شرط نتنیاهو ولا "صفقة أوباما"!
شرط نتنیاهو ولا "صفقة أوباما"!
جواد البشیتی
فی الشکل لیس إلاَّ هی ضمانات مکتوبة، وحوافز أمنیة وسیاسیة واقتصادیة، تقدِّمها إدارة الرئیس باراک أوباما إلى حکومة بنیامین نتنیاهو، لعلَّ رئیسها یَقْتَنِع، ویُوفَّق فی إقناع المعارضین والمتشکِّکین فی ائتلافه الحاکم، بتلبیة مطلب رئیس السلطة الفلسطینیة محمود عباس أنْ تجمِّد إسرائیل الاستیطان قبل، ومن أجل، أن یستأنِف مفاوضات السلام المباشرة، التی بدأت فی الثانی من أیلول/ سبتمبر الماضی، لتتوقَّف بعد السادس والعشرین منه، حیث استؤنف النشاط الاستیطانی بعد "تجمید جزئی" دام عشرة أشهر.
أمَّا فی الجوهر فهی، على ما نظن ونتوقَّع، لیست سوى خطة للخروج أو الانسحاب المنظَّم لإدارة الرئیس أوباما من ورطة سیاسیة، أوقعت نفسها فیها، موقعةً معها الرئیس عباس نفسه، إذ بدت، فی أیامها الأولى، ملتزمةً بعضاً من أهم جوانب وجهة النظر الفلسطینیة فی شأن الاستیطان، والضرر الذی یمکن أن یلحقه استمراره بجهود ومساعی السلام، وبجهود ومساعی الوسیط میتشل على وجه الخصوص.
والخطة، أو اللعبة، تَفْتَرِض لنجاحها، الذی هو الوجه الآخر لإعلان فشل جهود ومساعی السلام، أنْ یأتی "الرفض" من جانب السلطة الفلسطینیة، و"لجنة مبادرة السلام العربیة"، فإدارة الرئیس أوباما یجب أن تَظْهَر أمام العالم على أنَّها الوسیط الذی بذل وسعه لإطلاق واستئناف المفاوضات المباشرة، والذی نجح أخیراً، وبعد جهد جهید، فی إقناع حکومة نتنیاهو بتقدیم تنازلات، تعدل لجهة صعوبتها وقسوتها أن یخرج المرء من جلده؛ وعلى الفلسطینیین، من ثمَّ، وإذا ما کانوا جادین وصادقین فی سعیهم إلى السلام، ویتمتَّعون بما یکفی من الروح البرغماتیة والواقعیة السیاسیة، أن یغتنموا هذه الفرصة، ویقبلوا العودة إلى طاولة المفاوضات المباشرة؛ فإذا شق علیهم ذلک، وفضَّلوا قول "لا" على قول "نعم"، فلا یلوموا، عندئذٍ، إلاَّ أنفسهم؛ وإنَّ أحداً غیرهم لا یتحمَّل، ویجب ألاَّ یتحمَّل، مسؤولیة الفشل والإخفاق.
إدارة الرئیس أوباما، وإنْ لم تُعْلِن هذا، سعت فی إقناع الرئیس عباس، و"لجنة مبادرة السلام العربیة"، بأنَّ مطلب الوقف التام للنشاط الاستیطانی فی الضفة الغربیة، وفی القدس الشرقیة على وجه الخصوص، مدَّة شهرین أو ثلاثة أشهر، لن یؤدِّی أبداً إلى استئناف المفاوضات المباشرة، والتوصُّل، من ثمَّ، إلى حلٍّ لمشکلة الحدود؛ لأنَّ العاقبة الحتمیة لتلبیة حکومة نتنیاهو لهذا المطلب، إنْ من طریق ممارسة الولایات المتحدة ضغوطاً علیها، أو من طریق حوافز تقدِّمها إلیها، هی فقدان الشریک الإسرائیلی فی مفاوضات السلام؛ وعلى الفلسطینیین، بحسب هذا المنطق، أنْ یَزِنوا مطالبهم وشروطهم "وحقوقهم أیضاً" بهذا المیزان، فبقاء حکومة نتنیاهو "ولو جاء بقاؤها بما لا یبقی على شیء من مقوِّمات السلام" هو، بحکم المنطق نفسه، الطریق إلى استئناف المفاوضات المباشرة.
إذا کان لا بدَّ للروح التفاوضیة الانهزامیة من أن تتولَّى هی صوغ القرار والخیار، فلسطینیاً وعربیاً، فَلِمَ لا نطعِّم هذه الروح ولو بنزرٍ من الذکاء السیاسی والتفاوضی؟! لِمَ لا نفاضِل بین أمرین أحلاهما مُرُّ، أی بین الخیار الأسوأ والخیار السیئ، ما دمنا مصرِّین على اشتقاق سیاسة، و"بدائل"، من مصالح لا تصلح إلاَّ لجعل ما نرفضه الیوم مقبولاً غداً، وکأنَّنا فی مسارٍ تفاوضی وسیاسی تتحوَّل فیه، وبه، الشروط والمطالب الإسرائیلیة إلى شروط ومطالب فلسطینیة وعربیة بعد حین؟!
وإنَّ "سؤال المفاضلة "بین أمرین أحلاهما مُرُّ، أو بین الخیار الأسوأ والخیار السیئ"" هو: أیُّهما أفضل "الآن"، فلسطینیاً وعربیاً، أن تُسْتأنف المفاوضات المباشرة بالثمن الذی دفعته، أو ترید، دفعه، إدارة الرئیس أوباما لحکومة نتنیاهو أم أنْ تُسْتأنف بفضل إعلان الفلسطینیین "والعرب" تخلیهم عن مطلب "أو شرط" الوقف التام للنشاط الاستیطانی؟
فکِّروا فی الأمر ملیِّاً، فتجدون أنَّ الخیار الثانی، وعلى سوئه، أقل سوءاً بکثیر من الخیار الأوَّل، الذی اقترحته إدارة الرئیس أوباما علینا بعدما تمخَّض جبلها لیلد هذا الفأر الصغیر، والذی لا یشبهه سوى السیاسة العربیة التی "تفأرنت" حتى جعلت أصحابها کالفأر الذی سُئل "أیُّ الوحوش أقوى؟"، فأجاب على البدیهة قائلاً: "إنه القط!"، أی إسرائیل!
وللناسین، أو المتناسین، نُذکِّرهم "إنْ نفعت الذکرى" بأنَّ نتنیاهو قال، من قبل، غیر مرَّة، إنَّه یرید مفاوضات مباشرة، فوریة، جادة، مع الفلسطینیین؛ لکن من غیر شروط کشرط الوقف التام للنشاط الاستیطانی، مذکِّراً إیَّاهم بما یعتبره "حقیقة تاریخیة" هی أنَّ استمرار النشاط الاستیطانی لم یکن، من قبل، عقبة فی طریق المفاوضات، فالطرفان تفاوضا زمناً طویلاً من غیر أن أن یکون تفاوضهما مشروطاً، لجهة بدئه واستمراره، بوقف النشاط الاستیطانی؛ ونحن لا نختلف، ولن نختلف، مع نتنیاهو فی أنَّ التفاوض کان طریقاً إلى مزید من الاستیطان، الذی بتنامیه کان طریقاً إلى مزیدٍ من التفاوض!
ولو کنتُ مکان عباس "و"لجنة مبادرة السلام العربیة"" لا أملک إلاَّ أنْ أفاضِل بین الخیارین الأسوأ والسیء، لوجَّهتُ إلى الرئیس أوباما رسالة، أبلغتُ إلیه فیها الآتی: لقد قرَّرت أنْ اتنازل، وأنْ أهبط من أعلى الشجرة، الذی بمعونة سُلَّمکم صعدتُ إلیه قبل أن تأخذوه وتذهبوا به بعیداً؛ وإنِّی، من ثمَّ، أقبل العودة إلى طاولة المفاوضات المباشرة مع استمرار النشاط الاستیطانی؛ ولسوف استمر فی هذه المفاوضات ثلاثة أشهر، توصُّلاً إلى حلِّ مشکلة الحدود؛ لکنِّی أتمنى علیکم، فی المقابل، أن تعودوا وتتراجعوا عن تقدیم تلک الضمانات والحوافز إلى حکومة نتنیاهو!
ألم یکن الشرط القدیم لنتنیاهو، والذی "تجرَّأ" الفلسطینیون "و"لجنة مبادرة السلام العربیة"" على رفض تلبیته، والامتثال له، هو أنْ تبدأ، أو تستأنف، المفاوضات المباشرة، من غیر أن تلتزم حکومته، قولاً وفعلاً، وقف أو تجمید النشاط الاستیطانی؟! وها هم الفلسطینیون، وبحسب فحوى هذه الرسالة الافتراضیة، یلبُّونه، ویمتثلون له.
ولکن، هل یکتفی نتنیاهو الآن بهذا التنازل الفلسطینی "والعربی" على ضخامته؟
کلاَّ، لا یقبل، ولن یقبل؛ وإنِّی أفْتَرِض أنْ یبعث رسالة مضادة إلى الرئیس أوباما یبلغ إلیه فیها أنَّ حکومته لن تعود إلى طاولة المفاوضات المباشرة إلاَّ بهذه الضمانات والحوافز، فما کان نصراً لها من قبل "أی قبول الفلسطینیین شرطها القدیم" هو الآن هزیمة لها؛ وهی لن تقبل "الهزیمة" وفی متناول یدیها نصر أعظم وأجل!
لقد قَبِلت إدارة الرئیس أوباما أنْ تفهم "المعانی الأمنیة" لتجمید النشاط الاستیطانی، ثلاثة أشهر، فی الضفة الغربیة، مع الاستمرار فیه، ومضاعفته، فی القدس الشرقیة، فی الوقت نفسه، کما أرادت لها حکومة نتنیاهو أن تفهمها؛ فهذا التجمید الجزئی "لکونه لا یشمل القدس الشرقیة أیضاً" والمؤقَّت "لکونه یدوم ویستمر ثلاثة أشهر غیر قابلة للتمدید" یمکن أن یتسبَّب بإضعاف الأمن القومی لإسرائیل؛ وینبغی للولایات المتحدة، من ثمَّ، أنْ تمنع حدوث هذا الإضعاف من خلال تزویدها الجیش الإسرائیلی عشرین طائرة مقاتلة متطوِّرة من طراز "F – 35"، قیمتها ثلاثة بلایین دولار، وتسعى إسرائیل فی أنْ تحصل علیها مجاناً، أو بثمن بخس، أو بما یکسبها صفة "المشتری الرابح أکثر من البائع".
وینبغی للفلسطینیین أنْ یصفِّقوا لإدارة الرئیس أوباما استحساناً وتأییداً؛ فهی ضحَّت بهذا الغالی والنفیس "تلک الطائرات، مع عشرین بلیون دولار من المساعدات" فی سبیل أنْ تجمِّد لهم الاستیطان فی الضفة الغربیة "فحسب" ثلاثة أشهر "فحسب، وغیر قابلة للتمدید"!
وعلى هذا "الثمن "الأمنی"" قِسْ؛ فهل لکم أن تتخیَّلوا الثمن الذی ستدفعه الولایات المتحدة لإسرائیل فی مقابل تجمید مماثل للنشاط الاستیطانی فی القدس الشرقیة، أو فی مقابل الوقف التام للنشاط الاستیطانی حتى انتهاء المفاوضات المباشرة، أو فی مقابل إزالة المستوطنات؟!
إنَّکم یکفی أن تتخیَّلوا أثمان تلک الأشیاء، وغیرها، حتى تتوصَّلوا إلى استنتاج مؤدَّاه أنْ لیس للولایات المتحدة من مصلحة حقیقیة فی جعل "حلِّ الدولتین" حقیقة واقعة، فإنَّ استمرار النزاع أرخص لها، وأرخص کثیراً، من إنهائه!
ومن خلال قبولها استثناء القدس الشرقیة من قرار التجمید للنشاط الاستیطانی "ثلاثة أشهر" أقرَّت إدارة الرئیس أوباما واعترفت "داعیةً الفلسطینیین إلى أن یحذوا حذوها" بأنَّ القدس الشرقیة لیست بمستوطنة حتى تُعامَل على قدم المساواة مع المستوطنات فی الضفة الغربیة، وبأنَّ احتلال إسرائیل لها فی حرب حزیران 1967 لا یعنی، ویجب ألاَّ یعنی، أنَّها لیست بجزء لا یتجزأ من عاصمتها الأبدیة.
والفلسطینیون یکفی أن یقبلوا ما قبلته إدارة الرئیس أوباما فی شأن النشاط الاستیطانی فی القدس الشرقیة حتى یعترفوا أمام العالم بأنَّ بقاء "عاصمتهم" نهباً للاستیطان لیس بعقبة "یصعب تخطیها" فی طریق مفاوضات السلام، أو فی طریق السلام نفسه.
وبعد انقضاء الأشهر الثلاثة من تجمید النشاط الاستیطانی فی الضفة الغربیة تکون إسرائیل قد اکتسبت حقاً "تعترف به الولایات المتحدة" فی أن تستأنف النشاط الاستیطانی حیث جُمِّد، وفی أن تستمر فیه إلى الأبد؛ فالرئیس أوباما تعهَّد لنتنیاهو بأنْ لا یدعو إسرائیل إلى تجمید آخر لنشاطها الاستیطانی فی الضفة الغربیة.
قد تنقضی أشهر التجمید الثلاثة من غیر أن یتوصَّل المتفاوضون إلى حلٍّ لمشکلة الحدود؛ فإذا حدث ذلک فإنَّ على المفاوِض الفلسطینی أنْ یستمر فی المفاوضات المباشرة، إذا ما أراد الاستمرار؛ لکنَّ علیه، هذه المرَّة، أن یستمر فیها فی مناخ استئناف النشاط الاستیطانی فی الضفة الغربیة، واستمراره فی القدس الشرقیة.
أمَّا إذا استصعب المفاوِض الفلسطینی ابتلاع هذه السکین الحادة والکبیرة، وقنط من رحمة "الوسیط" و"الراعی"، وکَفَرَ بکل تفاوض مع إسرائیل، وقرَّر، من ثمَّ، أن ییمِّم وجهه شطر الأمم المتحدة، وشطر مجلس الأمن الدولی على وجه الخصوص، فإنَّ علیه أنْ یَعْلَم أنَّ الولایات المتحدة ستکون له بالمرصاد، وستتحوَّل من "وسیط" و"راعٍ" إلى ما یشبه "قاطع الطریق"، یُحْبِط بـ"الفیتو"، وبغیره، کل مسعى فلسطینی "وعربی" لإقناع الأمم المتحدة بأنَّ ساعة انتصارها لوجهة نظرها فی أُسُس وسُبُل الحل النهائی للمشکلة القومیة للشعب الفلسطینی قد أزِفَت؛ وإنَّ علیه "أی على المفاوِض الفلسطینی" أیضاً أن یتعلَّم، من تجربته فی الاستغاثة بالأمم المتحدة، أنْ لا طریق إلى هذا الحل إلاَّ المفاوضات المباشِرة مع إسرائیل.
وحتى لا نظل أسرى المفاضلة بین الخیارین، الأسوأ والسیئ، نقول بقی خیار ثالث، یقع فی منزلة بین هاتین المنزلتین، أی بین الخیار الأسوأ والخیار السیئ. وقوام هذا الخیار الثالث "الذی یظل منتمیاً إلى جنس الخیارات السیئة" أنْ تقدِّم إدارة الرئیس أوباما ضمانات مکتوبة إلى الفلسطینیین أیضاً، وأنْ یکون فی مقدَّمها أنْ تُعْلِن هذه الإدارة أنَّ قبولها استثناء القدس الشرقیة من قرار تجمید النشاط الاستیطانی ثلاثة أشهر لا یعنی، ویجب ألاَّ یعنی، أنَّها تعترف بشرعیة هذا النشاط فی هذا الجزء من الأراضی الفلسطینیة التی تحتلها إسرائیل، وأنْ تلتزم دعم وتأیید المساعی الفلسطینیة لدى الأمم المتحدة ومجلس الأمن إذا ما انتهت سنة المفاوضات المباشرة من غیر اتِّفاق على حلٍّ نهائی للنزاع بین إسرائیل والفلسطینیین، فتعهدها بدعم إسرائیل فی الأمم المتحدة ومجلس الأمن یجب ألاَّ یستمر إلى ما بعد انتهاء تلک السنة.
هذه الضمانات یجب أن تکون مکتوبة وخطِّیة؛ فالرئیس عباس تحدَّث من قبل عن تعهد إدارة الرئیس أوباما له بدعم الفلسطینیین إذا لجأوا إلى مجلس الأمن؛ وها هی إدارة الرئیس أوباما تؤکِّد عبر مواقفها المعلنة أنَّها لم تتعهد له بأی شیء من هذا القبیل، وأنَّها تقف، من حیث المبدأ، ضد هذا التعهد.
ن/25
الصفحات الاجتماعية
instagram telegram twiter RSS