qodsna.ir qodsna.ir

السؤال المحیّر عن موقف أمیرکا من الثورات العربیة

وصلنا هذا المقال من السید صبحی غندور مدیر مرکز الحوار العربی فی واشنطن

 

سؤالٌ یتکرّر الآن کثیراً: ما هی المصلحة الأمیرکیة فیما یحصل من ثورات وحرکات تغییر عربیة؟ وهل دور الإدارة الأمیرکیة مؤثّرٌ فعلاً فی مصیر هذه الثورات؟

ما فرَض طرح هذا السؤال هو الموقف الأمیرکی من ثورة 25 ینایر فی مصر حیث کان لإدارة أوباما رأی واضح فی دعم هذه الثورة، وفی دعوة حسنی مبارک للاستقالة من منصبه. وقد تکرّر هذا الموقف الأمیرکی أیضاً مع الثورة الشعبیة اللیبیة التی ما زالت تتفاعل ضدّ حکم العقید معمر القذافی.

فئةٌ قلیلة من المحلّلین السیاسیین العرب والدولیین أعطت إدارة أوباما أکثر مما تستحقّ من فضل فی حدوث هذه الثورات وفی إنجازاتها. لکن رغم قلّة أصحاب هذا الرأی، فمن المهمّ القول أنّ هذه الثورات والانتفاضات العربیة الراهنة هی صناعةٌ محلّیةٌ خالصة، ولیست بمستوردةٍ من أمیرکا أو من غیرها. هی نابعة من شعوب المنطقة ومعاناتها لعقود طویلة مع أنظمة فاسدة مستبدّة فی الداخل وغیر وطنیة فی سیاساتها الخارجیة. هی أنظمة عاشت أصلاً على الدعم الخارجی لها فاستقوت على شعوبها ونهبت ثروات أوطانها. ولعلّ فی سیرة ثورة تونس ما یؤکّد هذه الخلاصة، حیث صمتت واشنطن وعواصم العالم لأکثر من ثلاثة أسابیع عمّا کان یحدث فی تونس من ثورة وعنف دموی ضدّها إلى حین حدوث بشائر سقوط نظام بن علی. فأدرکت واشنطن وغیرها أنّ شعلة ثورة تونس ستمتدّ إلى عموم المنطقة العربیة بما حملته من نموذج رائع فی أسلوبها وبما حقّقته من إنجاز کبیر على نظامٍ له شقائق طغیان فی أکثر من بلد عربی. فهکذا بدأت ثورة مصر مستفیدةً من تجربة تونس، ومضیفةً إلیها أبعاداً هامّة فی الأسلوب وفی النتائج، بحکم موقع مصر وثقلها البشری والحضاری ودورها التاریخی الریادی.

الولایات المتحدة الأمیرکیة لیست جمعیةً خیریة دولیة مهتمّة بحقوق الإنسان فی العالم، وهی لیست منظمة دولیة لدعم حرکات التغییر ونصرة حقوق الشعوب المقهورة. أمیرکا هی دولة عظمى تبحث کغیرها من الدول الکبرى عن مصالحها وعن ضمانات استمرار هذه المصالح فی هذا المکان أو ذاک من العالم، وبغضّ النّظر عن أشخاص الحاکمین فی أیِّ دولةٍ تدعمها واشنطن.

إذن، معیار المصلحة الأمیرکیة هو المحرّک الآن للمواقف الأمیرکیة من حرکات التغییر العربیة، تماماً کما کان هذا المعیار وراء موقف الرئیس الأمیرکی السابق أیزنهاور خلال العدوان الثلاثی البریطانی/الفرنسی/الإسرائیلی عام 1956 على مصر، حینما وقفت أمیرکا ضدّ هذا العدوان وساندت وقفة الشعب المصری فی حرب السویس.

ولقد استفادت إدارة أوباما من دروس تجربة إدارة بوش وإخفاقاتها وخطایاها، خاصّةً لجهة استخدام الإدارة السابقة للقوة العسکریة الأمیرکیة من أجل إحداث تحوّلات سیاسیة فی الشرق الأوسط أو لتغییر أنظمة، کما حدث فی أفغانستان وفی العراق. وهی "استفادة أوبامیة" بالاضّطرار ولیس بالاختیار، فأمیرکا لا تستطیع الآن الدخول فی حروبٍ جدیدة بل هی تحاول الخروج من حروبها فی العراق وأفغانستان. وقد عبّر وزیر الدفاع الأمیرکی روبرت غیتس عن هذا التوجّه الأمیرکی الجدید حینما قال "إنّ أی وزیر دفاع أمیرکی یأتی بعده علیه أن یفحص عقله قبل الإقدام على إدخال أمیرکا فی حرب جدیدة فی الشرق الأوسط أو آسیا".

