هجمة جواسیس اسرائیل على مصر
عبد الباری عطوان
الثورة الشبابیة المصریة التی انطلقت من میدان التحریر فی القاهرة وامتدت الى مختلف المدن والقرى والنجوع الاخرى لم تفاجئ العالم بانتصارها ودأب ابنائها وصبرهم فحسب، وانما بتغییر وجه مصر السیاسی، وقلب معادلات القوة وتحالفاتها فی المنطقة العربیة، والاهم من ذلک بدء مسیرة اعادة صیاغة العلاقة مع المحتل الاسرائیلی.
ومن هنا کان من الطبیعی ان تتآمر جهات عدیدة لاجهاض هذه الثورة، وحرفها عن مسارها، وتفریغها من محتواها الوطنی والانسانی، وتقف اسرائیل على رأس هذه القوى المتآمرة، جنبا الى جنب مع بعض الحکومات العربیة التی تعارض التغییر الدیمقراطی، وترید قتل المشروع العربی، وابقاء مصر دولة ذیلیة تابعة لمشاریع الهیمنة الامریکیة فی المنطقة.
لم یفاجئنا اعلان السلطات القضائیة المصریة الصادر یوم امس عن القاء القبض على جاسوس اسرائیلی یدعى ایفرلان غرین، برتبة ضابط فی جهاز المخابرات الاسرائیلی 'الموساد' بتهمة محاولة تجنید شبان مصریین للقیام بأعمال تخریب وبذر بذور الفتن الطائفیة، لهز استقرار البلاد، واشعال نیران الحرب الطائفیة، وتخریب نسیجها الاجتماعی، وشق وحدتها الوطنیة.
هذا الجاسوس الذی افادت المصادر القضائیة بانه کان یتواجد فی میدان التحریر فی القاهرة منتحلا اسما مستعارا، کان یحرض المصریین فی المیدان على مهاجمة الکنائس لتأجیج نیران الصراع الطائفی، وتصعید الصدامات بین الاقباط واشقائهم المسلمین، ویشتری ذمم بعض الضعفاء بالاموال التی کان یوزعها علیهم.
مصر الثورة مستهدفة لانها لم تعد ذلیلة امام المحتل الاسرائیلی، او تابعة للمشاریع الامریکیة، او متورطة فی مؤامرات لتشدید الحصار على قطاع غزة وخنق ملیونی عربی ومسلم، وبیع الغاز بثمن بخس للاسرائیلیین، ولهذا فان من الطبیعی ان یرسل الاسرائیلیون جواسیسهم الیها لدعم الثورة المضادة التی ترید اعادة عقارب الساعة الى الوراء، وبما یؤدی الى تسلیم مصر مجددا الى مافیات الفساد والقمع ونهب المال العام.
ولیس صدفة ان تکون کنائس مصر هدفا للمخططات الاسرائیلیة، فی المرحلة القریبة التی سبقت اندلاع الثورة، واثناءها، فقد شاهدنا مجزرة کنیسة القدیسین فی الاسکندریة لیلة رأس السنة الماضیة تتم بترتیب من قبل اللواء الحبیب العادلی وزیر الداخلیة السابق الذی یقبع حالیا خلف القضبان، ثم محاولة حرق کنیسة امبابة، وانفجار الصدامات الطائفیة بین المسلمین والاقباط.
' ' '
الاصابع الاسرائیلیة لم تتوقف مطلقا عن اللعب بالنار فی الشؤون الداخلیة المصریة، مثلما فعلت فی العراق ولبنان والاراضی الفلسطینیة المحتلة، والکنائس دائما احد اهدافها، من اجل تحریض المسیحیین ضد اشقائهم المسلمین، والایحاء بان التعایش الاسلامی المسیحی غیر ممکن بل مستحیل. ولذلک لم یکن غریبا ان یلعب اللوبی الاسرائیلی الدور نفسه ضــــد الاقلیات الاســــلامیة فی الغــــرب، من حــــیث محاولة إلصاق تهمــة الارهاب بها، وتنفیر المجتمعات الغربیة منها باعتبارها مصدر الخطر على امنها، وتأکید مفاهیم خاطئة حول عدم تعایش الاسلام والدیمقراطیة.
الثورة المصریة قلبت کل الحسابات الاستراتیجیة الاسرائیلیة رأسا على عقب بعد اربعین عاما من الاطمئنان الى خنوع الانظمة العربیة، وتخلیها عن سلاح المقاومة، ودعمها لمسیرة سلمیة عرجاء ومزورة. فقد بدأنا نسمع اصواتا لمحللین استراتیجیین اسرائیلیین یتحدثون عن ادخال تغییرات على العقیدة والاولویات العسکریة الاسرائیلیة تضع مصر على رأس قائمة الاعداء مجددا.
انتقال مصر بفضل الثورة من سمسار السلام الموبوء فی المنطقة مثلما کان علیه الحال فی عهد الرئیس المخلوع مبارک وحکمه الذی امتد ثلاثین عاماً، الى دولة قرارها مستقل وسیادی یضع مصالح الامة والعقیدة على قمة الاولویات، یضع اسرائیل فی موقف محرج یربک جمیع حساباتها السابقة.
وتکفی الاشارة الى ان انتقال مصر من خانة الاصدقاء الى خانة الاعداء وفق الحسابات الاستراتیجیة الاسرائیلیة الجدیدة، سیکلف الخزینة الاسرائیلیة حوالى عشرین ملیار دولار على الأقل لما یملیه ذلک من اعادة تسلیح للجیش الاسرائیلی وتطویر استعداداته الدفاعیة على الجبهة الجنوبیة المصریة.
ولعل أبرز نقاط التغییر فی المعادلة الاستراتیجیة الاسرائیلیة تجاه مصر هو تکثیف اسلحة التجسس لتقویض الامن المصری من الداخل، وبأدوات مصریة اذا تأتى ذلک، فقبل عام اکتشفت اجهزة مکافحة التجسس المصریة شبکة بقیادة شاب مصری جرى تجنیده من قبل الموساد الاسرائیلی اثناء دراسته فی الصین، وأدت اعترافاته بالتجسس على منشآت مصریة، وأبرزها شبکة الاتصالات، وهواتف کبار الضباط الى تفکیک ثلاث خلایا للموساد فی لبنان وسوریة.
' ' '
اکتشاف دور الجاسوس الاسرائیلی الجدید فی مصر امر جید یکشف یقظة الاجهزة الامنیة المصریة فی وقت تنشغل فیه فی التصدی لمؤامرات اتباع الثورة المضادة ورجالات الرئیس المخلوع، ولکن السؤال الذی یطرح نفسه بقوة هو حول عدد الجواسیس الذین زرعتهم الاجهزة الاسرائیلیة ومازالوا طلقاء یواصلون اعمالهم التخریبیة، الأمر الذی یجب ان یدفع الشعب المصری وفئاته الشعبیة کافة، والنشطاء الاقباط والمسلمین على وجه الخصوص لأخذ کل اجراءات الحیطة والحذر لتجنب الوقوع فی حبائل هؤلاء ومؤامراتهم على بلدهم. فالعمیل الاسرائیلی غرین کان یتردد بشکل مستمر على اماکن العبادة، وکانت کنیسة امبابة وقریة صول اللتان شهدتا صدامات طائفیة دمویة من الاماکن التی تردد علیها بشکل مکثف.
اسرائیل لم تحترم، ولن تحترم، معاهدات السلام مع مصر او غیرها من الدول العربیة، ولا یمکن ان ننسى ارسالها ثلاثین عمیلاً للموساد لاغتیال الشهید محمود المبحوح فی امارة دبی واستخدام جوازات سفر بریطانیة وفرنسیة والمانیة وکندیة وایرلندیة مزورة لتنفیذ هذه الجریمة، فاذا کانت لا تحترم اکبر حلفائها وداعمیها، ومعاهداتها واتفاقاتها الامنیة معهم فهل یمکن ان تحترم معاهدات سلامها مع الدول العربیة؟
نجد لزاماً علینا التنبیه الى ان الاسرائیلیین الذین یلعبون دوراً کبیراً فی قیادة وتوجیه الثورة المضادة فی مصر یرکزون على اهداف عزیزة ابرزها ضرب الامن القومی المصری، وتحریض العالم الغربی، وامریکا على وجه الخصوص، ضد مصر، ومحاولة احداث شرخ کبیر بین شباب الثورة والمجلس الاعلى للقوات المسلحة، وتعاظم الجهد فی هذا الاطار بعد نجاح العهد المصری الجدید فی تحقیق المصالحة الفلسطینیة وکسر الحصار الظالم على ابناء قطاع غزة بفتح معبر رفح بشکل دائم، ومعارضة ای هجوم اسرائیلی على القطاع.
مصر الثورة ستقاوم مثل هذه المؤامرات ولا یخامرنا ای شک فی ذلک بفضل وعی شعبها وشباب ثورته على وجه التحدید، هؤلاء الشباب الذین یمثلون 'بولیصة تأمین' للحفاظ على انجازات ثورة میدان التحریر من خلال مظاهراتهم الملیونیة فی کل مرة یرون انحرافاً عن اهدافها ومبادئها، لن یسمحوا مطلقاً بخطف ثورتهم ونجاح الثورة المضادة.
ما لا یعرفه الاسرائیلیون والامریکیون، وبعض الدول العربیة المعادیة للتغییر الدیمقراطی، ان مصر عادت الى ابنائها اولاً، والینا ای العرب والمسلمین ثانیاً، وان لا رجعة الى الوراء مطلقاً، فلیس امام مصر وشعبها غیر الصعود الى اعلى، الى الکرامة والمجد والریادة والقیادة. فانتصار الثورة فی مصر هو انتصار الربیع العربی حتى لو تباطأ او تأخر قلیلاً.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS