أین انتفاضة الفلسطینیین؟!
أین انتفاضة الفلسطینیین؟!
جواد البشیتی
أین الشعب الفلسطینی من حالة الانتفاض الشعبی العربی والتی یمکن ویجب فهمها على أنَّها دلیل حی على أنَّ الأمَّة العربیة قد استجمعت لاستیقاظها وبعثها التاریخیین الأسباب والوسائل والقوى؟!
أوَّلاً، وقبل کل شیء، لا بدَّ من أن یشحذ الفلسطینیون "والشباب منهم على وجه الخصوص" أذهانهم "وخیالهم السیاسی الثوری الواقعی" لإجابة السؤالین الآتیین: "ما المطلوب فلسطینیاً الآن، أو ما الذی یمکن، وینبغی للفلسطینیین، أن یریدوه الآن؟"، و"کیف "أی جملة الوسائل والأسالیب" یمکنهم التوصُّل إلى هذا الذی یریدون، وتحقیقه؟".
أنْ یؤکِّد الشعب الفلسطینی وجوده السیاسی المباشِر والقوی؛ هذا هو، على ما أحسب، أوَّل، وأهم، شیء ینبغی للفلسطینیین فعله من الآن وصاعداً.
وهذا إنَّما یعنی، من الوجهة العملیة والواقعیة، أنْ یبدأ الشعب الفلسطینی "والشباب منه على وجه الخصوص" فعله وعمله لتأکید وجوده وحضوره السیاسی المباشِر والقوی، من کل مخیَّم فلسطینی، فی داخل، وفی خارج، فلسطین؛ فالشباب فی المخیَّمات، ومهما کانت اتِّجاهاتهم السیاسیة والفکریة، مدعوون إلى بدء الحراک الشعبی بالاحتشاد والتظاهُر "وأشباهه" فی داخل کل مخیَّم، واختیار وانتخاب مجالس تمثِّل اللاجئین الفلسطینیین وحقوقهم ومطالبهم السیاسیة القومیة "والإنسانیة" وقضیتهم بأبعادها کافة.
إنَّ هذا الضغط الشعبی "للاجئین" الدائم والمنظَّم، والموحَّد المطالب والشعارات، هو وحده الکفیل بدرء المخاطر عن القضیة القومیة للشعب الفلسطینی، وبالتأسیس لوحدة دیمقراطیة فلسطینیة لا تتسامح مع القوى التی لها مصلحة "فئویة ضیِّقة" فی بقاء حالة الانقسام الحزیرانی الفلسطینی، وبإصلاح ما أفسده الفاسدون، وبإحباط مساعی التوطین کافة، ما ظهر منها وما استتر، وبتمکین اللاجئین أنفسهم من أنْ یتواضعوا، عبر الجدل والحوار، على تعریف "أو إعادة تعریف" قضیتهم، وعلى تعیین تصوُّرهم هُمْ لکیفیة حل مشکلتهم "حلاًّ عادلاً واقعیاً"، بعیداً عن "وضدَّ" الألاعیب وأسالیب الاحتیال التی تتسربل، مع أصحابها، بعبارة "الحل الإبداعی الخلاَّق"؛ فإنَّ أهل مکة أدرى بشعابها؛ وإنَّهم قد نضجوا، وعیاً وتجربةً، بما یجعلهم فی غنى عن وصایة الأوصیاء، من الأقربین والأبعدین.
إنَّ من الأهمیة بمکان أنْ نرى حالة الانتفاض الشعبی الفلسطینی فی کل مخیَّم، فی داخل فلسطین، وفی خارجها، وأنْ نرى تلک الحالة تتمخَّض عن إنشاء وتطویر مجالس تمثیلیة، تتَّحِد جمیعاً على هیئة هرم، حتى إذا قال قائل إنَّ اللاجئین "أو بعضهم" سعداء فی منفاهم هذا، أو ذاک، أوضحوا له، وأکَّدوا، عبر مجالسهم هذه أنَّهم لیسوا کما زَعَم، وأنَّهم لا یَعْرِفون من الشعر العربی کله إلاَّ البیت "وطنی لو شُغْلُ بالخلد عنه..".
کما أنَّ من الأهمیة بمکان أنْ نرى العداء العربی للتوطین یتأکَّد فعلاً لا لفظاً من خلال احترام هذا الحق الدیمقراطی البسیط للاجئین، والذی لا تتعارض ممارستهم له مع الحقوق السیادیة للدول العربیة التی یقیمون على أراضیها، ولا تضر بأمنها واستقرارها؛ فالأمر کله لا یتعدَّى أنْ یؤکِّد اللاجئون، فی داخل حدود کل مخیَّم، وجودهم السیاسی، وحقهم "الذی لا ریب فیه" فی أنْ یقولوا مباشرَةً "بتظاهرهم واعتصامهم.." أو عبر ممثلیهم المنتخبین منهم مباشَرةً: "هذا نریده، وهذا لا نریده".
أمَّا بقاء اللاجئین جماعةً خرساء، أو صفریة الوزن السیاسی، فهذا أمر لا یحرص علیه إلاَّ کل من له مصلحة فی جعل التوطین جزءاً من "الحل الإبداعی الخلاَّق" لمشکلتهم "القومیة والإنسانیة".
ولن ینال من قوَّة هذه الحقیقة زَعْم من قبیل أنَّ اللاجئین سیُدْلون برأیهم فی أیِّ اتِّفاقیة تتضمَّن حلاًّ نهائیاً لمشکلتهم عبر "استفتاء شعبی"، أو بوسیلة أخرى إذا ما تعذَّر إجراء هذا الاستفتاء فی دولة أو دول ما؛ فإنَّ لعبة أو حیلة "الاستفتاء الشعبی" ما عادت ممکنة النجاح فی هذا الزمن العربی الشعبی الجدید والجیِّد، والذی من أهم سماته أنَّ أحداً من الزعماء والقادة والحکَّام ما عاد فی مقدوره خداع أحد من الشعب.
وقد یصح أنْ أضیف إلى هذا الزمن سمة مهمة أخرى هی أنَّ الشعوب العربیة، ومنها الشعب الفلسطینی، ما عادت طوباویة فی ثوریتها، تنأى فی تفکیرها الثوری عن الواقعیة السیاسیة الحقیقیة، أی الواقعیة السیاسیة التی لیست بلبوس تلبسه الروح الانهزامیة. وإنِّی لمتأکِّد أنَّ اللاجئین الفلسطینیین الذین جعلوا فی أیدیهم زمام أمرهم سینظرون إلى ما اختلف من الواقع الموضوعی لقضیتهم القومیة بعیون مختلفة، بعیون ترى الحقوق من غیر أنْ تضرب صفحاً عن الحقائق، وترى الحقائق من غیر أن تستذرع بها للتفریط فی الحقوق؛ فاللاجئون هؤلاء سیُحدِّدون بأنفسهم معنى "الحل العادل الواقعی" لمشکلتهم بلا إفراط أو تفریط.
هذه هی الحلقة الأولى فی سلسلة الحراک الشعبی الفلسطینی الممکن والضروری الآن؛ أمَّا الحلقة الثانیة فهی أهل القدس الشرقیة الذین ینبغی لهم تأکید وجودهم السیاسی المباشِر والقوی، وتنظیم هذا الوجود بما یسمح لهم بالتحوُّل إلى قوَّة ضغط شعبی دائم، لا یمکن تخطِّیها، أو تجاهلها، فی کل ما یخصُّ أمر المدینة المقدَّسة "والعاصمة المقبلة لدولة فلسطین" من حلول، أو مقترحات للحلول.
والحلقة الثالثة هی الحراک الشعبی الفلسطینی فی مدن وقرى الضفة الغربیة وقطاع غزة، والذی یؤسِّس لحالة دائمة من الانتفاض الشعبی المنظَّم، ضدَّ الانقسام والذین لهم مصلحة فی إدامته، وضدَّ الفساد بصوره کافة، وضدَّ کل تفاوض مع إسرائیل لا یلقى قبولاً شعبیاً، وضدَّ کل تعدٍّ على الحقوق والحرِّیات السیاسیة والدیمقراطیة والمدنیة للمواطنین، وضدَّ حالة الانفصال السیاسی والتمثیلی المتزاید بین "الشارع" وبین من یمارسون السلطة، ویدَّعون أهلیة وشرعیة القیادة؛ فالتمثیل الزائف، أو المشکوک فیه، حان له أن ینتهی، وحان للقیادات جمیعاً، وفی الشطرین معاً، أنْ تُثْبِت فی الدیمقراطیة، وبالدیمقراطیة، أهلیتها القیادیة، وشرعیتها فی التحدُّث باسم الشعب.
وهذا الذی قُلْت إنَّما قُلْتُه لأُبیِّن أنَّ تصفیر الوزن السیاسی للشعب، وإقصاءه وتغییبه عن المعترک السیاسی، هو ما تسبَّب، ویتسبَّب، فی هذا الخلل الکبیر، لمصلحة إسرائیل، فی میزان القوى السیاسی "والتفاوضی" بینها وبین الفلسطینیین، فالشعب الفلسطینی إنَّما یرید أنْ یقود نفسه بنفسه، وأنْ یصبح، لجهة علاقته بقیادته، الرقبة التی تحرِّک الرأس کیف تشاء.
ن/25