أیضاً، من المهمّ التوقّف عند ما نشرته "نیویورک تایمز" من مقال لمارک لاندلر کشف فیه عن وجود "تقریر سری" طلب الرئیس أوباما إعداده فی شهر أغسطس/آب الماضی عن أوجه الاضطراب فی العالم العربی، حیث خلص التقریر إلى أنّه "بدون إجراء تغییرات سیاسیة کاسحة، فإن الأوضاع فی عدّة بلدان عربیة تسیر نحو ثورات شعبیة کبیرة". وکانت مصر أبرز هذه البلدان المحتمل تفجّر الأوضاع فیها. وقد حثّ التقریر على "إعداد مقترحات حول کیفیة تعامل الإدارة مع هذه التغییرات السیاسیة المحتملة ضدَّ حکّامٍ شمولیین هم أیضاً حلفاء مهمّون لأمیرکا". وطالب التقریر أیضاً بدراسة "کیفیة الموازنة بین المصالح الإستراتیجیة الأمیرکیة والرغبة فی تجنّب فوضى واسعة وبین المطالب الدیمقراطیة لشعوب هذه البلدان".

لقد کان المشروع الأمیرکی للمنطقة خلال حقبة بوش و"المحافظین الجدد" یقوم على فرض حروب و"فوضى خلاّقة" و"شرق أوسطی جدید" وفی الدعوة لدیمقراطیات "فیدرالیة" تُقسّم الواطن الواحد ثم تعید ترکیبته على شکل "فیدرالی" یحفظ حال التقسیم والضعف للوطن ویضمن استمرار الهیمنة والسیطرة على ثرواته ومقدّراته وقرارته. وکانت نماذج هذا المشروع فی العراق وفی السودان معاً. الآن نجد إدارة أمیرکیة تعمل على تحقیق المصالح الأمیرکیة من خلال دعوة الحکومات العربیة (والضغط علیها) لتحقیق إصلاحات دستوریة واقتصادیة تحفظ استمراریتها وتضمن أیضاً فی هذه البلدان بقاء المصالح الأمیرکیة، إذ لا یهمّ الحاکم الأمیرکی إلا المصالح الأمیرکیة، فهو قد یکون مع تغییر أشخاص وحکومات فی بلدٍ ما ولا یکون کذلک فی بلدان أخرى. الأمر یتوقّف طبعاً على "ظروف" هذا البلد ونوع العلاقة الأمیرکیة مع المؤسسات القائمة فیه بما فیها المؤسسة العسکریة، لکن الاعتبار الأمیرکی الأهم هو "نوع" البدائل الممکنة لهذا النظام أو ذاک.

إنّ إدارة أوباما لا تصنع الآن ثورات المنطقة، فهذه ثورات وطنیة ذات إرادة حرّة، لکن الإدارة الأمیرکیة تحاول استثمار ما یحدث، کما تحاول أطراف دولیة وإقلیمیة عدیدة، من أجل تحقیق مصالحها فی منطقة إستراتیجیة الموقع، غنیة الثروات، منطقةٌ هی الآن محور الاهتمام الدولی وفیها الوجود الإسرائیلی وامتدادات نفوذه وتأثیراته الدولیة حتّى على صُنّاع القرار فی "البیت الأبیض". وکما کان التأثیر الإسرائیلی کبیراً فی مواقف إدارة بوش تجاه العراق والسودان، ستعمل إسرائیل أیضاً على تحویل الثورات الشعبیة العربیة إلى مناطق حروب أهلیة وعلى دفع المنطقة کلّها لحال التدویل، إنْ أمکنها ذلک.

لکن الأساس یبقى فیما هو علیه الشارع العربی من توحّد وتمیّز مقدار وعیه السیاسی لمصالح وطنه وشعبه. فالرؤى الأمیرکیة والدولیة والإسرائیلیة هی مجرّد مشاریع إلى أن تجد من یتعهّد تنفیذها من حکومات أو جماعات معارضة، فحینها یُصبح هذا "المتعهّد العربی" هو مصدر الخطر على الوطن وعلى حرکات التغییر فیه.

إنَّ العرب یریدون لأمَّتهم ما أراده الأمیرکیون للأمَّة الأمیرکیة عند إعلان استقلال أمیرکا عن هیمنة التاج البریطانی، وهذا یعنی حقّ التحرّر الوطنی وحقّ المقاومة ضدَّ الاحتلال.

العرب یریدون لأمَّتهم حقّ اختیار البناء الدستوری السلیم المتلائم مع طبیعة الأمَّة العربیة وحضارتها، والذی یکفل أیضاً حرّیات المواطنین والمساواة فیما بینهم، وحقوقهم جمیعاً فی المشارکة بصنع القرار الوطنی دون أیِّ تمییز.

العرب یریدون لأمَّتهم تکاملاً بین أوطان الأمَّة الواحدة وتطویرَ صیغ العمل العربی المشترک، ویریدون فی أمَّتهم حقَّ رفض أیّة دعواتٍ انفصالیة أو تقسیمیة فی کلِّ بلدٍ عربی، وتثبیت وحدة الکیانات ووحدة الأوطان ووحدة المواطنین.

لقد کانت هذه هی خلاصات التجربة التاریخیة الأمیرکیة فی مجالات التحرّر والبناء الدستوری والتکامل الاتحادی، وفی رفض الحالات الانفصالیة، فلِمَ لا تدعو الآن واشنطن العربَ بل العالمَ کلّه للأخذ بهذه الخلاصات عوضاً عن ممارستها أحیاناً عکس ذلک؟!.

ن/25

 

 

 


| رمز الموضوع: 143131