تقریر غولدستون مستند دولی لن یلغى بمقال صحفی!!
نبیل عودة
الضجة التی أثیرت حول تقریر القاضی غولدستون، بعد أن نشر مقالا فی صحیفة "واشنطن بوست" الأمریکیة، یبرر فیها بشکل ما عملیة "الرصاص المصبوب" بقوله إن السبب الرئیسی لعملیة الجیش الإسرائیلی فی قطاع غزة، هو إطلاق آلاف الصواریخ على مدنیین إسرائیلیین أبریاء، أعطى للقیادة الإسرائیلیة "وللراعی الأمریکی لیبرر حضانته للعدوان الإسرائیلی"، من رئیس الدولة شمعون بیرس، حتى رئیس الحکومة بنیامین نتنیاهو، وصولا إلى المعارضة "التی تختفی معارضتها حین یصل الأمر بتنفیذ جرائم ضد الإنسان الفلسطینی" مساحة واسعة من محاولة التنصل من الجرائم التی ارتکبت فی القطاع. والتی صدرت حولها تقاریر مختلفة منها تقریر هیومن رایتس وتش "جمعیة حقوق الإنسان الدولیة ومقرها واشنطن" وما کشفته من بعض الجرائم التحقیقات الإسرائیلیة نفسها مع جنودها وضباطها، على أثر تقریر غولدستون نفسه.
هناک تجاهل أن التقریر أعده ثلاثة أشخاص، برئاسة القاضی الجنوب أفریقی، ریتشارد غولدستون، والعضوین الآخرین لم نسمع صوتهما حول الندم على حدة التقریر، أو تغییر الظروف، کما برر ذلک غولدستون، ویقال إن الیهود فی جنوب أفریقیا مارسوا ضغطا شدیدا علیه.
ورغم مقاله المثیر للجدل، والمرفوض من لجنة حقوق الإنسان الدولیة، أعلن بلسانه أیضا أنه لا ینوی سحب تقریره، فهو یعلم أنه یجب أن یزیف التحقیقات المیدانیة التی قام بها مع عضوین آخرین فی اللجنة التی حملت اسمه "هل یوافقه العضوان الآخران؟" ویقلب الحقائق الدامغة، لیستطیع التفکیر بطلب سحب التقریر الذی یحمل اسمه. وعندها سیکون واحد من أمرین، إما أنه کتب تقریرا مزیفا، أو أنه یکذب الآن تحت ضغط أوساط صهیونیة؛ وسیضع نفسه بمواجهة العضوین الآخرین، مما یقضی على بعض ما تبقى له من نزاهة، إذا تبقى بعد مقاله شیئا منها!!
اللجنة التی کلفت بوضع التقریر والتی شکلت من ثلاثة أشخاص ترأسها غولدستون، وحمل التقریر اسم رئیسها، لا یعنی أن التقریر یتعلق بغولدستون کشخص، إنما بحقائق جمعت من القطاع، حسب مشاهداتهم وتحقیقاتهم، ولم یکن بیاناً صحفیا أصدره غولدستون أو غیره. والأهم هل یقصد غولدستون إعطاء إسرائیل شرعیة ضد القانون الإنسانی الدولی، أسوة بما تقوم به الولایات المتحدة؟
الأمر الأساسی الآخر، لا یمکن مقارنة حماس مع دولة إسرائیل، إسرائیل ما تزال تفرض حصاراً إجرامیاً، بخلاف واضح للقانون الدولی على قطاع غزة، وتمنع عن القطاع الکثیر من المواد الأولیة الضروریة. وبشکل ما إسرائیل احتلت القطاع لعشرات السنین، وترکته مدمرا ویفتقر لشروط الحد الأدنى لإدارة حیاة طبیعیة، التقریر کشف مثلاً استعمال القنابل الفوسفوریة وهی أسلحة محرمة دولیاً. قتلت أبریاء کما افتضح الأمر فی التحقیقات الإسرائیلیة نفسها، تصرف جنود الاحتلال بما یتناقض مع الحد الأدنى من الحفاظ على أرواح المدنیین، حادثة الطفل والحقیبة مثلا، ومقتل بنات الطبیب الفلسطینی الذی کان یعمل فی إسرائیل، ومقتل أبریاء یحملون الأعلام البیضاء.
وهناک موضوع هام آخر، أن إسرائیل رفضت التعاون مع اللجنة التی رأسها غولدستون، والتقریر کان حول إذا مارست إسرائیل سیاسة موجهة بالاعتداء على المدنیین، أم کان ذلک أمر شاذ وغیر مقصود؟
إن العدد الکبیر من المدنیین الذی قتلوا وأصیبوا ودمرت منازلهم ترکت حقائق وانطباعات بالغة الصعوبة، لا یمکن أن تبرر هذا العنف والقتل الذی لحق بالمدنیین. ولا ننسى أن وزراء فی حکومة إسرائیل أطلقوا تصریحات ناریة من نوع "علیهم" تدعو للتصرف بدون قیود، وبدون تمییز بین مسلحین ومواطنین عزل. هذا بحد ذاته یعتبر تجاوزا أخلاقیا، ولا أعرف إذا کانت له علاقة بالقانون الدولی أیضا!
هل یمکن نفی ما ارتکب من دمار وقتل فی قطاع غزة بمقال صحفی، لا شیء فیه من تفنید حقائق التقریر، ویمد إسرائیل بذریعة لم تعد تقنع أحدا، عن طهارة سلاح جیشها؟! ولکن الأمر المثیر، هل تقارن إسرائیل نفسها مع حرکة "حماس"؟ هذا هو المقیاس لدولة.. أی دولة کانت؟!
إن إطلاق "حماس" للصواریخ الحق ضرر بمجمل النضال الفلسطینی، وهی أشبه بالألعاب الناریة التی لا قیمة لها، ومقارنتها بالسلاح المتطور والهائل الذی تملکه آلة الحرب الإسرائیلیة یبدو مهزلة عرفت إسرائیل کیف تستغلها، وهنا تتبین جریمة حماس بحق الشعب الفلسطینی أولا.
تقریر غولدستون غیر قابل للنقض، ولا یمکن تغییر إسقاطاته. وإذا کان حکام إسرائیل یظنون أن تفوهات غولدستون الأخیرة هی خشبة إنقاذ للعودة لممارسة نفس أسالیب حملة "الرصاص المصبوب" وتغطیة لاستمرار الحصار الإجرامی والتحضیر للاعتداء على قافلة سفن الحریة المتوقع أن تنطلق فی شهر أیار القادم، فهذا وهم کبیر، الأفضل أن تنهی إسرائیل الأسباب التی تقود إلى اسمرار الصراع مع الشعب الفلسطینی.. وتنهی حصارها الإجرامی لقطاع غزة.
إن استمرار الحصار هو بمثابة حرب لا تقل ضحایاها ومآسیها عن عملیة الرصاص المصبوب.
ن/25