الاثنين 14 ذوالقعدة 1446 
qodsna.ir qodsna.ir

إسرائیل: من سطوة المؤسسة العسکریة إلى سطوة المؤسسة الدینیة

 

 الدکتور عبد اللّطیف الحنّاشی

 

قد تکون إسرائیل من بین الدول القلیلة فی العالم التی استمر الجیش والمؤسسة الدینیة فی حکمها وإدارة مختلف شؤونها بالرغم من الادعاء بأنها دولة دیمقراطیة عصریة على النمط الغربی. واستمد هذا الجیش "شرعیته" من دوره فی تأسیس الدولة وذلک على أنقاض الشعب الفلسطینی من ناحیة، ودوره فی حمایة الدولة و"الشعب" من ناحیة أخرى..

وکان مؤسس الدولة دافید بن غوریون قد کتب بعد قیام إسرائیل: "من الآن فصاعدا على الیهودی أن لا ینتظر التدخل الإلهی لتحدید مصیره، بل علیه أن یلجأ إلى الوسائل الطبیعیة العادیة مثل الفانتوم والنابالم". کما اعتبر أن: "الجیش الإسرائیلی هو خیر من یفسر التوراة". وفی مقابل ذلک حاول بن غوریون بناء الجیش وفق نظام الجیوش فی ‏الدول الدیمقراطیة الغربیة، على أساس الفصل بین المؤسسة العسکریة التی تعمل فی الثکنات والمؤسسة ‏السیاسیة التی تعمل فی المجال المدنی العام،‏ لذلک ظل المجتمع الدولی والغربی تحدیدا ینظر إلى تلک الدولة باعتبارها دولة دیمقراطیة، مبررا سلوکها العدوانی العنصری ضد السکان الفلسطینیین سواء فی أراضی 48 أو فی الضفة أو القطاع أو حتى فی أرض الشتات أین تتعرض بعض القیادات إلى الاغتیالات المنظمة.

ومن آخر المصطلحات التی أخذت تتردد من قبل بعض الأکادیمیین فی حقل علم الاجتماع والسیاسة لتبریر الأعمال الوحشیة للجیش الإسرائیلی ما أطلق علیه بـ"الدیمقراطیة المحتمیة". إذ یبرر هؤلاء من خلال استخدام هذا المصطلح أعمال إسرائیل الإرهابیة ضد الشعب الفلسطینی باعتبار أن إسرائیل الدیمقراطیة التی تواجه العنف المستمر من محیطها الخارجی مضطرة لاستخدام جمیع الوسائل العنیفة للدفاع عن کیانها وعن دیمقراطیتها.

وقد ازداد دور هذا الجیش تشعبا مع استمرار شعور السکان بالخطر الوجودی الذی یتربص بهم وهو المتأتی من الأقلیة العربیة فی الداخل ومن المحیط الجغرافی، فکان من نتائج ذلک أن تولدت عقلیة عسکریة هیمنت على الدولة والمجتمع تعتبر القوة أداة أساسیة وقیمة علیا للدفاع عن الدولة والمجتمع، لذلک تحول الجنرالات فی المخیال العام للسکان أمناء على مستقبل البلاد، وبسبب ‏الدور الکبیر لهذا الجیش فی الحیاة الاجتماعیة فإن الشباب یسعى للالتحاق بکثافة للعمل فی تلک المؤسسة. ویسیطر الجیش على کل ‏جوانب ‏الحیاة فی المجتمع الإسرائیلی وتأثیره عمیق وواسع على القرار السیاسی والاقتصادی.

وتعتبر إسرائیل الکیان الوحید فی العالم التی تکون الخدمة العسکریة فیها إلزامیة للرجال والنساء ضمن شروط ومُدد محددة، تنتهی بالتحاق المجند والمجندة بإحدى فرق الاحتیاط. کما تعتبر من الدول "الدیمقراطیة" القلیلة فی العالم التی تلتهم وزارة الدفاع "الحرب فی الحالة الإسرائیلیة" فیها أکثر من 35 بالمئة، مع التأکید أن المیزانیة العسکریة فی إسرائیل تعتبر سرا أمنیا مطبقا منذ 60 عاما إلى الیوم؛ أما الجزء المکشوف منها فلا یتعدى الأرقام العمومیة للمیزانیة الشاملة.

وتشیر بعض الدراسات إلى أن وزارة المالیة نفسها لا تعرف التفاصیل الدقیقة للجزء المخصص من المیزانیة للمؤسسة العسکریة. کما یتمتع العاملون فی القطاع برواتب وحوافز مغریة یصفها البعض بـ"التبذیر"، فوفقا لبعض المعطیات الإحصائیة الموثوقة، یبلغ الأجر المتوسط فی إسرائیل حوالی 7600 شیکل "2171 دولارا" أما متوسط الراتب الشهری فی الجیش فیصل إلى نحو 17831 شیکل "5085 دولارا". وعکس ما هو سائد عالمیا تتضاعف رواتب المتقاعدین فی الجیش، إذ إن التعویضات التی یتلقاها ضابط برتبة رائد تصل إلى 2.6 ملیون شیکل "742 ألف دولار"، ورتبة مقدم 1.2 ملیون دولار، ورتبة عقید 1.5 ملیون دولار، والعمید 1.9 ملیون دولار، واللواء 2.4 ملیون دولار.

وتبرز بعض الدراسات بعضا من سطوة الجیش الإسرائیلی وتحکّمه فی القرار السیاسی فبعد بن غوریون، عرفت إسرائیل رؤساء حکومات خضعوا لإرادة الجیش مثل موشیه ‏شاریت ولیفی أشکول فی الستینات، وغولدا ‏مائیر فی مطلع السبعینات، وذلک بعد ازدیاد تعاظم نفوذ الجیش ‏کثیرا. ویذکر ‏المؤرخ توم سیجف فی هذا الإطار أن رئیس الوزراء ‏أشکول رفض بشدة إعطاء أمر بخوض الحرب ولم یکن ‏معنیا بها، غیر أن أعضاء من هیئة ‏أرکان الجیش قاموا باستدعائه إلى مقر القیادة، فی تل أبیب، ومارسوا علیه الضغوط حتى ‏‏وافق على شن الحرب. کما یذکر نفس المؤرخ أن أرئیل شارون، الذی کان یومها أحد هؤلاء ‏القادة، تحدث لأصدقائه أنه ‏کان ینوی إغلاق الباب على أشکول فی قیادة ‏الأرکان وإبقاءه مغلقا حتى یطلق شرارة الحرب، لکن ‏أشکول "اقتنع" من ‏دون أن یغلق الباب.‏

‏ویوصف إسحق رابین، رئیس أرکان الجیش فی حرب 1967، الذی أصبح رئیسا للحکومة، بأنه العسکری الذی ‏تمکن من استعادة هیبة الجیش والقیادة السیاسیة، وذلک عن طریق ‏المزج بین القیادتین، وهو ما فتح الباب أمام ما أصبح یعرف بـ"‏ظاهرة تصدیر الجنرالات" إلى ‏القیادة السیاسیة للدولة، إذ ‏تولى عشرات الجنرالات، بعد ذلک، مناصب رفیعة فی القیادة السیاسیة ‏کیغئال یدین، رئیس الأرکان الثانی الذی أصبح نائبا لرئیس الحکومة بیغن، ‏وموشیه دیان ‏الذی جلبه بیغن وزیرا للخارجیة فی أول حکومة یمینیة، ‏وعیزرا فایتسمان قائد سلاح الجو ‏الذی اختاره بیغن وزیرا للدفاع، ثم أرئیل شارون الذی اختاره بیغن ‏لتبدیل ‏فایتسمان فی هذه الوزارة، وأصبح فیما بعد رئیسا للحکومة "2001- ‏‏2005" وأیهود باراک ‏رئیس الأرکان الذی اختاره رابین وزیرا للداخلیة ‏فی حکومته وأصبح هو أیضا رئیسا للحکومة، ‏والجنرالات بنیامین بن ‏ألیعازر وإسحق مردخای وشاؤول موفاز الذین أصبحوا وزراء دفاع، ‏ورئیس ‏الأرکان أمنون شاحاک، الذی أصبح وزیرا فی حکومة باراک؛ ومن قبله ‏رافائیل إیتان ورحبعام زئیفی. أما حکومة بنیامین نتنیاهو الحالیة فتضم ثلاثة ‏جنرالات وهم أیهود باراک وزیر الحرب، ویوسی بیلید ‏وموشیه یعلون..

کما تزاید دور الجیش فی الحیاة الاقتصادیة، إذ یدیر جنرالات ورتب أدنی، متقاعدین، أهم قطاع اقتصادی فی إسرائیل وهو التجارة العسکریة ‏الأمنیة، إلى جانب ذلک توظف الکثیر من المؤسسات الإستراتیجیة الاقتصادیة والصناعیة الکبرى فی القطاع الخاص وحتى العمومی عادة العسکریین المتقاعدین من الرتب العلیا، من ذلک تولی أمنون شاحاک، رئیس أرکان الجیش السابق، إدارة شرکة الطیران "العال" ثم إدارة شرکة المیاه، ‏کما تولى یعقوب بیئری، رئیس ‏الاستخبارات السابق، رئاسة أهم شرکة هواتف خلیویة خاصة.. مما دفع البعض للحدیث عن الحضور الفائض عن الحاجة للقادة العسکریین السابقین فی النشاط السیاسی المدنی والاقتصادی الذی أخذ یؤثر بالتوازن الطبیعی للمؤسسة السیاسیة فی الدولة الدیمقراطیة المزعومة. وقد أشار د.یاغیل لیفی، المتخصص فی دراسة الجیش الإسرائیلی، مؤخرا إلى استلاب المؤسسة السیاسیة للمؤسسة العسکریة وإلى هیمنة الفکر العسکریّ على إسرائیل.

وبالتوازی مع التغیرات التی أصابت تلک المؤسسة عرفت تغییرات عمیقة ذات طابع بنیوی عمیق مست فی ترکیبته وحتى عقیدته القتالیة سواء نتیجة تطور المجتمع الإسرائیلی ذاتیا أو بسبب تزاید الهجرة والحروب العدوانیة الأخیرة، من ذلک تراجع هیمنة "الأشکناز" المحسوبین تقلیدیا على الیسار الصهیونی "حزب العمل المعروف بحزب الجنرالات" فی الجیش فی الوقت الذی تزایدت فئات اجتماعیة أخرى متحدرة من المستوطنین "الحزب القومی الدینی" والیهود الروس والفقراء من الیهود الشرقیین الأثیوبیین وخاصة من الصهاینة المتدینین "الحریدیم"..

کما أخذت مظاهر الانحلال وعدم الانضباط تبرز فی صفوف المؤسسة، ومنها الثغرات الأمنیة کحوادث سرقة السلاح من القواعد العسکریة، وإهمال المرکبات العسکریة والأسلحة، وتراجع ثقة المجتمع الإسرائیلی بالجیش، وأزمة الثقة الداخلیة بین القادة والجنود، والتمییز ضد النساء وتراجع الإقبال على الخدمة العسکریة بالإضافة إلى تزاید حالات التمرد والأمراض النفسیة والانتحار بین الجنود وحالات الهروب وانتشار ثقافة الجنس والمتعة وانتشار اللواط وتعاطی المخدرات، والجریمة المنظمة..

قد استمد الجیش الصهیونی قدسیته من کونه "جیش لا یقهر"! وکأداة فی عملیة بناء الدولة وحمایتها. لذلک ظلت شؤونه الخاصة فوق النقاشات الحزبیة وفوق النقد والمحاسبة، غیر أن تلک القدسیة التی تمتع بها الجهاز طویلا أخذت فی التصدع، إذ لم تتوان بعض الکتل النیابیة أثناء عرض میزانیة الجیش للنقاش فی الکنیست عن المطالبة بمراقبة المیزانیة، بل حتى اتهام بعض القیادات العلیا فی الجیش بتبذیر المال العام..

ویظهر أن إحدى أهم أساطیر دولة إسرائیل قد بلغت الآن مرحلة أزمة، کما یذکر ذلک المؤرخ والخبیر فی شؤون الأمن القومی د.تشیلو روزنبرغ، فالدولة حسب رأیه "التی لا تحیا على أساطیر مؤسسة لیس فی وسعها الاستمرار فی الوجود". وتشهد إسرائیل منذ حرب أکتوبر 1973 وصولا إلى حربی لبنان وغزة بدایة انهیار أسطورة جیش الشعب الذی لا یقهر! ولا أحد یعرف تداعیات هذا السقوط فی حالة استمراره بالرغم من اندفاع الجمیع فی إسرائیل إلى تکریس خیار الدولة الدینیة الیهودیة التی ستُسقط إلى الأبد أسطورة الدولة الدیمقراطیة التی تحایلت بواسطتها على الغرب.

ن/25


| رمز الموضوع: 143116







الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS
فيديو

وكالةالقدس للأنباء


وكالةالقدس للأنباء

جميع الحقوق محفوظة لوکالة القدس للأنباء(قدسنا)