لیست مجرد أزمة " عدالة " فی لبنان
نقولا ناصر
إن الولایات المتحدة التی ما زالت منذ أکثر من ستین عاما تمنع تحقیق العدالة والسلام معا فی فلسطین لأنها مصرة على تحقیق سلام على أنقاض العدالة فیها تبدو الیوم على استعداد إلى تحویل استقرار لبنان إلى أنقاض بحجة تحقیق العدالة فیه ووسیلتها فی ذلک القرار الاتهامی فی قضیة اغتیال رفیق الحریری.
والعدالة والاستقرار هما المفردتان اللتان تتکران الیوم على ألسنة المسؤولین الأمریکیین من قمة هرم السلطة فما دون. وحتى قبل انهیار حکومة سعد الحریری الأسبوع الماضی لخص عنوان مقال نشرته الوول ستریت جورنال فی السادس والعشرین من الشهر الماضی الموقف السیاسی والإعلامی لإدارة باراک أوباما الذی کان "الفیتو" الذی أجهض مبادرة عربیة قادها على أرفع مستوى زعیما السعودیة وسوریا فی الثلاثین من الشهر الماضی لنزع فتیل الأزمة التی انفجرت باستقالة حکومة الحریری مهددة بإعادة لبنان إلى میدان حرب بالوکالة بین القوى الدولیة الطامعة فی الهیمنة على المنطقة وثرواتها وبین القوى الإقلیمیة المقاومة لهذه الهیمنة، أو فی الأقل مهددة بتحویل لبنان إلى "جدار برلین لحرب باردة" بین الجانبین، حسب تعبیر محلل غربی. کان عنوان مقال الوول ستریت جورنال هو: "هل سیتم تقدیم حزب الله للعدالة فی لبنان- لا یجب تغطیة دوره المحتمل فی موت رفیق الحریری باسم الاستقرار"، لیضیف المقال فی نصه بأن "العدالة هی الطریق الوحید إلى الاستقرار الدائم فی لبنان".
إن التضلیل الإعلامی الأمریکی الذی یغلف الإدانة المسبقة باسم العدالة غنی عن البیان، ویسوغ تماما مبادرة المعارضة اللبنانیة إلى اتخاذ خطوات احترازیة أهمها الاستقالة من الحکومة استباقا لصدور القرار الاتهامی "الظنی" المرتقب للمحکمة التی ألفها مجلس الأمن الدولی بموجب الفصل السابع لمیثاق الأمم المتحدة للتحقیق فی اغتیال رئیس الوزراء اللبنانی الأسبق رفیق الحریری، لکن الأهم أن هذا التضلیل یکشف التسییس الأمریکی المسبق لهذه المحکمة، وهو تضلیل یکرر تماما وحرفیا تقریبا تصریحات مسؤولی إدارة أوباما.
فی التاسع من الشهر الجاری نقلت صحیفة عربیة فی لندن عن مصادر أمریکیة أن وزیرة الخارجیة هیلاری کلینتون أبلغت سعد الحریری أثناء اجتماع لهما وصفته بـ"الممتاز" فی نیویورک فی السابع من الشهر "معارضة" بلادها لأی "اتفاق" لبنانی یعطل عمل المحکمة الدولیة، فی تدخل أمریکی سافر فی شأن لبنانی داخلی صرف یجهض بالتأکید أی توافق فیه. ومع ذلک فإنها أعربت اثناء جولتها فی بعض دول الخلیج العربیة الأسبوع الماضی عن "قلقها العمیق من محاولات إثارة عدم الاستقرار فی لبنان" وقالت إنها تعمل مع الجمیع ""السعودیین والفرنسیین والمصریین وغیرهم""-- باستثناء الأطراف اللبنانیة المعارضة المعنیة مباشرة بالحیلولة دون أی عدم استقرار تعرف بانها ستدفع الثمن الأکبر فیه- من أجل "منع أی مصلحة خارجیة أو أی شخص یتلقى توجیهاته من مصالح خارجیة من اتخاذ خطوات سوف تثیر عدم الاستقرار وربما تثیر الصراع" فیه، بالرغم من معرفتها الکاملة بأنه بعد التفاهم السعودی- السوری- الإیرانی- الترکی على نزع فتیل الأزمة اللبنانیة لم تبق هناک أی قوى "خارجیة" تتدخل فی الشأن اللبنانی سوى الولایات المتحدة نفسها، باسمها وباسم دولة الاحتلال الإسرائیلی على حد سواء.
وفی یوم الجمعة الماضی نسبت السی. إن. إن. إلى بیان للسفیرة الأمریکیة فی لبنان، مورا کونیللی، القول إن المحکمة الدولیة "لا یمکن الرجوع عنها، فعملها لیس عملا سیاسیا بل قانونیا، واستقالة بعض الوزراء فی لبنان لن یغیر فی هذا الوضع." وکانت صحیفة السفیر اللبنانیة الشهر الماضی قد وصفت هذا الموقف الأمریکی ب"الضغط المکثف" الذی یستبعد أی توافق لبنانی بالحوار قبل صدور لائحة اتهام فی مقتل رفیق الحریری. ومما یؤشر إلى قصر النظر السیاسی الأمریکی أن البیت الأبیض اعتبر انسحاب المعارضة من حکومة الحریری مؤشر ضعف و"خوف" کما قال المتحدث باسمه روبرت جیبس یوم الخمیس الماضی، ولیس مؤشر انفجار أزمة خطیرة سوف یکتوی بنارها لبنان واللبنانیون أولا واخیرا لکنها لن توفر الولایات المتحدة کما تثبت التجربة التاریخیة لمثل هذه المغامرات الأمریکیة.
فالتدخل العسکری الأمریکی فی لبنان عام 1958، مع أنه کان شکلیا بطلب من رئیس لبنانی شرعی، کان مماثلا لما یحدث الیوم من تدخل خارجی فی شأن داخلی لبنانی انحازت واشنطن فیه إلى طرف ضد آخر فی المعادلة الداخلیة لم تجن منه سوى المزید من فقدان هیبتها الدولیة ومصداقیتها العربیة، ولم یکن حصادها السیاسی أفضل عندما تدخلت فی لبنان عسکریا مرة أخرى منحازة إلى طرف ضد آخر عام 1982 لکن خسائرها فی الأرواح کانت أفدح عندما فقدت 283 من المارینز إضافة إلى اختطاف واغتیال عشرات من مواطنیها الآخرین.
وواشنطن الیوم تکاد تتخبط مرة ثالثة عندما تخطئ الحسابات ثانیة فتتعامل مع لبنان کساحة حرب تعتبرها مثالیة لتسویة حساباتها مع خصومها الإقلیمیین، لکن "السیاسة الأمریکیة بلغت حدودها، ولم یعد لها إلا القلیل من التأثیر"، کما کتب الباحث فی مرکز سابان لسیاسة الشرق الأوسط بمؤسسة بروکینغز، بلال صعب اللبنانی الأصل، فی التاسع عشر من الشهر الثالث عام 2008، إذ "بعد ثلاث سنوات من انسحاب القوات السوریة، أصبح لبنان أقل لا أکثر استقرارا، ولم تدم الفرحة بانتصار قوى 14 آذار وسیطرتها على السلطتین التشریعیة والتنفیذیة، بالرغم من دعم الولایات المتحدة الأمریکیة والمجتمع الدولی".
والیوم یبدو الوضع أسوأ مما کان علیه عندما کتب صعب تحلیله قبل أقل من ثلاث سنوات، دون أن تتعظ السیاسة الخارجیة الأمریکیة أو تتغیر. ومن الواضح أن واشنطن تجد الآن فی حزب الله ذریعة جدیدة لتکرار تخبطها ومغامراتها الإقلیمیة على حساب الشعب اللبنانی، ورسالتها هی أنه طالما ظل حزب الله موجودا فی لبنان فإن التدخل الأمریکی فی شؤونه لن یتوقف، فالولایات المتحدة التی عارضت وقف إطلاق النار وأخرته لأطول فترة ممکنة أثناء العدوان الإسرائیلی على لبنان عام 2006 تعتبر أن لدیها مهمة لم تنته بعد فی لبنان، وهی سوف تستمر فی محاولة أن تنجز أمریکیا ما عجز ذلک العدوان عن إنجازه إسرائیلیا، وکان سحب القوات العربیة السوریة جزءا رئیسیا تحقق من تلک المهمة ویظل علیها أن تنجز الجزء الرئیسی الآخر منها المتمثل فی إنهاء حزب الله کحرکة مقاومة، وتتذرع فی ذلک بقرارات مجلس الأمن الدولی التی صدرت فی أعقاب ذلک العدوان، دون أن تولی أدنى اهتمام بتطبیق عشرات من قرارات المجلس نفسه فی الاتجاه الإسرائیلی المقابل.
وهذا الموقف الأمریکی لم یخیب آمال الدول العربیة التی عبر عنها وزیر الخارجیة الأردنی ناصر جودة یوم الخمیس الماضی عندما دعا إلى "ضبط النفس" وحث کل الأطراف، ومنها ضمنا الولایات المتحدة، على تجنب "التصعید"، بل إنه بدد آمال الرئیس اللبنانی میشیل سلیمان فی أن تکون الأزمة اللبنانیة تتحرک نحو الحل کما اعلن فی یوم عید المیلاد الغربی، بانیا آماله على زیارة خادم الحرمین الشریفین الملک عبد الله بن عبد العزیز والرئیس السوری بشار الأسد، وبدد أمله فی أن "یشهد عام 2011 الاستقرار والازدهار الاقتصادی" للبنان کما قال، لا بل إن هذا الموقف خیب آمال منسق الأمم المتحدة الخاص للبنان، مایکل ولیامز، الذی کان متفائلا بصورة مماثلة ورحب "بصفة خاصة بجهود سوریا والعربیة السعودیة".
وعلقت کلینتون على استقالة المعارضة من حکومة الحریری بقولها إنها "محاولة شفافة.. لتخریب العدالة ونسف استقرار لبنان وتقدمه"، أما التدخل الأمریکی الذی قاد إلى هذه الاستقالة فکان لأن بلادها معنیة بـ"التأکد من خدمة العدالة بطریقة مناسبة" کمال قال رئیسها أوباما قبیل اجتماعه مع نظیره الفرنسی نیکولا سارکوزی الأسبوع الماضی، وبحجة أن "حزب الله یقدم خیارا زائفا للبنان بین العدالة وبین الاستقرار" کما قال المتحدث باسم وزارتها فیلیب کراولی یوم الأربعاء الماضی معربا عن "اعتقاد" إدارته بأن لبنان "یستحق الاثنین" وهو یدرک قبل غیره بأن السیاسة الخارجیة لبلاده هی السبب الوحید الذی یهدد العدالة والاستقرار کلیهما فی لبنان الیوم.
وإذا کانت السیاسة الخارجیة الأمریکیة تجاه لبنان هی سیاسة قومیة غیر حزبیة، أی لیست جمهوریة أو دیموقراطیة بدلیل أنها لم تتغیر بین إدارتی جورج دبلیو. بوش وأوباما بالرغم من وعود الأخیر الجزیلة بالتغییر، فإن هذه السیاسة فی التطبیق العملی لا یمکن وصفها إلا بکونها سیاسة متحزبة ولیست قومیة، ومنحازة إلى طرف ضد طرف آخر فی المعادلة اللبنانیة الداخلیة.
وقد کان رئیس الوزراء اللبنانی المستقیل الحریری صادقا عندما وصف فی خطابه الجمعة الماضی الضغوط الأمریکیة بأنها "مزعومة"، فهو إما أن یکون قد نجح فی استغلال هذه السیاسة الأمریکیة المتحزبة لبنانیا لخدمة الطرف اللبنانی الذی یقوده فی قوى "14 آذار" أو یکون قد تقاطع معها، ویستدل من خطابه یوم الجمعة أنه مصمم على استمرار الاستقواء بالموقف الأمریکی المتحزب لبنانیا فی الاصطراع لداخلی على السلطة، فأقواله إن برنامج أی حکومة جدیدة یکلف بتألیفها هو برنامج سابقتها نفسه، وإنه تنازل عن حقه "الشخصی" وحق الأکثریة فی تألیف حکومته السابقة لصالح التوافق الوطنی، وإن الحکومة السابقة کانت مجرد حکومة وحدة وطنیة "مع وقف التنفیذ"، جمیعها مؤشرات إلى استعداد لتألیف حکومة "أکثریة" جدیدة کحق دستوری دون مشارکة المعارضة، وهذه وصفة لإطالة أمد الأزمة مشحونة بعوامل تفجیر لا تخطئها العین، وهذا توجه یحظى بدعم أمریکی واضح. والمفارقة أن سعد الحریری یقول إنه لا یمکن لأی طرف أن یقصی الطرف الآخر فی لبنان، لکن هذا هو ما تجهد الولایات المتحدة لفعله تماما.
لقد کان صوت وزارة الدفاع أعلى وأوضح من صوت وزارة الخارجیة الأمریکیة فی التعبیر عن دعم "حکومة لبنان" التی ما زال الحریری یرأسها، على الأرجح لأن واشنطن ترید أن تبعث برسالة عسکریة إلى خصومها فی لبنان والإقلیم على حد سواء.
فالبنتاغون الأمریکی الذی أدمن المغامرات العسکریة فی الخارج یدرک "بأننا نعرف بأن التوتر السیاسی والاضطراب وبخاصة أی عنف قد یتبع هی تهدیدات للاستقرار والأمن الإقلیمی"، کما قال الناطق باسمه دیفید لابان یوم الخمیس الماضی، ویحاول البنتاغون طمأنة الإقلیم عسکریا، فعندما سؤل لابان عما إذا کانت بلاده قد أرسلت سفنا حربیة قبالة السواحل اللبنانیة أجاب، "لیس بعد"، مضیفا: "إننا نواصل مراقبة الوضع مراقبة دقیقة جدا عن کثب" لکن "الحکومة الأمریکیة ترغب فی أن تستخدم کل الأطراف الوسائل السلمیة فی حل الوضع"، مع تأکیده على "العلاقة القیمة مع القوات المسلحة اللبنانیة، وعلى "الالتزام" الأمریکی "بتقویة سیادة مؤسسات لبنان وحکومته"، بینما أکد کراولی استمرار الدعم العسکری للبنان بنفی قطع "المساعدات الأمریکیة للقوات المسلحة اللبنانیة".
إن من ما زالوا على قید الحیاة ممن عاصروا التدخل الأمریکی فی لبنان عام 1958 لن تدهشه حقیقة أن اللغة الدبلوماسیة الأمریکیة التی تتحدث عن دعم "الدولة" و"الحکومة الشرعیة" والجیش اللبنانی فی مواجهة الحرکة الوطنیة اللبنانیة ما زالت هی اللغة نفسها دون أی تغییر بالرغم من کل المتغیرات الدولیة والإقلیمیة وبالرغم من کل وعود الرئیس أوباما بالتغییر فی سیاسة بلاده الخارجیة فی الشرق الأوسط.
إن اتعاظ بعض القوى الإقلیمیة التی خدعتها القوة الأمریکیة لکی تنحاز إلى طرف ضد آخر فی المعادلة اللبنانیة الداخلیة أثناء العدوان الإسرائیلی عام 2006 کانت تجربة مرة لکل الأطراف، بحیث تجمع وتعمل کل الأطراف الإقلیمیة الیوم من أجل منع اندلاع أی حرب أهلیة لبنانیة جدیدة، وقد آن الأوان لکی تتعلم واشنطن الدرس نفسه فتتوقف عن الانحیاز لطرف ضد آخر فی المعادلة اللبنانیة الداخلیة وتتوقف أیضا عن استخدام لبنان منطلقا لتسویة حساباتها الإقلیمیة على حساب الشعب اللبنانی.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS