لجنة الوزراء العرب.. من المتابعة إلى المراجعة!
معن بشور
حین التقیت فی أنقرة رئیس السلطة الفلسطینیة محمود عباس وقبل أیام قلیلة من ملتقى القدس الدولی التاریخی فی اسطنبول الذی انعقد فی أواسط تشرین الثانی 2007 لأقنعه بالتراجع عن اعتراضه على عقد ذلک الملتقى الذی حضره آلاف من کل القارات والأدیان والحضارات، ولأؤکد له بصفتی رئیسا للجنة الملتقى التحضیریة أن هذا الملتقى لا یهدف إلى الانتصار لطرف فلسطینی على آخر، بل لفلسطین کلها على غاضبیها، وللقدس بوجه مخططات تهدیدها، کان أبو مازن مسکونا بدرجة عالیة من التفاؤل بإمکانیة انتزاع مکاسب جدیة لم یکن یتوقعها الفلسطینیون حسب قوله، خصوصا وأن مؤتمر أنابولیس الشهیر کان على الأبواب، وکان الإعلام الأمریکی ومن یدور فی فلکه یصور أن المؤتمر سیحمل حلا حقیقیا لأزمة مستعصیة.
لم أشارک أبا مازن تفاؤله فی ذلک الاجتماع الذی حضره أیضاً وزیر خارجیة السلطة بالوکالة آنذاک ریاض المالکی، وسفیر فلسطین فی أنقرة نبیل معروف وعضوا اللجنة التحضیریة للملتقى محمد حسب الرسول من السودان، ومراد باشا من ترکیا، قلت له مبتسما: سنرى إذا کان تفاؤلک فی محله، فانتفض رئیس منظمة التحریر لیقول: إذا لم تتحقق مطالبنا.. فأنا ذاهب إلى البیت...
طبعا لم یتحقق شیء مما کان یتوقعه أبو مازن، بل ذهب مؤتمر أنابولیس إلى غیاهب النسیان، ولم ینعقد المؤتمر الثانی الذی دعا إلیه المجتمعون فی أنابولیس، أی مؤتمر موسکو، وذهب أولمرت ووزیرة خارجیته لیفنی من الحکم بعد محرقة غزة، وذهب قبله بوش وإدارته، وذهبت أدراج الریاح مبادرات واجتماعات وزیارات ومفاوضات غیر مباشرة ومباشرة، وانتهت مهل ومهل حددتها لجنة المبادرة العربیة التی انحصر عملها بمتابعة مصیر المفاوضات بین رام الله وتل أبیب، حتى وصلت أخیراً إلى قرار خطیر اتخذته بالذهاب إلى مجلس الأمن لإدانة الاستیطان الصهیونی وهی تدرک أن الفیتو الأمریکی بالمرصاد، تماما کما کان دائما بالمرصاد لأی مشروع قرار یحاول إدانة الجرائم الصهیونیة، وتماما کما سیکون مصیر مشروع الاعتراف بالدولة الفلسطینیة على أراضی 1967 رغم مواقف مشکورة اتخذتها مؤخرا دول فی أمریکا اللاتینیة أثبتت قدرتها على التحرر من الضغوط الأمریکیة، رغم قربها الجغرافی والاستراتیجی من الولایات المتحدة، فیما النظام الرسمی العربی ما زال عاجزا عن إظهار أبسط درجات التحرر من هذه الضغوط والإملاءات.
ومع ذلک، یمکن اعتبار خروج لجنة المتابعة العربیة، ولو إلى حین، من نفق التمدید غیر المجدی لمفاوضات مسدودة الأفق خطوة إیجابیة فی الاتجاه الصحیح، خصوصا إذا کانت بدایة لمراجعة شاملة لمسار سیاسی أثبت عقمه على مدى عقود بالحد الأدنى، وأثبت خطورته وضرره البالغ على الحقوق الفلسطینیة والعربیة فی حده الأقصى، بل المراجعة الجذریة للخیار الذی أثبتت التطورات داخل فلسطین وخارجه أن کلفته على کل صعید تفوق بکثیر کلفة أی خیار آخر لا سیّما خیار الصمود والانتفاضة والمقاومة..
وأثبتت التطورات أن المبادرة العربیة ذاتها، التی شکلت لجنة المتابعة العربیة من أجلها أصلاّ لینصرف مع الوقت عملها عنها، یجب أن تطوى بعد أن شارف عمرها على السنوات التسع دون تحقیق أی اختراق، وبعد أن أعلن صاحبها نفسه، العاهل السعودی فی قمة الکویت قبل عامین أنه لا یجوز أن تبقى على الطاولة إلى الأبد، خصوصا أن تلک المبادرة قامت فی جوهرها على مبدأ مکافأة المحتل بالتطبیع مقابل انسحابه من أراض احتلها بغیر حق بدلا من الإصرار على معاقبته على کل ما ارتکبه من جرائم ومن انتهاکات مخالفة لکل المواثیق والأعراف والاتفاقیات والقرارات الدولیة بما فیها القرار الدولی الذی أنشأ کیانه العنصری قبل أکثر من 62 عاما.
من هنا، فمن الأجدى أن تستبدل اللجنة العربیة اسمها من لجنة متابعة إلى لجنة مراجعة تعید الاعتبار لخیار أثبتت کل التطورات سلامته، وهو خیار أن ما أخذ بالقوة لا یستعاد إلاّ بالقوة، والقوة المقصودة هنا لیست فقط القوة العسکریة التی یخاف بعض أهل النظام الرسمی العربی من مجرد الحدیث عنها، بل هی أیضاً القوة الاقتصادیة بما فیها سلاح النفط نفسه، والقوة السیاسیة والقانونیة والدبلوماسیة والإعلامیة والثقافیة، بل قوة الاستعانة بالصحوة المتنامیة للرأی العام العالمی نفسه والتی تعبر عن نفسها کل یوم بموقف أو مبادرة أو تحرک نوعی، لم یکن رد الفعل على الجریمة الصهیونیة بحق أسطول الحریة سوى أحد عناوینه البارزة.
والمراجعة المطلوبة تکمن کذلک فی التجاوب مع الالتفاف الشعبی العربی والإسلامی والعالمی الواسع حول خیار المقاومة، بدلا من الانضمام، علناً أو سرا، إلى معسکر المشککین بها، والمحاصرین لقواها، وأحیاناً المتآمرین علیها بهذه الوسیلة أو تلک.
فإذا کانت الأنظمة عاجزة عن المواجهة العسکریة النظامیة، وهی فرضیة ینبغی مناقشتها خصوصا مع تکدس صفقات السلاح المتراکمة دون استخدام فی المخازن العربیة، فلماذا لا تدعم المواجهة الشعبیة التی تتخذ حینا شکل المقاومة وحینا آخر شکل الانتفاضة وحینا ثالثا شکل التمرد والعصیان، خصوصا أن هذه المقاومة قد أثبتت جدواها فی لبنان وفلسطین والعراق وصولا إلى أفغانستان.
والمراجعة المطلوبة تتطلب الاستفادة من القوة الاقتصادیة، المالیة والنفطیة، التی یمتلکها العرب، فیتم استخدام هذه القوة بشکلها السلبی أی المقاطعة وقوانینها وأجهزتها المعطلة منذ عقود دون مبرر، أو بشکلها الإیجابی أی الضغط على داعمی المحتل من أجل التراجع عن دعمهم له لا سیّما وقد بتنا نسمع حتى داخل مراکز القرار فی واشنطن، من یقول إن الکیان الصهیونی قد بات عبئا على المصالح الإستراتیجیة الأمریکیة، ناهیک عما یدور فی حلقات المثقفین والساسة المخضرمین والمدونات المتنامیة داخل ما یسمى بالإعلام الأمریکی البدیل أی الإعلام الالکترونی من اعتراضات جدیة على التحاق السیاسة الأمریکیة بمصالح الکیان الصهیونی.
بالطبع ینبغی أن لا نغفل إمکانیة استخدام هذا السلاح الاقتصادی فی تشجیع مؤیدین لحقوقنا، أو حتى فی کسب محایدین إلى جانبنا، أو فی تحیید بعض من یساند أعداءنا.
والمراجعة المطلوبة تتطلب حرکة فاعلة ومؤثرة على المستوى القانونی ضد المحتل الصهیونی فی فلسطین والجولان وجنوب لبنان، أو المحتل الأمریکی فی العراق، لا سیّما وأن بیدنا تقاریر لجان تحقیق دولیة کتقریر غولدستون وتقریر أسطول الحریة أو وثائق سریة دامغة کما هو حال وثائق البنتاغون والخارجیة الأمریکیة التی کشفها موقع ویکیلیکس. فلماذا لا تتحمل الحکومات العربیة والإسلامیة العبء الأکبر من الجهود القانونیة المتروکة لهیئات ومراکز وشخصیات غیر حکومیة محدودة الموارد والقدرات والوسائل والآلیات تقوم به وحدها کالائتلاف الدولی لملاحقة الجرائم فی غزة الذی تم تشکیله فی جنیف فی مطلع 2009، وکالاجتماع القانونی الدولی الذی انعقد فی بیروت فی ربیع 2010 واستکمل تحضیراته قبل ستة أسابیع فی العاصمة اللبنانیة أیضاً.
والمراجعة المطلوبة تشمل أیضاً إغلاق کل الثغرات القائمة فی جسم التضامن العربی، بل تلک التی تنخر فی بنیان الوحدة الوطنیة لبعض الأقطار العربیة، فنعید توجیه البوصلة الرسمیة العربیة نحو الخطر الحقیقی المتمثل بالعدو الصهیونی ولیس باتجاه أخطار وهمیة أو مصطنعة أو ثانویة بحیث یزداد فی ظلها مشهد الانقسام انقساما، وحال الاحتراب احترابا ومظاهر التفتیت تفتیتا.
والمراجعة المطلوبة أیضاً تشمل تفعیل تحرکات سیاسیة ودبلوماسیة داخل مختلف المحافل والمنابر والهیئات الدولیة والإقلیمیة والإسلامیة والعالم ثالثیة، بحیث تجری محاصرة العدو فی کل جهات الأرض وصولا إلى نبذه تماما من أرضنا.
والمراجعة المطلوبة تشمل کذلک تصحیح العلاقات بین الأنظمة والشعوب على قاعدة المشارکة واحترام الحریات الخاصة والعامة لا إرضاء لابتزاز أمریکی أو غربی کما یظن البعض، بل تعزیزا للجبهة الداخلیة داخل کل قطر عربی لکی یصبح أکثر منعة وقوة وقدرة على مواجهة شتى التحدیات.
والمراجعة المطلوبة أیضاً هی إعلامیة وثقافیة وتربویة وبحثیة وعلمیة، بحیث یکون لکل مستوى من مستویات المراجعة لجانه المتخصصة، ووسائل عمله المتطورة، وإمکاناته المتوفرة، وبشکل خاص الإرادة السیاسیة الحاضنة والحازمة والفاعلة.
قد یلتمس البعض لحکامنا الأعذار فی عدم قیامهم بمثل هذه المراجعات فی الظروف الماضیة، لأن العالم کله کان خاضعا بنظرهم لسیطرة القطب الأمریکی الواحد، فیما المنطقة خاضعة لسطوة التفوق الصهیونی المزعوم، ولکن لا عذر لأحد الیوم بعد کل ما نشهده فی المنطقة من ارتباک للمشروع الصهیونی بفعل الصمود والمقاومة، وما نشهده من العالم من تبدلات وتحولات وأزمات کان للمجاهدین فی أمتنا الفضل الکبیر فی إطلاقها.
لقد جرب نظامنا الرسمی العربی، وعلى مدى عقود، خیار الإذعان والرضوخ والاستسلام، فلم یحصد سوى الخیبة والمرارة والفشل الذریع... فلماذا لا یجرب الخیار الآخر.. فکلفته بالتأکید، مهما بلغت لن تزید عن کلفة الخیارات المعتمدة حالیا.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS