أمریکا وانتفاضات العرب: فشل ذریع من المحیط الاطلسی إلى الخلیج الفارسی

محترفو التضلیل عن سابق قصد وتصمیم، فضلاً عن الحمقى والسذّج بالطبع، هم وحدهم الذین یساجلون بإنّ الإدارة الأمریکیة سعیدة بما تشهده الشوارع العربیة من انتفاضات؛ أو أنها حزینة جرّاء الإنتکاسات ومظاهر الثورة المضادة هنا وهناک، وتزمع مساعدة الشعوب فی مشاریعها الدیمقراطیة، کما یسیر الزعم الرسمی. ومن حیث المبدأ، واتکاء على تجارب الشعوب مع الولایات المتحدة، خیر للعون الأمریکی أن لا یأتی أبداً، من أن یأتی منطویاً على أجندات لا تخدم، فی المقام الأوّل، إلا المصالح الأمریکیة؛ وتبدأ مفاعیله الأولى من خدمة الطاغیة، وإسباغ صفة 'وطنیة' و'مقاوِمة'، على موقفه إزاء أنساق التدخل الخارجی.
وإذْ تتفاقم معدّلات العنف الذی تلجأ إلیه الأنظمة العربیة فی قمع الإنتفاضات وحرکات الإحتجاج الشعبی، فیسقط العشرات فی مختلف الساحات: فی لیبیا، حیث یرسل العقید آلته العسکریة إلى آخر جولات الصراع من أجل البقاء؛ وفی القصیم، حیث یطلق الحرس الملکی السعودی النار على المتظاهرین؛ وفی المنامة، حیث تتکاتف قوّات 'درع الجزیرة' مع الأجنحة الأکثر تشدداً فی سلطة آل خلیفة ضدّ الشارع الشعبی؛ وفی صنعاء وعدن، حیث تستخدم السلطات الیمنیة الذخیرة الحیة ضدّ المتظاهرین والمعتصمین؛ وفی دمشق، حیث تعتمد الأجهزة الأمنیة السوریة خیارات وحشیة فی تفریق اعتصام سلمی (فیتساوى فی الإعتقال طفل لا یتجاوز العاشرة، هو ابن المعتقلة رغدة الحسن، ومفکّر أکادیمی مرموق تجاوز السابعة والسبعین، هو الدکتور طیب تیزینی)... فی غمرة هذه التطورات، وأخرى سواها فی تونس ومصر والأردن والعراق والسعودیة، تبدو السیاسة الأمریکیة الفعلیة، غیر المعلنة بالطبع، مسؤولة مباشرة عن تشجیع هذه الخیارات القصوى، سواء بالتأتأة فی الحدیث عنها، أو توصیفها بلغة مراوغة فضفاضة، أو التزام الصمت المطبق.
ولیست خافیة، إلا على المضلِّلین والسذّج إیاهم، طبیعة التحرکات التی قام بها مبعوثون للبیت الأبیض، من أمثال وزیرة الخارجیة هیلاری کلنتون، ووزیر الدفاع روبرت غیتس، ورئیس أرکان القوات المسلحة الأدمیرال مایکل مولن، ومساعد وزیرة الخارجیة جیفری فلتمان، ومساعدها للشؤون السیاسیة بیل برنز، والمدیر فی مجلس الأمن القومی الأمریکی دافید لبتون، والمبعوث الشخصی فرانک وایزنر... وهؤلاء لعبوا، فی تونس ومصر والیمن والبحرین والسعودیة بصفة خاصة، سلسلة أدوار مباشرة لم تکن تهدف البتة إلى الوقوف على الحیاد إزاء الإنتفاضات المشتعلة، فکیف بمساندتها.
لیست خافیة، أیضاً، حقیقة أنّ الإنتفاضات العربیة هی التحدّی الأکبر الراهن أمام السیاسة الخارجیة الأمریکیة فی عهد الرئیس باراک أوباما، وأنّ طرائق تعامله معها تحدّد قسطاً لا بأس به من حظوظ إعادة إنتخابه، وفی ما یخصّ خطوط الهجوم المضادّ الذی سیشنّه خصومه، فی الحزبین الجمهوری والدیمقراطی على حدّ سواء، حین تأزف 'الأطوار الأقذر' فی حملات الإنتخابات الرئاسیة القادمة. لقد واجه ترکة ثقیلة فی أفغانستان والعراق، لم تکن من صنع یدیه؛ کما أنّ فشله فی ملفات التفاوض الفلسطینیة ـ الإسرائیلیة لیست غیر مسبوقة، ولعلها تشمل جمیع رؤساء أمریکا الذین قاربوا هذه الملفات؛ ومشکلة البرنامج النووی الإیرانی لیست جدیدة، بدورها، وهی فی کلّ حال مرشحة للتبرید بدل التسخین. التحدیات الراهنة، والآتیة، هی هنا: فی تونس والقاهرة وصنعاء والمنامة وعمّان ومسقط ودمشق وبغداد، ولیس على المرء کبیر حرج فی أن یعود إلى التعبیر القدیم الشائع، فیختصر المساحة الجغرافیة هکذا: من المحیط الهادر، حتى الخلیج الثائر!
الطریف أننا لا نعدم مَن یفلسف هذه الإنتفاضات على نحو تبسیطی، سطحی وتسطیحی تالیاً، یجیّرها لصالح واحد من اثنین: إمّا (کما یفعل وزیر الدفاع السابق دونالد رمسفیلد هذه الأیام) الرئیس الأمریکی السابق جورج بوش، بسبب غزواته فی أفغانستان والعراق، وما صنعته من فیروسات دیمقراطیة انتقلت شرقاً وغرباً؛ أو (کما یفعل رهط المؤمنین بسیّد البیت الأبیض الحالی) أوباما، ویده المفتوحة الممدودة المنبسطة، فی خطبة جامعة القاهرة. یندر، إذاً، أن یخرج من صفوف هؤلاء محلل واحد یرى أنّ بعض السبب فی اندلاع هذه الإنتفاضات هو السیاسة الخارجیة الأمریکیة، على امتداد عقود طویلة فی الواقع، سواء لجهة انحیازاتها العمیاء إلى جانب إسرائیل، أو سکوتها عن سلطات الإستبداد والفساد ومساندتها مباشرة حین تقتضی الضرورة.
ینبغی للعالم العربی، والحال هذه، أن ینتظر المزید من فصول 'عصور الظلام' الأمریکیة' تجاه قضایا التحرر والدیمقراطیة وحقوق الإنسان فی العالم العربی، على وتیرة ما ناقشه کتاب 'عصور الظلام فی أمریکا: الطور الأخیر من الإمبراطوریة'، الذی کان عمل موریس بیرمان الصاعق الثانی، بعد الأوّل الأشهر: 'أفول الثقافة الأمریکیة'، الذی صدر سنة 2000، وأثار عواصف سجال لم تهدأ حتى الیوم. والرجل، استناداً إلى انتقال السیاسة الخارجیة الأمریکیة من تخبط إلى آخر، رجّح انتقال الحضارة الأمریکیة من طور الأفول إلى عصر الظلام الفعلی؛ یذکّرنا بأنّ حالاً مشابهة واجهت الإمبراطوریة الرومانیة، فصّل القول فیها المؤرّخ البریطانی شارلز فریمان فی کتابه اللامع 'إنغلاق الذهن الغربی'.
وفی فصل فرید، بعنوان 'محور السخط: إیران، العراق، إسرائیل' ـ دشّنه باقتباس شدید المغزى من السناتور والمؤرّخ الرومانی الشهیر کورنیلیوس تاسیتوس: 'یخلقون الأرض الیباب ویطلقون علیها تسمیة السلام' ـ ساجل بیرمان بأنّ زلزال 11/9 کان نتیجة حتمیة للسیاسات الأمریکیة فی الشرق الأوسط، خصوصاً فی فلسطین والعراق وإیران. منابع السخط هذه تشمل الإنقلاب الأمریکی فی إیران (الذی عُرف باسم 'عملیة أجاکس' وأسقط رئیس الوزراء الشرعی محمد مصدّق سنة 1953)، إلى التدخّل الأمریکی فی شؤون العراق منذ الستینیات وحتى التعاون العسکری والأمنی مع نظام صدّام حسین اثناء الحرب العراقیة ـ الإیرانیة، وبینهما وقبلهما وبالتزامن معهما الإنحیاز الأمریکی المطلق لدولة إسرائیل.
صحیح أنّ محاور السخط هذه لا تبرّر قتل ثلاثة آلاف أمریکی، أو أجنبی، بریء تواجدوا لضرورات الحیاة أو بالمصادفة فی برجَیْ نیویورک یوم 11/9/2001، یتابع بیرمان، إلا أنّها فی أبسط قراءة موضوعیة تفسّر الحدث: 'إذا کنّا عاجزین عن إدراک الجانب الثأری وراء ما جرى فی 11/9، ولیس الرکون إلى عوامل 'الجنون' و'الشرّ' و'الأصولیة' و'الإرهاب' وحدها، فإنّ الأمل ضئیل فی أنّ النجاح سیکون حلیفنا ضدّ هجمات إرهابیة أخرى فی المستقبل'. ولا یوفّر بیرمان تمثیلاً طریفاً لحال التعامی الأمریکی، الرسمی والشعبی على حدّ سواء، إزاء السخط المتعاظم ضدّ السیاسات الأمریکیة فی الشرق الأوسط: أشبه برجل مصاب بصداع مزمن، ولکنه یؤمن أنّ العلاج الوحید هو الاستمرار فی ضرب رأسه بمطرقة!
وفی فصل آخر بالغ العمق، عنوانه 'الإمبراطوریة تتداعى'، یناقش بیرمان مدرسة التفکیر التی تقول بأنّ حلّ معضلات أمریکا لا یأتی إلا من داخل أمریکا، على غرار 'نظریة البندول' وتوفّر حلقات تصحیح ذاتی على امتداد التاریخ الأمریکی، وأنّ إیقاع هذا التاریخ هو الفعل/ ردّ الفعل والمقولة/ المقولة المضادّة. لکنّ الحال، خصوصاً فی رئاستَیْ بوش الابن، بلغت ذروة غیر مسبوقة فی استجلاب ردود الأفعال المتعددة، المتغایرة وغیر المتناسبة دائماً مع الفعل الواحد، بحیث أنّ سیرورة انحلال الإمبراطوریة الرومانیة، ولیس نظریة حلقات التصحیح الذاتی، هی التی تصلح لاستشراف مستقبل أمریکا المعاصرة.
إنها قوّة عظمى تسیر حثیثاً نحو الهاویة بسبب من عجوزات فی التجارة لا یمکن ضبطها، ومیزانیات مدینة على نحو خرافی لا سابقة له، وعملة آخذة فی الإنهیار دولیاً، و'هویة سلبیة' تتغذى على الحرب ضدّ الأمم الضعیفة، وثقافة بلهاء تعیش على التلفزة والإعلام الضحل، والتعلیم الفاشل أو التبسیطی فی المدارس والجامعات، وجنون الإستهلاک، والصحافة الأسیرة، والحقوق المدنیة الضائعة، واللوبیات التی تسیّر الکونغرس، ووزارة العدل التی تعید کتابة القوانین الدستوریة على هواها... یکتب بیرمان: 'نحن مجتمع قدره محتوم لأنّ الجمهور ذاته لم یعد ناشطاً أو واعیاً، وهو لا یکفّ عن إعادة انتخاب الأناس أنفسهم الذین یتولّون نسف الحرّیات'!
