أسف على رحیل ابو الغیط

عبد الباری عطوان
ما زالت الثورة المصریة قادرة على مفاجأتنا بین الحین والآخر بانجازاتها الکبرى، رغم مرور ما یقرب الشهر على تنحیة الرئیس حسنی مبارک، ولعل اقالة حکومة اللواء أحمد شفیق آخر رئیس وزراء العهد السابق، وقبل مظاهرتها الملیونیة المقررة الیوم فی میدان التحریر، هو تتویج لجهودها الراسخة لتطهیر مصر من کل ادران ذلک العهد.
فاللواء شفیق یعتبر من 'تلامیذ' الرئیس مبارک النجیبین، واکثرهم اخلاصا له، سواء بحکم الصداقة، او الانتماء الى سلاح الطیران الذی جمعهما، وقد یکون الرجل نظیفا، ویتمتع بکفاءة عالیة، تؤهله لمثل هذا الموقع، ولکن اختیاره من قبل الرئیس المخلوع لرئاسة الوزارة، وفی الوقت الضائع من حکمه، کان بمثابة الرصاصة القاتلة.
الغلطة الکبرى التی ارتکبها هذا الرجل لیس فقط قبوله تشکیل الحکومة، والشارع المصری یثور ویطالب باسقاط النظام، وانما ایضا بالابقاء على وزراء مکروهین وفاشلین فی نظر الغالبیة الساحقة من ابناء الشعب المصری، ونحن نتحدث هنا عن وزراء الخارجیة والداخلیة والعدل.
اللواء شفیق اعترف فی لقاء تلفزیونی مع الزمیل یسری فودة على قناة 'اون.تی.فی' ان الرئیس مبارک هو الذی فرض علیه هذا الثالوث، واصر على بقائهم فی مناصبهم فی حکومته، وربما یکون ذلک صحیحا، ولکن کان بامکانه ان یبعدهم عن حکومته فی التعدیل الوزاری الذی اجراه قبل اسبوعین، وبعد سقوط الرئیس مبارک، ورحیله الى منفاه الحالی فی منتجع شرم الشیخ، وفی المقر الفخم الذی بناه له حسین سالم سمسار صفقة الغاز المشبوهة مع اسرائیل، والمطلوب للمساءلة من قبل النائب العام المصری.
ابقاء شخص مثل السید احمد ابو الغیط وزیر الخارجیة وعمید اکادیمیة تکسیر العظام، یشکل استفزازا للغالبیة الساحقة من ابناء الشعب المصری، واهانة للتاریخ المشرف للدبلوماسیة المصریة، ورجالاتها المتمیزین مثل حسین فهمی ومحمد ابراهیم کامل ومحمد ریاض وعمرو موسى.
ربما یکون هناک من سیأسف على رحیل اللواء شفیق وبعض وزرائه، ولکننا لا نعتقد ان احدا سیأسف على رحیل السید ابو الغیط خاصة فی قطاع غزة الذی توعد اهله بکسر ایدیهم وارجلهم اذا ما عبروا حدود مصر الشقیقة هربا من العدوان الاسرائیلی وفوسفوره الابیض، وبحثا عن علبة حلیب، او رغیف خبز لسد جوع اطفالهم.
' ' '
لا نعرف ما اذا کان السید ابو الغیط سینتهی فی الزنزانة نفسها التی یقبع فیها حالیا زملاؤه فی وزارة الفساد من امثال الحبیب العادلی (الداخلیة)، واحمد المغربی (الاسکان) واحمد عز (ملک الحدید وامین التنظیم السابق فی الحزب الوطنی)، ولکن الرجل ارتکب جرائم فی حق مصر لا تقل خطورة عن جرائم هؤلاء.
فالمحاسبة لا یجب ان تقتصر على اتهامات الاختلاس او هدر الاموال، فثمة جرائم اشد واعتى ارتکبها النظام السابق ورجالاته بحق الشعب المصری، ولذلک فانه مطلوب محاکمة ابو الغیط على تعریض امن مصر، بل ووجودها نفسه للخطر بتقصیره الفاضح فی ملف نهر النیل، وعدم انتباهه للتسلل الاسرائیلی الى دول المنبع وتحریضها على تقلیص حصة بلاده من المیاه. مطلوب ایضا محاسبته على انهیار دور مصر الاقلیمی، وصمته المریب الذی وصل الى درجة التآمر مع وزیرة الخارجیة الاسرائیلیة تسیبی لیفنی لشن عدوان على قطاع غزة، ناهیک عن محاصرة القطاع لاکثر من اربع سنوات متواصلة.
مطلوب ایضاً محاکمة وزیر العدل، الذی اصر الرئیس مبارک على بقائه فی الحکومة أیضاً، بالتستر على تزویر الانتخابات الرئاسیة والبرلمانیة، والانتقاص من استقلال القضاء المصری وکرامته، وتشویه صورته، بعد ان شاهدنا قضاة شرفاء فی عهده السیئ الذکر، یهانون ویضربون بالاحذیة ولم یزدهم ذلک الا ایماناً بمهمتهم السامیة، وتصلباً فی مواقفهم لمواجهة الظلم والقهر والتزویر.
ولا ننسى فی هذه العجالة التنویه بموقف المجلس العسکری الانتقالی، وتجاوبه السریع مع مطالب الثوار المشروعة فی التغییر، وازالة کل رموز عهد الفساد. وتکلیف رئیس وزراء جدید (د.عصام شرف) مشهود له بالکفاءة المهنیة ونزوله وطلابه الى میدان التحریر لدعم الثورة والمطالبة باسقاط النظام السابق.
' ' '
مصر تتغیر نحو الافضل حتماً، او هذا ما نلمسه حتى الآن من خلال الخطوات المتلاحقة من قبل المجلس العسکری، وان کنا ما زلنا نأمل بالمزید. فمن کان یصدق ان یصدر النائب العام المصری امراً بتجمید اموال الرئیس مبارک وافراد اسرته والتحقیق معهم جمیعاً بتهمة الکسب غیر المشروع. ومن کان یتوقع ان تعارض الحکومة المصریة فرض مناطق حظر جوی فوق لیبیا استجابة لطلب امریکی.
نذهب الى ما هو ابعد من ذلک، ونقول من کان یتصور ان تسمح مصر، زعیمة محور الاعتدال (سابقا) بمرور سفن عسکریة ایرانیة کانت فی طریقها الى میناء اللاذقیة السوری والعودة الى البحر الاحمر عبر قناة السویس مؤکدة بذلک قرارها السیادی المستقل، وابتعادها بالکامل عن کل مواقف النظام السابق وتحالفاته المشبوهة.
المؤسسة العسکریة المصریة هی الوحیدة التی لم تنهر رغم انهیار کل مؤسسات الدولة السیاسیة التی ترسخت وفق امزجة وتحالفات ومصالح الرئیس المخلوع واسرته ومافیا رجال الاعمال المحیطة به. وجاء انحیازها للشعب وثورته علامة فارقة لیس فی تاریخ مصر وانما المنطقة بأسرها، وهو انحیاز للوطنیة والعدالة ومحاربة الفساد والظلم.
بقی ان نطالب هذه المؤسسة باکمال ما تبقى من مهام، وابرزها تطهیر الاعلام المصری من کل المنافقین من ابواق النظام السابق الذین انخرطوا بحماس مخجل فی عملیات تضلیل الشعب المصری، والتستر على جرائم الفساد وتغییب الدور المصری وتقزیمه، وتوظیفه فی خدمة اجندات غیر مصریة بل وغیر عربیة. ایضاً مطلوب 'تنظیف' السلک الدبلوماسی المصری من اناس لیست لهم علاقة بالدبلوماسیة، ولا یشرف مصر العظیمة ان یکونوا سفراء لها فی مختلف عواصم العالم.
الوجه المصری الجمیل یجب ان یبرز مجدداً بکامل نضارته واناقته، الوجه الذی نهض من رحم میدان التحریر، البقعة الاکثر طهارة فی تاریخ مصر الحدیث.
ن/25