حول الدور الأمریکی فی الحراک المعارض فی الدول الموالیة
قبل حوالی عام من الثورات العربیة، والحدیث یدور بالتحدید عن الثورات العربیة فی الأنظمة الموالیة للولایات المتحدة، ولیس عن غیرها، نشر موقع "سویس إنفو" SwissInfo الرسمی السویسری فی 26/ 2/ 2010 تقریراً بالعربیة یضم ملخصاً لدراسة أمریکیة بعنوان "دعم الدیمقراطیة ضروری للمصالح الأمنیة"، مع لقاءات مع الأمریکیین الثلاثة الذین وضعوا تلک الدراسة، وهم د. دانییال برومبیرغ "الیهودی"، والبروفسور لاری دایموند، وفوکویاما صاحب"نهایة التاریخ"... وقد صدرت الدراسة عن "معهد السلام" الرسمی الأمریکی الذی أنشأه الکونغرس الأمریکی عام 1984 لدراسة حل النزاعات، وله برامج تدریبیة ونشاطات فی ثلاثین دولة حول العالم. والدراسة المذکورة للمعهد موجهة للرئیس الأمریکی باراک أوباما والمؤسسة الحاکمة. وهی موجودة بالعربیة على الرابط التالی:
http://www.swissinfo.ch/ara/detail/content.html?cid=8298350
ونقدم فیما یلی بتصرف أهم ما تمخضت عنه تلک الدراسة کما جاءت فی تقریر موقع "سویس إنفو"، ونکرر أنها وضعت قبل عام من الحراک الشعبی فی تونس ومصر تقریباً:
1" أن الأنظمة المتعاونة مع الولایات المتحدة فی المنطقة العربیة یجب أن تتم إعادة إنتاجها بصیغة دیمقراطیة، لأن وضعها الحالی یجعلها فاقدة للمشروعیة والتأیید الشعبی، مما یترکها ویترک المصالح الأمریکیة معها فی حالة من عدم الاستقرار.
2" أن المواطن العربی یربط بین السیاسات القمعیة لتلک الأنظمة وبین تحالفها مع الولایات المتحدة، مما یزید منسوب العداء للولایات المتحدة فی الشارع العربی، وبالتالی یجب أن تسعى الولایات المتحدة للضغط جدیاً على الأنظمة الموالیة لها للقیام بإصلاحات حقیقیة باتجاه اللیبرالیة السیاسیة، ولانتقادها علناً عندما تنتهک حقوق الإنسان، ولاستخدام الدبلوماسیة العامة والخاصة لفرض التحول الدیمقراطی.
3" أن الصراع العربی- "الإسرائیلی"، کأحد مصادر النقمة الشعبیة العربیة على الولایات المتحدة، وکأحد ذرائع الأنظمة لإعاقة "التحول الدیمقراطی"، یجب أن یتم العمل على تسویته بالتوازی مع الضغط باتجاه فرض "التغییر الدیمقراطی".
4" وهناک توصیات بالدراسة تتعلق بکل من مصر والأردن والیمن والمغرب ولبنان "ویبدو أن الاستحقاق السعودی مؤجل إلى حین".
وقد رأینا أکثر من دراسة أمریکیة بهذا الاتجاه قبل انفجار الثورات الشعبیة العربیة، کانت تبدو کدعایة إعلامیة للسیاسة الأمریکیة لیس إلا، فبات من الضروری الیوم العودة لتلک الدراسات على ضوء تخلی الولایات المتحدة عن الحکام الذین دعمتهم على مدى عقود، وعلى ضوء عدم عنایة الثورات الشعبیة العربیة حتى الآن للأسف بالتناقض المرکزی مع الإمبریالیة والصهیونیة، لا بل على ضوء الدعم المباشر لحلف الناتو أو مجلس التعاون الخلیجی للحراک الجاری فی لیبیا وسوریا بالتوالی...
ونحن لا نقول إن الحراک الشعبی والشبابی فی تونس ومصر هو من إنتاج الولایات المتحدة، کما تذهب بعض التقاریر الروسیة، وحتى الأمریکیة، ومنها مثلاً تقریر النیویورک تایمز فی 14/ 4/ 2011 الذی یحمل عنوان "مجموعات من الولایات المتحدة ساعدت على تغذیة الانتفاضات العربیة". ویسلط ذلک التقریر الضوء على برامج التدریب والتمویل والرعایة التی قدمتها واشنطن للنشطاء "الدیمقراطیین" فی الوطن العربی خلال السنوات المنصرمة، وهو مترجم للعربیة ومنشور على موقع الصوت العربی الحر لمن یرغب.
وهنالک أیضاً مادة مجلة نیوزویک الأمریکیة فی1/ 2/ 2011: "مدرسة وزارة الخارجیة الأمریکیة للمدونین الثوریین" التی تحدثت عن دور برامج تدریب المدونین فی تعبئة الحراک الشبابی فی مصر، وفی کولومبیا وفنزویلا ضد الفارک وشافیز.
وبالنسبة للروس، هنالک مثلاً تقریر "الدور الأمریکی فی الثورات العربیة: تعبئة الاحتجاج من خلال الدبلوماسیة العامة والشبکات الاجتماعیة"، وهو تقریر من عشرین صفحة نشر باللغة الروسیة على موقع "مرکز بیترسبرغ لدراسات الشرق الأدنى المعاصر"، وقد صدر منه ملخص بالإنکلیزیة فی 31/ 3/ 2011 على موقع "الإعلام الرابع" الصینی، وقد قمنا بترجمة التلخیص ونشره أیضاً فی "السبیل" فی 7/ 4/ 2011.
ویظهر التقریر الروسی أن الروس ذهبوا مبکراً، منذ بدایة الحراک الشعبی العربی، إلى اعتباره نتاجاً مباشرا ًلـ"مبادرة الشراکة الشرق أوسطیة" التی أشرفت على 350 برنامجاً منذ عام 2001 تحت إدارة الخارجیة الأمریکیة، وخضع عشرات آلاف المواطنین العرب من خلاله للتدریب و"التشبیک" والتعبئة السیاسیة باستخدام وسائل الاتصال الحدیثة.
ولکن، على عکس ما یذهب إلیه التقریر الروسی وغیره، لیس من المعقول أن تتمکن الولایات المتحدة من إنتاج ثورات ملیونیة فی الوطن العربی، بل ثمة عوامل داخلیة حقیقیة للثورة، والشعب العربی لیس ألعوبة بید الولایات المتحدة کحکامه، ولا من المعقول أن تجرؤ أمریکا على إطلاق مثل تلک الثورات، ولو افترضنا جدلاً أنها قادرة على ذلک -والحدیث یدور هنا فقط عن إطلاقها فی حضن الأنظمة التابعة لها، والحکام الذین استنفدوا فعالیتهم، وباتوا یشکلون عبئاً علیها-.
لذلک أرى أن تقریر النیویورک تایمز المتبجح بأن الولایات المتحدة أسهمت بإطلاق الثورات الشعبیة العربیة، وتقاریر الروس التی تتعامل مع کل تلک الثورات، بلا تمییز، کنتاج لجهود الإدارة الأمریکیة، هو أمر یجانب الصواب فی حالة الأنظمة الموالیة للولایات المتحدة، والاختراق المکثف وبرامج التدریب والتمویل والرعایة وتأسیس الشبکات لا یعنی أن ذلک هو ما أنتج الثورات.
والثورات لها دینامیات خاصة بها، ویمکن بسهولة أن تذهب باتجاهات لا تستطیع واشنطن أن تسیطرعلیها بعد انفجارها، وانهیار سلطة القوى الأمنیة ونزول الملایین إلى الشارع أمرغیر مأمون العواقب بالنسبة للولایات المتحدة، ولهذا وضعوا أیدیهم على قلوبهم فی الأیام الأولى للثورة.