ومع ذلک، وإلى جانب کلّ تلک الأفکار المعمّقة التی یسوقها بیرمان للتدلیل على اقتراب الإمبراطوریة الأمریکیة من حافة الهاویة، فإنّ المرء لا یکاد یصدّق عینیه وهو یقرأ ما یصرّح به مندوبو الإدارة إلى مختلف دول الشرق الأوسط، حول التزام أمریکا بحقوق الإنسان والحرّیات والدیمقراطیة، وتبدّل نظرتها إلى الطغاة، والوقوف إلى جانب الشعوب بدل الحکّام، أو حتى ـ فی لغة أوباما الغنائیة ـ اعتبار الشباب المصری قدوة ملهمة للشباب الأمریکی! المرء، فی المقابل، یستذکر استطلاع الرأی الذی أجرته إذاعة الـ BBC الدولیة فی مناسبة تدشین ولایة جدیدة للرئیس الأمریکی، حین قال 22 ألف مواطن من 21 بلداً بأنّ کراهیة شخص الرئیس الأمریکی (بوش الابن، آنذاک) تنقلب فی نفوس الناس إلى کراهیة للولایات المتحدة ذاتها، فتبلغ نسبة التخوّف 64 بالمئة فی بریطانیا، وفی فرنسا 75، وفی ألمانیا 77.
'نحن فی طور من التقلّب وانعدام الثبات، غیر مسبوق'، یقول دافید غوردون أحد مؤلفی تقریر أمریکی حکومی رسمی عن أحوال العالم سنة 2020، أعدّه 'مجلس الإستخبارات القومی'، الجهة المعنیة بوضع صانعی السیاسات فی صورة الأخطار التی تنتظر قراراتهم. أهمّ ما فی ذلک التقریر أنّ توازن القوّة القادم فی میدان الإقتصاد سوف ینتقل إلى آسیا (الصین والهند خصوصاً)، وصحیح أنّ أمریکا سوف تظلّ القوّة الکونیة الأعظم، إلا أنّ 'موقع القوّة النسبی الذی تتحلّى به سوف یتآکل أکثر فأکثر'، حسب التقریر.
والعالم سنة 2020 سوف یتعرّض للکثیر من الأخطار الأمنیة، لأنّ ارتباط البشر عبر الإنترنیت وشبکات العولمة سوف یخلق 'جماعات افتراضیة' تفرز مختلف الأشکال الجدیدة الصانعة لسیاسة الهویات، فتزید من تعقیدات قدرة الدول على الحکم، وإمکانیة المنظمات الدولیة فی التدخّل. وبالطبع، لا ینسى التقریر التأکید على العامل الأهمّ ربما: 'الإسلام السیاسی، بصفة خاصة، سوف یکون له تأثیر کونی ملموس على امتداد الفترة حتى 2020، وسیلمّ شمل المجوعات الإثنیة والقومیة المتباعدة، ولعله سوف یخلق سلطة تتجاوز الحدود القومیة'. وبمعزل عن الحدیث الغائم حول 'الجماعات الإفتراضیة'، رغم انها لیست مواقع الإنترنت الاجتماعیة التی لعبت دوراً محوریاً فی حشد متظاهری الإنتفاضات العربیة، لا یبدو مؤلّفو التقریر وکأنهم ینتظرون معجزة فی تونس، أو فی مصر، أو فی لیبیا.
ذلک لأنهم، فی المقابل، کانوا یعتبرون نظام حسنی مبارک صمّام أمان ستراتیجی، یحفظ الرکیزة الأولى للسیاسة الخارجیة الأمریکیة فی الشرق الأوسط: السلام مع إسرائیل. وکانوا، وما یزالون، یعتبرون أنظمة الخلیج الفارسی محور الرکیزة الثانیة: توفیر النفط والغاز والطاقة الرخیصة، فضلاً عن احتضان القواعد العسکریة. وأمّا نظام القذافی، إسوة بأشقائه طغاة العرب، فهو خیر مساعد فی الرکیزة الثالثة، أو ما تطلق علیه الإدارة الأمریکیة تسمیة 'الحرب على الإرهاب': إذا عزّت السجون غیر الشرعیة على أرض أمریکا، أو ضاق معتقل غوانتانامو، فلنا فی أمثال القذافی خیر معین، وخیر سجّان! هو، فی الحصیلة، فشل أمریکی ذریع، من المحیط الهادر، إلى الخلیج الافرسی الثائر!
ن/25