الاثنين 14 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

الاعتراف بفلسطین

علی أبو نعمة

 

ماذا ستفعل لو أن جهودک المبذولة على مدى عقود لإقامة دولة فلسطینیة مستقلة على أجزاء یسیرة من فلسطین التاریخیة، هی الضفة الغربیة وقطاع غزة قد باءت بفشل ذریع؟

إذا کنتَ السلطة الفلسطینیة المدعومة غربیا فی رام الله المحتلة إسرائیلیا، فإنک ستتظاهر بأن لدیک دولة فلسطینیة مهما کان، وستحاول أن تقنع قدر ما أمکنک من البلدان لتنضم إلى هذه التمثیلیة.

ویبدو أن هذا هو جوهر استراتیجیة السلطة الفلسطینیة لتأمین قبول 'الدولة الفلسطینیة' فی الجمعیة العامة للأمم المتحدة، بحلول شهر أیلول/سبتمبر. فقد بدأت السلطة الفلسطینیة بالفعل فی حشد تأیید الدول لدعم تحرکها هذا. وفی الأشهر الأخیرة منحت عدة دول، ولاسیما فی أمریکا اللاتینیة، اعترافا دبلوماسیا کاملا لسلطة رام الله. ونقلت صحیفة 'نیویورک تایمز' عن دبلوماسیین قولهم إن القرار سیُمرَّر على الأرجح إن طُرح للتصویت فی الجمعیة العامة للأمم المتحدة.

إن اندفاع السلطة الفلسطینیة للحصول على اعتراف بدولة فلسطینیة هو النسخة الدبلوماسیة لجهدها المروَّج له کثیرا فی 'بناء المؤسسات' و'التنمیة الاقتصادیة'، والذی یُفترض به أن یرسی البنیة الأساسیة للدولة المستقبلیة. غیر أن برنامج بناء المؤسسات لیس إلا سرابا روّجته حیل العلاقات العامة والصحافة الجیدة، بل إن 'المؤسسات' الرئیسیة التی بنتها السلطة الفلسطینیة فی الواقع هی الدولة البولیسیة، والمیلیشیات التی تُستخدم فی قمع المعارضة السیاسیة للسلطة الفلسطینیة وأی شکل من أشکال مقاومة الاحتلال الإسرائیلی. وفی الوقت نفسه، لا یزال اقتصاد الضفة الغربیة والسلطة الفلسطینیة ذاتها یعتمد اعتمادا کلیا على المساعدات الأجنبیة.

أما اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطینیة صوریة فلن یکون أکثر جدوى من وهم بناء المؤسسات، ویمکن أن یُبعد الفلسطینیین أکثر عن التحرر الحقیقی وتقریر المصیر.

لقد برّرت شخصیات من السلطة الفلسطینیة فی رام الله استراتیجیتهم الساعیة للحصول على اعتراف من الأمم المتحدة، بأنها وسیلة لوضع ضغوط دولیة على إسرائیل. وفی هذا الصدد، قال وزیر خارجیة رام الله، ریاض المالکی، فی معرض حدیثه للصحافیین فی کانون الثانی/ینایر 'إن من شأن هذا الاعتراف أن یخلق ضغوطا سیاسیة وقانونیة على إسرائیل من أجل سحب قواتها من أرض دولة أخرى مُعترف بها فی الأمم المتحدة ضمن حدود 1967'.

کما أوضح نبیل شعث وهو مسؤول کبیر فی حرکة فتح لصحیفة 'نیویورک تایمز' بأنه لو اعترفت الأمم المتحدة بدولة فلسطینیة فإن 'إسرائیل ستکون حینها فی حالة انتهاک یومی لحقوق دولة أخرى عضو فی الأمم المتحدة، وقد تترتب على ذلک عواقب دبلوماسیة وقانونیة، ستکون کلها مؤلمة بالنسبة لإسرائیل'.

ولکن هل ثمة من یرى کیف یتصرف 'المجتمع الدولی' حینما یتعلق الأمر بإسرائیل، ثم یُصدق هذه التوقعات الواهمة؟

لقد ظل لبنان دولة عضوا فی الأمم المتحدة منذ عام 1945، ولکن ذلک لم یمنع إسرائیل من احتلال جنوبه فی 1978 وحتى 2000. ولم ینته الاحتلال الإسرائیلی للبنان بفضل أی ضغوط دولیة وإنما فقط لأن المقاومة اللبنانیة دحرت إسرائیل والملیشیات المتعاونة معها. ومنذ قصفها الواسع على لبنان فی 2006، ما فتئت إسرائیل تنتهک السیادة اللبنانیة آلاف المرات ـ وفقا لما تقوله الأمم المتحدة نفسها. غیر أن خرقها المستمر للأجواء اللبنانیة وخطفَها المواطنین اللبنانیین وغیرها من الانتهاکات التی ترتکبها لم یتسبب قط فی 'عواقب دبلوماسیة وقانونیة' لمساءلة إسرائیل.

ومنذ عام 1967، ظلت إسرائیل تحتل مرتفعات الجولان العائدة لسوریة (الدولة العضو أیضا فی الأمم المتحدة منذ 1945). ولم تشهد مرتفعات الجولان أی مقاومة مسلحة تقریبا، کما لم یکن هناک أی ضغوط دولیة تطالب إسرئیل بالانسحاب أو تطالب بعودة اللاجئین السوریین إلى دیارهم. وحتى بعد أن ضمّت إسرائیل هذه المرتفعات بصورة غیر قانونیة فی عام 1981 ـ وهی خطوة أدانها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ـ فإن صمت المجتمع الدولی سمح باستمرار الاستعمار الإسرائیلی لها. فلماذا إذن سیکون الوضع فی 'الدولة الفلسطینیة' مختلفا؟

إن السعی للحصول على اعتراف دبلوماسی بدولة فلسطینیة وهمیة على جزء یسیر من فلسطین التاریخیة هو استراتیجیة تنُمّ عن یأس القیادة الفلسطینیة التی نفدت خیاراتها وفقدت شرعیتها وأمست عقبة حقیقیة أمام الفلسطینیین فی سبیل استعادة حقوقهم.

لقد جُرِّب فی الماضی الاعتماد الکبیر على المحافل الدبلوماسیة وحسن نیة 'المجتمع الدولی' ولکنه لم یُسفر عن أی نتائج. وفی عام 2004، بذلت السلطة الفلسطینیة جهودا هائلة لاستصدار قرار استشاری من محکمة العدل الدولیة فی لاهای یقضی بعدم شرعیة جدار الفصل العنصری الذی تبنیه إسرائیل فی الضفة الغربیة وبوجوب هدمه وتفکیکه.

وفیما عدا استصدار القرار، فإنه لم یکن لدى السلطة الفلسطینیة أی استراتیجیة على الإطلاق لتعبئة الفلسطینیین وحلفائهم لممارسة الضغط على العالم من أجل تنفیذ القرار. فقد کان انتصارا على الورق لم یُفضِ إلى أی تغییر على الأرض.

وفی الواقع، ثمة أدلة کثیرة تُظهر بأنه لمّا کانت الهیئة الدبلوماسیة والمفاوضون التابعون للسلطة الفلسطینیة منهمکین فی لاهای، سعت القیادة لکبت المحاولات التی قامت بها منظمات المجتمع المدنی الفلسطینی فی الضفة الغربیة والقدس الشرقیة لتنظیم الفعالیات، ولفت الانتباه إلى قرار محکمة العدل الدولیة، وکان السبب شبه المؤکد وراء ذلک هو الضغوط الإسرائیلیة والأمریکیة (انظر جمال جمعة، العدالة المؤجلة: تأیید قرار محکمة العدل الدولیة، على موقع الشبکة،

http://al-shabaka.org/policy-brief/civil-society/justice-deferred-upholding-icj-ruling).

فهل ستکون حکومة 'فلسطین المستقلة' القابعة تحت الاحتلال الإسرائیلی والمعتمدة على المساعدات المتأتیة من الولایات المتحدة والاتحاد الأوروبی قادرة على تحمل ضغوط مشابهة فی المستقبل؟ إن سِجل السلطة الفلسطینیة حتى الوقت الراهن لا یُظهر ما یدعو للتفاؤل.

ورغم تلک المساعی، فقد کان لرأی محکمة العدل الدولیة نتیجة واحدة مهمة بالفعل. فلم تکن السلطة الفلسطینیة أو منظمة التحریر الفلسطینیة المنتهیة هی من بدأ التعبئة والحشد؛ بل إن المجتمع المدنی الفلسطینی هو من أطلق بشکل مستقل النداء الفلسطینی للمقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات فی عام 2005، فی ظل تقاعس حکومات العالم عن تنفیذ قرار محکمة العدل الدولیة. إن هذه الحملة تسعى لعزل إسرائیل والضغط علیها کی تمتثل لحقوق الفلسطینیین وللقانون الدولی، من خلال المقاطعة الشعبیة المشابهة لتلک التی ساعدت فی إنهاء الفصل العنصری فی جنوب افریقیا.

وبدلا من تصنیم فکرة 'الدولة'، ترکز حملة المقاطعة على الحقوق والوقائع، فهی تدعو لإنهاء الاحتلال والاستعمار الإسرائیلیین لکافة الأراضی العربیة المحتلة فی عام 1967، وتطالب بمنح مساواة کاملة للفلسطینیین المواطنین فی إسرائیل، واحترام حقوق اللاجئین الفلسطینیین وإعمالها. وتنسجم جمیع هذه المطالب انسجاما تاما مع الإعلان العالمی لحقوق الإنسان والقانون الدولی.

لم تصادق السلطة الفلسطینیة على هذه الحملة مُطلقا، بل سعت فی الواقع لتحویل الأنظار عنها وتقوضها بالدعوة لمقاطعة فاترة لمنتجات المستوطنات الإسرائیلیة وحسب، فی حین عملت بجد لتعزیز التجارة مع إسرائیل منتهکة نداءَ المقاطعة.

لقد شبّه الکثیرون 'الدولة' الفلسطینیة التی تتوخاها السلطة الفلسطینیة ورعاتها 'ببانتوستانات' نظام الفصل العنصری فی جنوب افریقیا، وهم مُحقّون فی تشبیههم. فلقد کانت البانتوستانات دولا مستقلة اسمیا أنشأها نظام الفصل العنصری لمنح 'المواطنة' للسود کوسیلة لتعطیل المطالب المُنادیة بالمساواة الحقیقیة. غیر أن الخدعة لم تنطلِ على حکومات العالم التی رفضت الاعتراف بالبانتوستانات، لأنها أدرکت أن الاعتراف الدبلوماسی بهذه الکیانات من شأنه فی الواقع أن یُعرقل النضال الرامی لإنهاء الفصل العنصری فی جنوب افریقیا.

ولیس مصادفة أن تکون إسرائیل هی الدولة الوحیدة التی ارتبطت بتعاملات واسعة مع البانتوستانات فسمحت لها بفتح بعثات دبلوماسیة واستقبلت قادتها فی مناسبات کثیرة. فقد رأت إسرائیل فی البانتوستانات نموذجا للطریقة التی ستتدبر فیها أمرَ الفلسطینیین یوما ما.

إن الاعتراف 'بدولة' فلسطینیة فی ظل الاحتلال الإسرائیلی سیعمل دون شک على تکریس وإدامة الامتیازات والمناصب التی یتولاها مسؤولو السلطة الفلسطینیة غیر المنتخبین، فی حین لن یحرک ساکنا من أجل تغییر الظروف أو استعادة حقوق ملایین الفلسطینیین لیس فی الأراضی المحتلة فی حرب حزیران/یونیو 1967 وحسب، بل وداخل إسرائیل وفی الشتات أیضا.

وبدلا من أن یزید ذاک الاعتراف الضغط الدولی المُمارَس على إسرائیل، فإنه قد یتیح للدول التی عجزت تماما عن واجبها فی مساءلة إسرائیل أمام القانون الدولی الفرصةَ لکی تنفض یدها من القضیة الفلسطینیة فتقول: 'لقد اعترفنا بفلسطین، فماذا تریدون بعدُ منّا؟'.

لا ینبغی للفلسطینیین وحلفائهم أن یُلهِهِم مسرح العبث الدولی هذا، بل ینبغی أن یرکزوا على إطلاق حملات مقاطعة أوسع وأعمق من أجل إنهاء الفصل العنصری الإسرائیلی حیثما وُجد وللأبد.

ن/25

 

 

 

 


| رمز الموضوع: 143142







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)