على العکس، فإن الأقرب للمنطق هو أن الأمریکیین والأوروبیین کانوا، وما برحوا، یراقبون بدقة مدى تراکم النقمة عند المواطن العربی، وکل التطورات السیاسیة فی بلادنا، وبما أنهم وصلوا لاستنتاج أن مصالحهم أصبحت فی خطر لأن الأنظمة التی یعتمدون علیها تفتقد للمشروعیة والمصداقیة وباتت معرضة للانهیار، فقد وضعوا خططهم منذ البدایة لاختراق تلک الثورات "أو أی حراک سیاسی"، وأسسوا الشبکات "الدیمقراطیة" للمشارکة فیها لتوجیهها بالاتجاه الذی یرغبونه عند قیامها.
ویبدو أن الإمبریالیة تعلمت دروس الثورات الشعبیة أکثر منا بکثیر، ففی غیاب حرکات سیاسیة ثوریة منظمة تقودها، وفی غیاب مرجعیات قیادیة شعبیة معترف بها وبوصلة سیاسیة واضحة وبرنامج سیاسی تناضل تلک الحرکات الثوریة الغائبة لتعبئة الشعب به على مدى سنوات، یصبح من المنطقی الاستنتاج أن قیادة الحراک العفوی، ولو کان نقیاً فی البدایة، ودوافعه وطنیة صرف، ستؤول للقوى الأکثر تنظیماً واستعداداً وانتشاراً.
ولهذا رأینا الحراک یبتعد فی النهایة عن التناقض الرئیسی مع الطرف الأمریکی- الصهیونی، ویرکز على إعادة إنتاج الأنظمة الموالیة "دیمقراطیاً" "وعلى إغراق الأنظمة الممانعة بالتفکیک والتمرد المسلح"، بحیث تکون أنظمة تابعة ولکن مکتسِبة للمشروعیة الشعبیة والانتخابیة. وهنا تمکنت الولایات المتحدة من الحراک.
وقد کتب عدة کتاب مصریین، مشهودٌ لهم بأنهم مع الثورة منذ البدایة حتى النهایة، وضد حسنی مبارک، مثل الأستاذ محمد عصمت سیف الدولة، ود. رفعت سید أحمد، عن الجهود الأمریکیة والأوروبیة المنهجیة والمنظمة لاختراق الحراک الشعبی والشبابی المصری، محذرین ومنبهین من خطورتها، ومنه مثلاً مقالة محمد عصمت سیف الدولة "الاختراق الغربی لشباب الثورة فی مصر"، ومقالة د. رفعت سید أحمد "انتبهوا یا شباب، الخارجیة الفرنسیة تخترق الثورة لتدمیرها"، وهی مقالات تعالج حالات الاختراق بعد الثورة، بعد أن راحت تسیر فی العراء، ولکن ماذا عنها قبل الثورة؟ وما هو الدورالذی لعبته فی الثورة؟ فذلک هو السؤال الذهبی.
إذن، الثورة الشعبیة والشبابیة انطلقت من دوافع مشروعة بلا أدنى شک، ولکن بما أنها افتقدت منذ البدایة للتنظیم والقیادة الثوریة، وللبرنامج الثوری، فإن الطاقة الثوریة للجماهیر تبددت فی قنوات المساومة والانتهازیة والاختراق والتجییر، وبالتالی افتقدت للقدرة على التصدی للمسائل السیاسیة التی تطرحها حرکة الواقع على مستوى إستراتیجی، والأهم، للقدرة على توجیه الدفة لمصلحة الوطن.
إن ما تحقق فی مصر وتونس عظیم حقاً، ولکنه لم یذهب إلى أقصى مداه، ولا حتى إلى ربع الطریق فی التغییر، بسبب عدم وجود طلیعة ثوریة تقود الحراک بالاتجاه الصحیح، فانتهى به الأمر إلى إنتاج تغییر دیکور شکلی "دستوری" و"دیمقراطی" على مستوى قطری، ولم یتصدى لأهم القضایا، وهی التبعیة والاحتلال والتجزئة وطبیعة النظام الاقتصادی- الاجتماعی حتى ضمن حدود القطر. فکانت النتیجة إعادة إنتاج التبعیة برداء جدید، أکثر قبولاً لدى الشعب، وأکثر معاصرة للقرن الحادی والعشرین.
أخیراً، ثمة بُعد آخر فی إدارة الولایات المتحدة للعلاقة مع حراک الشارع، وهنا نشیر إلى تحلیل إخباری صدر عن وکالة الصحافة الفرنسیة من بغداد فی 28/ 3/ 2011 بعنوان "الغرب یتخلى عن الأنظمة التقلیدیة لصالح علاقات مع الشارع الإسلامی". وقد ذکر ذلک التقریر، فیما ذکره عن تقرب واشنطن من الإسلامیین، أن واشنطن دأبت على تشجیع مصر وغیرها على الاقتداء بالنموذج الترکی الذی یحکم فیه إسلامیون یحتکمون للدیمقراطیة والانتخابات وتداول السلطة... "والمعاهدات الدولیة والعلاقات مع العدو الصهیونی والانخراط فی حلف الناتو والمشارکة فی العدوان على أفغانستان ولیبیا الخ...".
وذکر ذلک التقریر أیضاً أن الحرکات الإسلامیة شارکت فی الحراک الشعبی متأخرة، لکنهاعادت لتحتل فیه موقع الصدارة مع الشباب "الدیمقراطیین". ویذکر أن هیلاری کلینتون وزیرة الخارجیة الأمریکیة قد صرحت فی 24/ 2/ 2011 أن الولایات المتحدة لا تمانع وصول الإسلامیین للحکم فی مصر، ما داموا یلتزمون بـ.....!! "ویستطیع القارئ أن یملأ الفراغ"، وقد جاء ذلک فی نفس المؤتمر الصحفی الذی دافعت فیه عن استخدام وزارة الخارجیة الأمریکیة لحق "الفیتو" فی الأمم المتحدة ضد قرار یدین التوسع الإستیطانی الصهیونی فی فلسطین فی مجلس الأمن الدولی.
والعبرة هی أن واشنطن لا تمانع بالتعاون مع وبتوظیف أی طرف یخدم مصالحها، کما تتعاون مع المملکة العربیة السعودیة فی لیبیا الیوم، ومعها فی لبنان منذ سنوات، وکما تعاونت قبل ذلک مع قوى إسلامیة فی أفغانستان، وفی العراق، وقد ذکر موقع دبیکا الصهیونی فی9/ 5/ 2011 أن إدارة أوباما تبنت توجهاً للتفاهم مع الإسلامیین فی المنطقة على حساب الأنظمة ضمن نفس السیاق المذکور أعلاه، وهی الفکرة التی عززتها بشکل أو بآخر محاضرة مائیر داغان، رئیس الموساد السابق، فی الجامعة العبریة بالقدس "انظر العرب الیوم 10/ 5/ 2011".
المهم، تشهد منطقتنا اصطفافاً جدیداً للقوى الیوم، وعلى الجمیع أن یجد مکانه فیه، وعلى الإسلامیین والیساریین و"الدیمقراطیین" المنخرطین فی لعبة "التغییر" أن یحذروا جیداً من مخاطر الانزلاق إلى المعسکر الآخر تحت إغراء جائزة السلطة. فالدیمقراطیة والحرکات الدستوریة التی تکرس التبعیة وتعید إنتاجها هی جزء من معسکر أعداء الأمة، تماماً مثل التدخل الأجنبی وأعوانه، ولا تهم نکهة الخطاب العقائدی لمن یحکم ما دامت التبعیة للإمبریالیة قائمة. فالصراع سیأخذ أشکالاً جدیدة فی ظل تحالفات جدیدة، إقلیمیاً ومحلیاً فی کل قطر، وهاهو یُبرِز قوى جدیدة کل یوم، وأدواراً جدیدة لقوى قدیمة، لکن التناقض الرئیسی الذی ینتج کل ذلک یبقى کما هو: التناقض مع الطرف الأمریکی- الصهیونی ومشاریع الهیمنة بأشکالها.
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS