مقامات الحریری
مقامات الحریری
احمد السنوسی
نحن فی أقصى الأجنحة الغربیة لضیعات حکام العرب، وفی هذه المنطقة المغاربیة متعددة المشارب والسلالات والأعراق، نتطلع الى 'موزاییک' بلاد الشام، الذی تختزله 'الظاهرة' اللبنانیة، فنجد بعض الصعوبة فی قراءة الخریطة اللبنانیة وتقاطعاتها الجیوستراتیجیة، التی لا تستقر على حال ولا تدبر بالمنطق السائد فی مناطق أخرى من العالم. لکن هذه الصعوبة لا تفسد القضیة لودنا ومحبتنا وغیرتنا على تلک البقعة الجمیلة من الکیان العربی المکلوم، والمحکوم بسلسلة سوداء من التصدعات التاریخیة والجغرافیة، والواقعة على مرمى حجر من الکیان الاسرائیلی المدسوس فی قلب المنطقة العربیة، کمرض خبیث استعصى على العلاج، ولم تنفع معه الحلول المملاة والقرارات الفوقیة والتبعیة الارادیة والاضطراریة لقواعد 'لعبة الأمم' المتحدة أو غیر المتحدة ضدنا.
وکم کان بودنا لو ان الوضع اللبنانی مجرد مقامة من مقامات الحریری، تخضع لصنعة الأدب وبدیع القول وتنثر فی محیطنا وعقولنا درر الحکمة والتعقل، حیث تتساکن سخریة ناعمة مع نقد لاذع لطبائع البشر.
لیت لبنان کان مقامة حریریة لها نعمة البدایة وحسن الخاتمة، لکن هذه المقامة ترضخ لأنماط استثنائیة، حیث ان کل الحلول المقترحة لحل الأزمات الطارئة او الهیکلیة لیست فی الواقع سوى ألغام موقوتة مبرمجة لکی تنفجر بین أصابع من یوقع علیها، فیما تتناثر شظایاها لتصیب القریب والبعید. وتبقى تلک الحلول مجرد عقد جدید لانها تکون لصالح طرف على حساب أطراف أخرى.
لبنان منشغل هذه الأیام بالمحکمة الدولیة وقرارها الظنی ـ وان بعض الظن إثم ـ رغم ان بوادر الإثم والعدوان تلوح فی الأفق، وفی انتظار ذلک القرار یضع کل الفرقاء اللبنانیین الأصبع على الزناد، اما استعدادا للدفاع عن النفس أو لشن الهجوم تحسبا لمنطوقه وفحواه، حیث تجمع الأطراف کلها على انه وفی جمیع الاحوال لن یکون الا بمثابة اعلان حرب شاملة قد یتکهن البعض ببدایتها، لکن لا احد یملک من العرافة والفراسة ما یکفی لکی یتوقع نهایتها حتى ولو تم الاستنجاد بزرقاء الیمامة او بقارئات الفنجان فی باریس وواشنطن وغیرهما من العواصم التی تتابع الشأن اللبنانی وکأنه شأن وطنی.
وتماما مثل ما حدث مع القضیة الفلسطینیة، فقد وضعوا لـ'التسویة' فی لبنان مسارات متعددة ینسخ بعضها بعضا ویلغی اللاحق السابق، فی ما الواقع یشیر الى ان هذه المسارات کلها تدخل فی سیاق خطة لربح الوقت فی انتظار ان تدق الساعة المحتومة، وتتحرک البیادق على رقعة الشطرنج اللبنانیة من اجل لعب دور 'الکومبارس' فی شریط رعب معد سلفا، لن توقفه لا التطمینات ولا التهدئات والتوافقات، ولا حتى الشیکات الموقعة على بیاض والمدفوعة فی حساب أرصدة من یوافق على لعبة التهدئة التی تسبق العاصفة، والتی فلسفتها لا تتعدى أفق وسقف عدم توفیر مبرر لاسرائیل لخوض معرکة اعادة الاعتبار بعد هزیمتها المشهودة على ید المقاومة اللبنانیة.
کما لو ان اسرائیل فی حاجة الى شرعنة حروبها على العرب، او هی فی حاجة الى مبررات لتسویق حروب الابادة وجرائم ضد الانسانیة فی السوق الدبلوماسیة الدولیة، لکن الا یعنی ان الفرقاء فی لبنان والجوار هم من السذاجة بحیث یضعون القرار الظنی للمحکمة الدولیة على طبق من ذهب لهمج اسرائیل لکی یعیثوا فی ارض لبنان فسادا، بمبارکة من الدول العظمى التی تعتقد ان تدمیر قلاع المقاومة اللبنانیة هو بدایة الحل للمعادلة الایرانیة فی المنطقة، على أساس ان الحروب الاستراتیجیة الکبرى تخاض بالوکالة، کما کانت علیه الحال خلال الحرب الباردة بین القطبین، حیث اختارا نقل الصراع الشرس وغیر المباشر الى فیتنام وکمبودیا ولاووس وافغانستان. انها مقامة اکل الثوم بفم الآخرین مطبوخة الى حد الافراط والمغالاة، وکأنها مضیرة بدیع الزمان الهمدانی الساخنة والملتهبة، فیما الأمل ان یدبج حریری هذا الزمان مقامة تقی لبنان من 'حولیات موت معلن' اذ ما انتصر الوازع الوطنی على نعیق الغربان.
لکن هل نعیش زمن وضیع الزمان الامریکانی من بین أزمنة عربیة ردیئة أخرى؟
وقد سرب اصحاب المبادرة 'العربیة' الاخیرة فی لبنان فی خطوة استباقیة لمنطوق حکم المحکمة الدولیة بأن القاضی یتوفر على 'حجج دامغة وصلبة' غیر قابلة للطعن تدین طرفا لا یرتاح الیه أصحاب 'المبادرة العربیة'، الذین ازداد حماسهم فی الفترة الاخیرة لحسم الوضع اللبنانی فی الاتجاه المریح لخططهم السریة ـ العلنیة، وکم کان بودنا ان یتحمس هذا الصنف الغریب من العرب من اجل محاکمة مجرمی حرب من أمثال جورج بوش، وظله تونی بلیر وخوسی ماریا أزنار، من دون الحدیث عن عتاة المجرمین الکبار فی فلسطین المحتلة المسماة اسرائیل، التی لم یهاجمها أصحاب 'المبادرة العربیة' فی وثائق ویکیلیکس الذین سکتوا عن حرب الإبادة التی یقوم بها المجرمون الصهاینة ضد الشعب الفلسطینی، کما سکتوا عن تدمیر العراق وقتل شعبه، بل صفقوا للحرب الامریکیة الغربیة الظالمة ضد شعب فقیر وأعزل فی افغانستان، فهؤلاء لا یحتاج اصدار الاحکام فی حقهم 'أدلة وحججا دامغة وصلبة' ما دامت الجریمة ثابتة وموثقة بالصوت والصورة والدماء وآلام الأطفال الأبریاء.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS