبمشارکة اللاجئین فی عدد من الأقطار والأماکن فی وقت واحد، وباتساع نسبة المشارکة. وربما کان أبرز ما فیها هو ما لم یخطط له منظموها، وهو اختراق السیاج الحدودی، ورفع العلم الفلسطینی علیه.
فی لبنان تجاوز عدد المشارکین ثلاثین ألفاً، ووفق تقدیرات بعض منظمی المسیرة فإن العدد وصل إلى نحو 55 ألفاً، بینما لم یستطع الآلاف القدوم لعدم توفر وسائل المواصلات. والمعنویات کانت عالیة قبل المسیرة وأثناءها وبعدها، بالرغم من أن معظم المشارکین ساروا على أقدامهم من خمسة إلى 16 کیلومتراً (وبینهم أطفال ونساء وشیوخ).
تُرى؟ هل انکسر بُعبع الحدود؟ وتعرَّت "القدسیة" المزورة للأسیجة التی تحیط بفلسطین؟ وهل وضع الفلسطینیون یدهم على سلاح کانوا یخشون استخدامه لسنوات طویلة، ربما لسبب قسوة الأنظمة العربیة (المتباکیة على حق العودة والمرعوبة من التوطین)، إلى جانب السلوک المنتظر من الإسرائیلیین.
کسر الفلسطینیون السیاج، وانکسر جدار الخوف الذی بنته "إسرائیل" کما بنته الأنظمة العربیة. وتحقق انتصار معنوی. ولکن بقی السؤال قائماً فهل کان الأمر مجرد موقف؟ أم أنه سیتحول إلى برنامج عمل؟
إنه سؤال ما بعد السیاج. فهل یمکن تحقیق تعبئة جماهیریة واسعة، تستخدم "سلاح الجموع" تخترق الحدود وترفض الخروج تنفیذاً لحق طبیعی فی العودة یلقى الدعم الشعبی والقانونی العالمی؟ وتضع موضوع اللاجئین سیاسیاً وإعلامیاً على نار ساخنة؟
وإلى أی مدى ستوغل "إسرائیل" فی دماء الفلسطینیین المُصرِّین على العودة؟ وهل یمکن الاستفادة من تجربة مبعدی مرج الزهور الـ 415 الذین أبعدتهم "إسرائیل" أواخر 1992، ولکنهم بصمودهم وثباتهم وإصرارهم على البقاء على الحدود، کسبوا المعرکة السیاسیة والمعرکة الإعلامیة، کما کسبوا معرکة حقهم فی العودة إلى فلسطین فعادوا بعد نحو سنة من إبعادهم؟!
لیس الأمر مجرد تفکیر رغائبی وأحلام یقظة، ولکن من حق اللاجئین، الذین تمّ تضییع وتجاهل قضیتهم لأکثر من ستین عاماً، أن یفکروا من خارج "الصندوق"، وأن یخرجوا عن الإطار التقلیدی للمبادرات والمواقف التی هی أقرب للمُسکِّنات، منها إلى حلول فعالة جادة.
قلق إسرائیلی
الجانب الإسرائیلی عبَّر عن قلقه وارتباکه من مواجهة مسیرات مشابهة لتلک التی حدثت یوم 15/5/2011. واعترف بالأثمان الباهظة التی یمکن أن یدفعها إذا ما أصرَّ على استخدام قوة السلاح فی منع جموع الفلسطینیین من کسر السیاج الحدودی؛ وهی أثمان تحمل تبعات سیاسیة وإعلامیة وقانونیة کبیرة.
والفلسطینی الذی یصرّ على العودة وبیده صک ملکیة أرضه (الکوشان) ومفتاح بیته، یعید طبیعة الصراع مع المشروع الصهیونی إلى جوهره، ویکشف أن الأمر لیس مجرد اختلاف على حدود 1967، وأن القضیة تکمن فی ذلک الإنسان الذی جرى اقتلاعه وتهجیره وتهمیشه وحرمانه من أبسط حقوقه، فضلاً عن أنها تکشف عن الوجه القبیح لکیان غاصب قائم على شقاء الفلسطینیین وآلامهم. ولذلک، لم یبتعد موشیه یعلون، وزیر الشؤون الإستراتیجیة فی الحکومة الإسرائیلیة، کثیراً عن الحقیقة عندما قال إن أحداث النکبة فی داخل "إسرائیل" وعلى حدودها تثبت أن الصراع لیس على حجم "إسرائیل"، وإنما على وجودها. کما أن القائد العسکری الإسرائیلی للمنطقة الشمالیة قال إن ما حدث هو مقدمة لأحداث مستقبلیة، وأن المهلة المتبقیة لاستخلاص العبر قصیرة جداً.
احتمالات مستقبلیة
یظهر أن الفلسطینیین أمام ثلاثة احتمالات للتعامل مع الحدث:
1- الاکتفاء بما جرى فی 15/5/2011 واعتباره نقطة مضیئة، وموقفاً جریئاً، یضاف إلى مواقف وتاریخ الشعب الفلسطینی فی الصمود والنضال.
2- التأسیس لعملیة تسخین سیاسی منهجی واعٍ، یلتقطها الشباب الفلسطینی والفصائل الفلسطینیة لابتکار وسائل ضغط سیاسیة وإعلامیة وقانونیة جدیدة فی مجال حق العودة.
3- تجاوز حدود "المعقول" أو "المعتاد" حتى الآن، والاندفاع باتجاه عملیة تجییش شعبی فی مناطق اللجوء، وخارج الحسابات التقلیدیة، لتسعى جموع اللاجئین لفرض واقع جدید من خلال کسر السیاج أو على الحدود، بحیث تصبح القضیة محط أنظار العالم، ولا یمکن تجاوزها. وهو أمر مرتبط أولاً بارتخاء القبضة الأمنیة العربیة على الحدود، قبل غیره من الأمور.
التوظیف والاستثمار
لن یخوض هذا المقال کثیراً فی اللغط الذی حدث حول الاستثمار السیاسی الذی حاولت بعض الأطراف تحصیله من خلال السماح للاجئین بتنفیذ المسیرات، خصوصاً فی لبنان وسوریا. فحتى لو کان هناک استفادة سیاسیة تحققها هذه الأطراف فإن ذلک لا یعنی الاندفاع باتجاه إلغاء المسیرات، إذ أن المکاسب التی یحققها اللاجئون أنفسهم هی أکبر بکثیر مما یحققه أی طرف آخر، وأن نقاط الاتفاق والتقاطع مع أیة قوى ینبغی أن تکون محفزاً للعمل، لا سبباً فی تعطیله. ولتتفضل السلطات على الحدود الأخرى مع "إسرائیل" فتسمح للاجئین بتنفیذ برامجهم، و"مبروک" علیها المکاسب السیاسیة التی ستحققها!! ما دام الأمر جزءاً من نضال اللاجئین، ولیس بالضرورة جزءاً من برامج الأنظمة.
المهم أن یتم تسخین موضوع حق العودة، وأن یتم قطع الطریق على من یرید إلغاءه أو تضییعه. وحتى لا تکون المسیرات وبرامج حق العودة عرضة للتضییع أو التوظیف السیاسی والإعلامی غیر الصحیح، فإن الواجب یقتضی أن تتم مأسسة هذه التحرکات والبرامج، وأن یتم تنفیذها وفق رؤیة واعیة موضوعیة وجریئة. وأن یتم إعطاء أکبر حریة ممکنة للشباب لأخذ زمام المبادرة، والخروج عن النسق التقلیدی المقولب لهذه البرامج.
ولتکن الإجابة للفتى عماد أننا لن نذهب فقط لنستشهد فی فلسطین، وإنما لننتصر فی فلسطین.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS