التکنولوجیا الإسرائیلیة والشیء بالشیء یذکر
الکاتب المغربی مصطفى أمزیر
تناقلت وسائل الإعلام فی الأیام الماضیة، نبأ اختراع إسرائیلی جد متقدم فی مجال التسلیح العسکری؛ یتعلق الأمر بطائرة تعمل بدون ربان. بإمکان هذه الطائرة التحلیق لمدة عشرین ساعة متواصلة بدون الحاجة إلى التزود بالوقود . اختراع هائل بدون شک، بإمکانه جعل أبعد نقطة إسلامیة فی خریطة الکون داخل دائرة التهدید المباشر للحربیة الصهیونیة. ولنتخیل حجم ما یمکن أن تجنیه هذه التکنولوجیا المتطورة من عائدات مادیة وأخرى سیاسیة 'لإسرائیل' إذا ما عرضت اختراعها هذا للبیع.
الواقع أن الکیان الصهیونی منذ نشأته وهو یعمل لیل نهار لبناء مجتمع معرفی عقائدی مصنِّع مستقل، قادرعلى العیش فی أسوأ الظروف داخل محیط مهیأ لأسوأ التحولات. فهو کیان یدرک حق الإدراک أنه غیر طبیعی فی المنطقة، وأن المراهنة على التطبیع مع شعوبها غیر مضمون النتائج حتى ولو بصم حکامها بأصابعهم العشر على وجوده، وتآمروا و باعوا وسلموا ودجنوا...فالمزاج الشعبی تتحکم فیه عوامل أخرى لا زالت وازنة فی وجدانه العام، قابلة لتولید 'الانفجار العظیم' إذا ما تهیأت الظروف ،وتفاعل المعتقد مع التراکمات التاریخیة الجاریة فی المنطقة . کما أن هذا الکیان یعرف ،منذ السنوات الأولى لقیامه،أنه مدین فی وجوده للغرب، تتلقفه - تناوبا- ید العنایة من دولة الى أخرى.کما یفهم هذا الکیان الغاصب أن هذه العنایة و الکرم الغربیین مشروطان بحسابات أیدیولوجیة وأخرى اقتصادیة غیر آمنة، قابلة للتحول مع قانون المصلحة، وناموس التداول على مراکز القوة داخل حرکیة التدافع الحضاری. لذلک فإن السیاسة الصهیونیة اتجهت، بکل صبر ودهاء مع التخطیط المحکم، نحو التحکم الذاتی فی مصیر هذا الکیان الغاصب ومستقبله؛وقد سلکت 'اسرائیل' فی سبیل ذلک استراتیجیتین أساسیتین: الأولى استهدفت التخلص من الاعتماد الکلی على السخاء الغربی، وذلک بالعمل على حشد القوى البشریة الیهودیة، وتجمیع الخبرة الفنیة ، وتنمیة رؤوس الأموال المحلیة، وإنشاء المصانع الحربیة والنوویة...حتى إذا ما اضطر الغرب تحت أی ظرف مستقبلی التخلی عن مشروعه الصهیونی، کان قادرا على تثبیت نفسه، وتوفیر الحمایة الذاتیة لاستمراره. الثانیة: استراتیجیة خلق دوائر زمنیة فارغة ، بإمکانها استهلاک الزمن دون أن تحقق للطرف المعادی(العربی) أیة مکاسب على الأرض؛هکذا استطاعت ' إسرائیل' فی ظرف الستین سنة الماضیة خلق داوئر حراریة وهمیة ،استقطبت ردود فعل الصراع بعیدا عن المشکل اللب المتعلق بمشروعیة وجودها فی فلسطین. فقد صنعت دوائر صراع هامشیة فی کل من سیناء والضفة الغربیة و الجولان و لبنان وغزة...کانت کل دائرة من هذه الدوائر الفرعیة فی الصراع تکسبها امتدادا زمنیا فی عمرها الاستیطانی الإحلالی بلغ لحد الآن ما یناهز سبعة عقود.
الثروة المهدورة
بموازاة مع خبر التکنولوجیا الصهیونیة المتطورة، تحدثت وسائل الإعلام فی الأیام الماضیة نفسها عن عزم الملیاردیر ولید بن طلال إنشاء برج فی الریاض لتسجیل اسم المملکة السعودیة فی 'موسوعة غنیس' کحاضنة لأطول منشأة معماریة فی العالم، على مدى کیلومتر من الإسمنت فی السماء . فی حدث جاء على ما یبدو ردا على نیل هذا 'اللقب المهم 'من طرف إمارة دبی ،التی لم تتعاف بعد من خسائرها المالیة المعتبرة،حینما سجلت رقما قیاسیا 'معجزا ' بثمانمئة وستة وعشرین مترا ! فیما أعلنت إمارة قطر من جانبها الدخول فی غمار هذه المنافسة المحمومة، لکن باستراتیجیة أکثرلفتا لانتباه العالم وذلک بوضع حجر الأساس لأعلى برج فی أوروبا وسط العاصمة البریطانیة لندن! ولنقارن مشاغلهم بمشاغلنا! قد یشتبه على البعض ،من ذوی الغیرة الوطنیة المشبعة بحسن نیة ساذجة، مقاصد مثل هذه المشاریع العربیة الثقیلة ؛ قد تکون هذه المبانی 'الصاروخیة الهائلة ' فی نظرهم جزءا من خطط تنمویة شاملة تستهدف خلق مناصب شغل جدیدة، والرفع من عائدات هذه الدول من العملة الصعبة فی إطار تشجیع السیاحة.قد یکون هذا الاحتمال الطیب واردا لولا الاعتبارین التالیین:
إن المستفید الأول من مثل هذه المشاریع الضخمة هی المصانع الغربیة أساسا: فهذه المبانی الشاهقة تحتاج إلى کم هائل من الإسمنت ، و الآجورن، والرخام، و الصباغة، وأسلاک الهاتف والکهرباء ،وآلاف الأمتار من قنوات الماء ، والصنابیر، وقطع الأثاث والدیکور، والزجاج...والمهندسین الأجانب. ولنتخیل حجم العافیة الذی یمکن أن تحدثها هذه المشاریع على الصناعات الغربیة المفلسة. فالمقصود هو إنقاذ الغرب من أزمته ، لا الاستجابة إلى حاجة محلیة ملحة. خاصة إذا ما استحضرنا زیارة رئیس وزراء بریطانیا براون للخلیج إبان اندلاع الأزمة وحثه ،غیر اللبق الواصل حد العنف اللفظی ،لهذه الدول على ضرروة تحمل عبء الأزمة ولو بالسیولة المتوفرة فی الصنادیق السیادیة. وهو ما حصل بالفعل حینما تهافت الاستثمار الخلیجی على شراء أسهم البنوک والشرکات والأندیة الریاضیة المتهالکة...
متى کانت دول المنطقة تراهن على المنتوج السیاحی؟ فکل میزانیاتها مبنیة على احتمالات الدخل من عائدات البترول مدا وجزرا.فهی تستهلک السیاحة ولا تنتجها فی العالم. ثم ،من منطق الجودة السیاحة، ماذا یمکن أن یقدمه برج شاهق من إثارة استهلاکیة للسائح الغربی؟ فالمثیر فی عینی هذا الأخیر هو البداوة، والصحراء، والشمس ،والعادات المختلفة عن عاداته... ولیست المبانی العالیة الشائعة فی الغرب!
تنتفی حسن النیة إذن عن مثل هذه المشاریع العربیة ،التی أقل ما یمکن وصفها به بالعمالة لمراکز النفوذ الرأسمالی الغربی وضغوطه. مشاریع لم تفکر فیها 'إسرائیل' یوما ! و لا وردت على ذهن مخططی التنمیة فی الهند، والصین، وجنوب إفریقیا...! دول تتسابق نحو نقل مجتمعاتها نحو إنتاج المعرفة والاستثمار فی الإنسان. فالمستقبل هو للمعرفة ،والبحث، والمعلومات ، والتقنیات. فقیمة المواد الخام التقلیدیة کالنفط فی تراجع مستمر، کما أن الاحتیاطات العربیة من هذه المادة آیلة إلى النضوب حتما فی السنوات الخمسین القادمة. وهناک دراسات تتحدث عن توفر العالم الصناعی- منذ سنوات- على مشاریع جاهزة بدیلة عن النفط ،یبطئ فی تنفیذها ، ضغوط الشرکات النفطیة الکبرى التی تربطها بالدول العربیة النقطیة عقد استثماریة استغلالیة مدرة للسیولة بشکل مهول. إن الصورة تبدو قاتمة لمستقبل الإنسان العربی ، فلا تخطیط ولا استراتیجیة ولا حتى غیرة على البلاد أو العباد. الشیء الذی یدفعنا دفعا نحو تأویل ذلک بالتواطؤ الواعی بین الأنظمة العربیة ومراکز الإنتاج الرأسمالی لتولید التخلف والمحافظة علیه فی بلداننا، تکریسا للهیمنة الامبریالیة التی تجد فینا سوقا ضخما لمنتجاتها ابتداء من ' ثقب الإبرة ' إلى ' عربسات'. وإلا ما المانع من تأسیس مشاریع صناعة فنیة أو حربیة فی بلادنا؟ أموالنا تختنق تکدسا فی بنوک سویسرا و الأمریکان،وکوادرنا العلمیة تموت عطالة أو تشتتا فی الغربة،أرضنا تتفجر من المحیط إلى المحیط بملیون نوع خام...أمام کل ذلک لا زال 60' من ساکنة العالم العربی یعانی الأمیة! ولا زالت مساهمة العرب فی البحوث العلمیة العالمیة لا تتجاوز 0،003'! فی الوقت الذی تساهم فیه 'إسرائیل' ب 1،3' والولایات المتحدة الأمریکیة بـ 37' والمحیط الهادی بـ 21' و الهند بـ 2,2'.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS