الثورات العربیة والمصالحة السیاسیة: فلسطین نموذجا
زهیر الخویلدی
"یجب علینا أن نفکر کیف نعطی لأفکارنا أقصى ما یمکن من فعالیة، وأن نعرف الوسائل التی یستخدمها الاستعمار لینقص ما یمکن من فعالیة أفکارنا؟" "مالک بن نبی، الصراع الفکری فی البلاد المستعمرة، دار الفکر، دمشق، طبعة 1986، ص.19".
تشتعل الثورة العربیة یوما بعد یوم ویتصاعد لهیبها من بلد الى آخر وتتداعى تأثیرتها على المنطقة وعلى العالم رویدا رویدا. وینظر المراقبون الى القوى السیاسیة العربیة على مستوى الأداء والحضور والابداعیة فی البرامج والتکتیکات، ویلاحظ بروز العدید من المفارقات:
أولها هو اخفاء الرموز الحزبیة أثناء الثورة والاندماج فی الفعل الثوری المشترک والانخراط فی العمل الجبهوی والمساهمة فی قومة الشعب الموحد ولکن بعد ذلک حصلت الانتعاشة الایدیولوجیة وظهر مجددا الاصطفاف الحزبی وعاد منطق الاستعداء والتنازع بین المجموعات بعد اسقاط النظم الشمولیة وبدأ صراع محموم على المواقع.
المفارقة الثانیة تتمثل فی مطالبة جمیع القوى السیاسیة بضرورة المحافظة على المد الثوری والاستعداد للتضحیة من أجل صیانة قیم الثورة والتصدی الى القوى الرجعیة وبقایا الأنظمة البائدة ولکن الغریب أن معظمها یبدی الکثیر من المرونة تجاه السلطة الانتقالیة والحکومات المؤقتة ویضع یده مع بعض القوى الملتفة على الثورة وتعلل ذلک بضرورة الخروج من الفوضى والمجهول الى النظام والاستقرار.
المفارقة الثالثة أن جل الکیانات السیاسیة تطمح الى القطع مع الماضی والحسم مع خیارات الاستبداد والرأی الواحد وتنادی بالتعددیة والدیمقراطیة ولکنها ترفض التقصی عن رموز الفساد والقصاص والثأر والاجتثاث من الظالمین وتجنح الى الصلح والتسامح وتنادی بالعفو والمصالحة.
المفارقة الرابعة أن التیارات السیاسیة تتبنى خیار التوافق الائتلافی على مستوى الخطاب وتسعى الى بناء الکتلة التاریخیة فی الظاهر ولکنها أعادت تشکیل نفسها على أسس قدیمة وأعادت انتاج نفس الخطاب الاقصائی الوثوقی وأهملت مفاهیم التاریخ والنقد والانسان والتقدم والحریة وسمحت لبعض القوى الانتهازیة المهادنة الى التسلسل الى المشهد وأخذ الریادة فی بث الفرقة ونشر روح التعصب الى الایدیولوجیا والتیار وغض الطرف عن مطالب الشارع وطموحات الشعب وقیم الثورة.
المفارقة الخامسة هی أن القوى الثوریة تنتمی فی معظمها الى فئات ناشئة ومقصیة وقادمة من الأعماق ومن الجهات ویتصدرها فئة الشباب ولکن الذین صاروا یتکلمون باسم الثورة هم الشیوخ وبدرجة أقل الکهول وسکان المرکز من الأعیان وتسندهم بعض القیادات الحزبیة المقعدة عن کل فعل ثوری والتی عرفت بموالاتها للأنظمة البائدة وتبحث الآن عن الغنائم وتقوم برتق بکارتها السیاسیة.
ان هذه المفارقات تدعونا الى المزید من التفکیر والتدبیر من أجل ضبط أهداف الثورة وتوفیر المناخ الملائم من أجل تحصیلها بشکل تدریجی ومرحلی واستشراف مستقبل المدینة العربیة فی اطار مصالحة سیاسیة حقیقیة بین القوى الثوریة المعبرة عن ارادة الشعب والحلم الشبابی الواعد.
ان المطلوب هو انجاز المصالحة السیاسیة الشاملة على أساس مفهوم الصداقة السیاسیة فی اطار العدالة الانتقالیة من أجل فک الارتباط مع المنظومة الشمولیة التی ترمز الى النمط البائد من الحکم والقطع معها.
غیر أن الاستثناء یأتینا کالعادة من فلسطین التی تلقفته جماهیرها دروس الثورة العربیة وهضمت الحالة الثوریة بسرعة وکانت الثمرة هی عودة الحلم الى الوجود وهو العودة الى الدیار والتمسک بالأرض.
لقد أعطت الثورة العربیة الى القضیة الفلسطینیة بریقها وأعادتها الى مرکز الاهتمام بعد أن کادت تطمس نقوشها من فرط الاستعمال ویلقى بها فی أرشیف الذاکرة النضالیة العربیة ویحنطها تقدیس الزعامات وأحیت الصراع مع الاستعمار والاستیطان بعد أن کانت بالمرصاد للاستبداد والشمولیة والارتداد.
لقد اتخذ احیاء نکبة اغتصاب فلسطین سنة 1948 هذه المرة فی زمن الثورة طابع الاعصار الشبابی الزاحف وقام الثائرون بطرد الیأس ونزع الخوف وشرعوا فی محاصرة مدنیة سلمیة للمعتدین الغاصبین وکثفوا مرابطتهم الاحتجاجیة على الحدود فی الجولان السوری ومجدل شمس ومارون الراس فی لبنان وقلندیا وبیت حانون فی الضفة ورام الله فی الضفة الغربیة.
لقد کانت المصالحة السیاسیة فی فلسطین بین فتح وحماس خیر هدیة تقدم الى الشباب العربی الثائر من الطبقة السیاسیة الفلسطینیة التی برهنت مرة أخرى على نضجها وقربها من الواقع واستعدادها للتضحیة.
کما وقع تفعیل مقولة تحریر فلسطین من جدید وخطاب خطاب الرفض ورفعت اللاءات الشهیرة وعدم الاعتراف بالکیان الغاصب وهناک من ذهب الى أبعد من ذلک وطالب بالشروع فی الانتفاضة الثالثة والاستفادة من الثورة العربیة بإطلاق شرارة الثورة الفلسطینیة فی الداخل والخارج من طرف الشباب والناشطین. من هذا المنطلق تدفقت الجماهیر العربیة الثائرة یوم احیاء الذکرى63 للنکبة من کل حدب وصوب رافعة الأعلام الفلسطینیة وزاحفة نحو الحدود من أجل العبور والتجاوز والدخول بعد أن قطعت المسافات والبلدات والکل یمنی نفسه بتحریر الأرض المغتصبة واستکمال الفعل الثوری.
ان سقوط عدد من الشهداء والجرحى الفلسطینیین الذین هم فی عمر الزهور وقیام سلطات الاحتلال بضرب وأسر عدد آخر والتحرش بالصحفیین والاسراع بإطلاق التهدید والوعید هو دلیل على الاصرار على المضی قدما فی الغطرسة وتصمیم الشباب العربی الثائر على النضال مهما کانت درجات التوتر والتحدیات وحجم التکلفة البشریة والمادیة التی ستدفع.
اذا کان شباب الثورة ینادی بتحریر فلسطین واذا کان الشعب العربی یرید العودة الى الأرض وتحقیق الوحدة العربیة فإن بیت المقدس یجیب على التو بضرورة القدوم من أجل الحج والصلاة وان الشباب المقاوم یلبی النداء وینزل الى المیدان ویحمل لواء الکفاح ومشعل الثورة الى قلب الکیان الغاصب.
فما قیمة هذا الهجوم البشری على المعابر الحدودیة من الشمال والشرق والجنوب والوعد بالمسیرات العربیة الملیونیة لنصرة القدس وفک الحصار عن عزة الأبیة؟ وهل نرى فلسطین حرة بعد اندلاع الثورة العربیة أم أن ذلک رهین ترکیز نظام عربی ثوری؟ وکیف تکون الثورة العربیة البوصلة الهادیة الى استعادة الحقوق العربیة الضائعة؟ ألا ینبغی أن یکون الصراع الشعبی مع الاستعمار والاستیطان هو بنفس القوة التی تدور بها الثورة على الشمولیة والاستبداد؟.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS